كتب وسام إسماعيل
فشلت 8 جولات احتضنتها فيينا منذ أكثر من عام في إعادة الأطراف المتفاوضة إلى الالتزام بخطة العمل المشتركة لعام 2015. جاءت الجولة الأخيرة في قطر لتؤكّد أن المسافة الفاصلة بين المتفاوضين لا تتعلّق بإمكانية توصّل إيران إلى تقنية نووية حربية حصراً، إنما ترتبط ببحث أميركي عن كيفية تطويع الدور الإيراني في الساحة الدولية، عبر الحفاظ على الأدوات الضرورية لابتزازه إذا دعت الحاجة.
وإذا كانت دوائر الإعلام العالمي ركزت على أهمية انعقاد هذه الجولة في العاصمة القطرية لأسباب تتعلق بعلاقاتها المميزة مع كلا الطرفين الأميركي والإيراني، إضافةً إلى التذكير بالدور الفاعل الذي أنتج مفاوضات مباشرة بين الولايات المتحدة الأميركية و”طالبان”، فإن واقع الإشكاليات التي تحكم العلاقات الأميركية الإيرانية تفترض قراءة معمّقة لا تستند إلى حيثيات شكلية، ويمكن من خلالها حل معضلة ولدت يوم انتصار الثورة الإسلامية في إيران.
وإذا كانت التصريحات الإعلامية للمعنيين بملف المفاوضات قد ركزت على ضرورة الالتزام ببنود خطة العمل المشتركة، بما يضمن سلمية البرنامج النووي الإيراني، وفق مراقبة مشددة من الوكالة الدولية للطاقة الذرية، في مقابل رفع الحظر عن الجمهورية الإسلامية ضمن بنود الخطة، فإن ما صدر عن الجانب الإيراني، قبل الذهاب إلى الدوحة، أوحى بأهداف تفاوضية خارج السياق المذكور آنفاً.
ومن خلال إصرار الجانب الإيراني على أجندة مفاوضات تتضمن رفعاً شاملاً للعقوبات، مع ضمانات جدية بعدم الانسحاب الأميركي من الاتفاق، كما فعل دونالد ترامب، ومطلب الجانب الأميركي، من جهة أخرى، بالعودة إلى الالتزام بخطة العمل المشتركة، من دون المطالبة بشروط أخرى، يمكن الاستنتاج أنَّ المفاوضات في قطر لم تكن مرتبطة بالملف النووي، إنما بترتيبات مسار من العلاقات المستقبلية بين مشروعين متناقضين منذ أكثر من 40 عاماً.
التوافق على التفاوض في الدوحة، بعد مسار طويل من اللقاءات في فيينا، إضافةً إلى ترتيب الإطار التفاوضي وفق وساطة جوزيف بوريل وإنريكي مورا، والتخلّي عن الأربعة زائد واحد، يؤكد أنّ النقاط التي طرحت على جدول أعمال الدوحة لم تكن مرتبطة بتعقيدات نووية، فالتفاوض على الضمانات المرتبطة برفع الحظر، تتخطى الإطار الذي سعت إليه الأطراف في فيينا، ولا يمكن تسويقه كمطلب يمكن للقوى الأخرى ضمانه، فالمطلب الإيراني يتعلق مباشرة بسلوك الإدارة الأميركية والدول الأخرى، بما يخدم مصالحها.
وفي هذا الإطار، برزت إمكانية عدم التوصّل إلى اتفاق يعيد الطرفين إلى خطة العمل المشتركة في القريب العاجل، إذ تتحكّم في استراتيجية التفاوض لديهما مجموعة من العوامل التي تدفع كلاً منهما إلى التصلب خلف موقف لا يمكن بسهولة التخلّي عنه.
إنّ البحث عن موقع وسط يؤمن الوصول إلى اتفاق يفترض إيماناً بأن المزايا التي يمكن تحقيقها من خلال الاتفاق تفوق ما تمتلكه الدول في حال عدم اتفاقها. لذلك، إنَّ جملة المعطيات المتوافرة لدى الطرفين تُفقدهما هذا الإيمان، وبالتالي تجعل إمكانية الوصول إلى اتفاق سريع أمراً صعب المنال.
الجمهورية الإسلامية التي استطاعت الالتفاف على الحظر الأميركي الذي تعقد وتعمّق بعد انسحاب دونالد ترامب من الاتفاق النووي قد تعتبر أيّ اتفاق لا يقدم لها الفائدة المطلقة، وخصوصاً على المستوى الاقتصادي، سيكون دون المأمول، فسياسات الحظر الشامل التي اتبعها دونالد ترامب أرخت بثقلها على الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ودفعتها إلى بذل جهود مضنية، حتى نجحت في تخطيها.
