إن أعظم ما ينتجه العقل الإنساني هي الفلسفة، وكان أفلاطون قد جعل الفلاسفة هم الطبقة الأولى والحاكمة في مدينته الفاضلة التي كان يحلم بها، ونظَّر لها في كتابه “الجمهورية”.
والفلسفات منها ما هو مفيد، ومنها ما هو ضار بالبشرية، ومنها الأخلاقية، ومنها غير الأخلاقية، ومنها المؤمنة، ومنها الملحدة.
والفلسفات، مهما علا شأنها فلن تكون كاملة شاملة محيطة قادرة على حل مشاكل البشر.
والفلاسفة لا يقدرون على تطبيق نظرياتهم ورؤاهم حتى يأتي ذوو الملك والسلطان والرئاسة فيطبقون تلك الفلسفات.
وقد ألقى الضوء على تلك العلاقة بين الفلسفة والأيديولوجيا كمال اللبواني في مقالة له بعنوان: “أسئلة الليبرالية.. الفلسفة والأيديولوجية”؛ حيث يقول “ما يهمنا في هذا المقال هو العلاقة بين الفكر والسلوك.. الفكر كتعبير معقَّد عن الخبرة، والفكر السياسي (خصوصًا) كحصيلة للخبرة في الحياة الاجتماعية الاقتصادية، وعلاقته بالسلوك السياسي الموجَّه نحو تغيير أو إعادة إنتاج شروط هذه الحياة؛ فالبشر يعيشون ويعانون ويدركون ويكوِّنون معارف وخبرات يتم تلخيصها وتداولها على شكل أفكار، ثم من هذا العالم الذهني المثالي ينطلقون نحو السلوك الذي يخدم مصالحهم وإرادتهم.
وهكذا يصبح الذهن الاجتماعي مكان تجمُّع الأفكار العامة، وتأطير أنماط الرأي العام، لكن تنظيم محتوى هذا الذهن يتم عبر الفلسفة؛ فالفلسفة هي الموقف الوظيفي من عالم مختلط وغير منظم من المعارف والأفكار والقيم والأحكام
ويضيف: “الفلسفة تنظم عالم المفكر في سياق عقلي منطقي متماسك، وتضعه في قالب لغوي منضبط؛ لتسهِّل اختيار أنماط السلوك بناء على معرفة ودراية وترابط معقول بين المعرفة والغاية.
وبذلك تسهِّل الفلسفة عملية بلورة وإنتاج أيديولوجيا تتوجه نحو الواقع للتأثير فيه، فتكون الأيديولوجية عندها تعبيرًا عن الانتقال من عالم الفلسفة وقبله الفكر والذهن، نحو السلوك والبرنامج التنفيذي الذي رغم كونه ينطلق من عالم الفكر لكنه يصل به إلى عالم التنفيذ، فيحسب الإمكانات وينظم الجهود ويضع البرامج الكفيلة بالتأثير المادي على وقائع الحياة وشروطها.
الأيديولوجيات إن حدث لها تطوير أو تعديل، أو فشلت بعد تطبيقها تبقى فلسفة كما كانت، وتعود إلى بطون الكتب
كما أن الأيديولوجية من جهة ثانية هي -أيضًا- مشروع يتم بواسطته الانتقال من الفردي نحو الجماعي، من الخاص نحو العام؛ لأنها تقوم بصياغة المصالح الفردية المختلفة في مشروع عام يحققها جميعًا ومعًا”
ويستطرد: “إن ساحة صراع الأيديولوجيات هي الفلسفة، ونقد الأيديولوجيا يتم بالفلسفة، وتطورها يتم بتطور الفلسفة.. وكل نقد ونقاش سياسي هو جهد فلسفي يهدف لإعادة تنظيم الأفكار؛ لتنتج نمطًا معينًا من السلوك, يحقق غاية مبطنة مسبقًا وموقفًا محددًا”
فهو يرى أن الفلسفة هي الفكر النظري، والأيديولوجيا هي التطبيق العملي، أو كما سماها: العلاقة بين الفكر والسلوك.
فروق ومقارنة
ويمكن القول بأن الأيديولوجيات هي فلسفات كُتب لها الذيوع والانتشار والتطبيق.
فالأيديولوجيات الكبرى كالاشتراكية هي فلسفات أسهم فيها فلاسفة مثل كارل ماركس.
والفلسفات قد تظل حبيسة الكتب، ولا يعرفها إلا أقل القليل من نخبة أهل العلم والفكر والنظر.
أما الأيديولوجيات فيعرفها العالم والعامي على درجات متفاوتة من المعرفة.
والفلسفة واضحة في تعريفها ومفهومها على عكس الأيديولوجيا التي اختُلف في تعريفها ومفهومها.
والفلسفات أعم من الأيديولوجيات ومجالاتها أوسع وأرحب.
والأيديولوجيات إن حدث لها تطوير أو تعديل، أو فشلت بعد تطبيقها تبقى فلسفة كما كانت، وتعود إلى بطون الكتب، لكنها تبقى في ذاكرة التاريخ؛ فيتركها الناس، أو يزيلها الساسة والرؤساء، فلا يبقى لها أثر في الحياة والواقع، لكنها لا تنتهي تمامًا من العلم والبحث والنظر والجدال.
وقد قارن أحد الباحثين بين الأيديولوجيا الشمولية والفلسفة فقال: بينما “الأيديولوجيا تأكيد مغرور صاخب لعقيدة قطعية معصومة، فإن الفلسفة بحث متواضع ومتأنٍّ وصامت عن الحقيقة.
إن للأيديولوجيا سلطانًا مرعبًا في تجميع البشر؛ إلا أنها لا توحِّدهم، بل تحشدهم وتكوِّمهم وتكدِّسهم.
ليست المسألةُ مسألةَ رابطة بين أناس أحرار، بل مسألةُ قطيع من البشر المُستَلَبين.
فاعتناق الأيديولوجيا يتم عبر تدريب جماعي يَحرِم الإنسانَ من كلِّ استقلالية فكرية.
على العكس تمامًا من ذلك، ينبثق البحث الفلسفي من سعي شخصي يستنفر استنفارًا كليًّا مسؤوليةَ الفرد الباحث عن إنسانيته.
فالالتزام الفلسفي هو دومًا رغبةٌ في الحرية تؤدي إلى قطيعة، وهذه القطيعة مخاطرة»
Discussion about this post