لذلك، يُفترض بأي اتفاق أن يقدم من المزايا ما يحفظ لتلك الجهود قيمتها. إضافة إلى ذلك، وعلى اعتبار أن أيّ اتفاق سيرسم شكل العلاقات الخارجية للجمهورية الإسلامية لمدى غير محدّد، فإنّ المستوى السياسي في الإدارة الإيرانية سيتمسك بمعادلة كلّ شيء أو لا شيء، فالمسار الطويل للتجاذبات الإيرانية الإيرانية يجعل الاتفاق النووي، وفق خطة العمل المشتركة عام 2015، محدوداً من حيث التأثير والنتائج المأمولة إيرانياً من أي تسوية. لذلك، إن خيار التصلب خلف جملة من المطالب التي تعبر عن أسس الدولة العميقة للجمهورية الإيرانية سيفرض نفسه بقوة في أي جولة تفاوض.
إضافةً إلى ذلك، ساهمت العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، بتداعياتها الجيوستراتيجية، إضافة إلى ضعف رد الفعل الغربي عليها، في التخفيف من الحماسة الإيرانية لتوقيع اتفاق لا يقدم أقصى ما يمكن من مزايا؛ فالانقسام العمودي الحاد حول أوكرانيا دفع باتجاه التخفيف من أثر الحظر في الجمهورية الإسلامية، إذ فقدت الأحادية الأميركية هيبتها، وأدت أزمة الطاقة العالمية، بسبب محاولة حظر وصول النفط والغاز الروسي إلى أوروبا، إلى انفتاح قسري على مصادر الطاقة الإيرانية، وبالتالي، إنّ الهدف الإيراني الأساسي من الاتفاق، والذي يتمثل بفتح الأسواق العالمية أمام مصادر الطاقة الإيرانية، أصبح سهل المنال، من دون أي حاجة إلى تنازل أو مساومة.
في المقلب الآخر، لا يمكن وصف الرؤية الأميركية بالأقل تعقيداً، إذ إن الموقف السلبي من أي اتفاق مع إيران ما زال طاغياً لدى البيروقراطية الحاكمة. ومن خلال الرؤية الإيرانية نفسها، يسود اقتناع لدى الساسة الأميركيين بأن أي اتفاق مع الجمهورية الإسلامية سيكون حاسماً في تأثيره في النفوذ الأميركي في المنطقة، إضافة إلى تأثيره في نمطية تعاطي القوى الأخرى مع المصالح الأميركية.
وانطلاقاً من رفض طهران أيّ محاولة تستهدف إدراج البرنامج الصاروخي البالستي أو علاقاتها في الإقليم على جدول أعمال أي لقاء تفاوضي، لم تنجح الإدارة الأميركية في انتزاع ما يمكن تسويقه في الداخل الأميركي ولدى الحلفاء على أنه تطويع لدولة تمردت على الطاعة الأميركية منذ أكثر من 40 عاماً.
وعلى الرغم من اليقين الأميركي بأن اتفاقاً مع الجمهورية الإسلامية أصبح ضرورياً لكبح جماح القدرات النووية الإيرانية، تضيف الانتخابات النصفية الأميركية المقررة نهاية العام الحالي، إضافة إلى قرب إطلاق الحملات الانتخابية الرئاسية، مزيداً من التعقيد على عملية اتخاذ قرار كهذا.
إضافة إلى ذلك، ظهرت إشكالية جديدة تتعلّق بسعي القوى الإقليمية، كالكيان الإسرائيلي والمملكة العربية السعودية وغيرهما، إلى إرساء منظومات أمن جماعي إقليمي مستقلة عن الرعاية الغربية تضمن من خلالها ما تعتبره مصالح استراتيجية وحيوية.
وبناءً عليه، لم تكفّ الرمزية التي أُسندت إلى الدوحة في دفع الطرفين الأميركي والإيراني إلى تذليل العقبات المعرقلة للتوقيع. على الرغم من التصريحات المتبادلة، والمعبرة عن الرغبة في العودة إلى خطة العمل المشتركة، تظهر الإشارات العميقة الصادرة عن دوائر صنع القرار في كلا البلدين أنّ الهدف الأساسي من التفاوض يتخطى العودة إلى اتفاق يراقب مسار إيران النووي في مقابل رفع بعض القيود المعرقلة لإمكانية انتفاع الجمهورية الإسلامية من مزايا اقتصادية محددة، إلى ما يمكن توصيفه بمحاولة لترتيب العلاقات الإقليمية والدولية وفق مبدأ احترام السيادة الإيرانية المطلقة.
Discussion about this post