جولات الوسيط الأميركي هوكشتاين المكوكية ما بين كيان الاحتلال ولبنان للحصول على تنازلات لبنانية في الحقوق النفطية تعيدنا بالذاكرة إلى سبعينات القرن الماضي وما قام به وزير الخارجية الأميركي آنذاك من جولات مكوكية للحصول على تنازلات سورية في حقوقها السيادية على أرضها تحت مسمى “فصل القوات” إذ كان لا بد حينها من إجراء المفاوضات عبر الجانب الأميركي لإجراء ترتيب فصل القوات المتحاربة في الجولان بعد حرب الاستنزاف التي أثقلت كاهل جيش الاحتلال رغم ما قدم له من معونات عسكرية أميركية عبر جسر جوي مفتوح من الولايات المتحدة التي كانت راغبة بالقيام بدور الوسيط بين الأطراف لتحسين صورتها أمام الرأي العام العربي بعامة والسوري بخاصة آخذة بعين الاعتبار الموقف الدولي خاصة وأن الاتحاد السوفييتي حينها كان يلعب دوراً بارزاً على الساحة الدولية يُحسب له ألف حساب.
وها نحن اليوم في عجلة التاريخ الذي يعيد نفسه أمام لعب دور بارز لروسيا “وريثة الاتحاد السوفييتي” على الساحة الدولية بات يُحسب له ألف حساب، في مقابل محاولة أميركية لتحسين صورتها أمام الرأي العام العالمي بشكل عام واللبناني بشكل خاص، ما دفعها إلى لعب دور الوسيط مجدداً بين الأطراف، ليبدو أن هوكشتاين نسخة معدّلة من كيسنجر في المنطقة عبر جولاته المكوكية ما بين واشنطن و”تل أبيب” وبيروت ومحاولة أميركية لاستحصال أهداف “تفاوضية” تستثمرها في لعبتها الدولية ومحاولة “إسرائيلية” لتحقيق نصر “تفاوضي” بعد فشلها الميداني أمام قوة وصمود المقاومة اللبنانية وتغيير الأخيرة لقواعد الإشتباك ووضع قواعد جديدة تزيد من فائض القوة وتحفظ الحق اللبناني ليحسب العدو الحساب ألف مرة قبل أن يقدم على أي خطوة تصعيدية بل وأكثر من ذلك إن قيامه بالتفاوض عبر وسيط هو نتيجة لنصر المقاومة ومعرفة العدو المسبقة بأن أي محاولة “إسرائيلية” لقضم أي شبر من الأراضي اللبنانية سواء البرية أو البحرية فإن الرد سيكون مزلزلاً للإحتلال وقد كانت حرب تموز 2006 دليل قاطع على قوة المقاومة بالقول والفعل وهزيمة للاحتلال مستكملة لانسحابه المذل من الجنوب اللبناني عام 2000 وفراره من بيروت عام 1982 وهو ينادي على المكبرات “يا أهالي بيروت لا تطلقوا النار، نحن راحلون”.. بالتالي يعلم العدو جيداً أن ما يمتلكه لبنان من فائض قوة متمثل بالمقاومة لا يمكن تخطي شروطه ولا حروفه التي تزلزل الكيان ويكون وقعها كالرصاص في آذانهم..
وفي العودة إلى مفاوضات “فصل القوات” وفق ما أعلنته وزارة الدفاع السورية، كان الفريق المفاوض السوري برئاسة الرئيس الراحل حافظ الأسد، ورئيس الجانب الأميركي هنري كيسنجر وزير الخارجية الأميركي، ويشير العماد مصطفى طلاس في مذكراته حول تلك المفاوضات «أريد أن أعترف للقارئ بما كان يدور في خلدي ذلك الحين، فلقد خشيت على الرئيس الأسد من مناورات هنري كيسنجر وأساليبه الثعلبية ومكره اليهودي ثم القاعدة التي ينطلق منها وهي كونه وزيراً للخارجية في دولة عظمى، ثم تلك الهالة الإعلامية التي واكبت تعيينه مستشاراً للأمن القومي ثم وزيراً للخارجية. وفي هذا المجال يجب ألا ننسى أبداً أن الصهيونية العالمية كانت وراء كل ذلك. ولكن الله كان مع الرئيس الأسد فقد أدار المفاوضات بشكل لامثيل له إطلاقاً، وكان يضع كيسنجر في زاوية من الصعب الخروج منها إلا بشق الأنفس”.
وكان الرئيس الأسد قد طلب حينها من العماد مصطفى أن يحضر بالتعاون مع هيئة الأركان العامة ثلاث خرائط عسكرية مقياسها 50000/1 محمّل عليها ثلاثة احتمالات لفصل القوات السورية ـ الإسرائيلية في هضبة الجولان بشكل يضمن السيطرة السورية الكاملة على الأرض، مع الأخذ بعين الاعتبار أهمية النقاط والهيئات الحاكمة ومحاور التحرك. وقدمت الخرائط المطلوبة محملاً عليها الحلول المقترحة.
وبعد مناقشات بين الطرفين أظهر فيها الرئيس الراحل حافظ الأسد حنكة كبيرة، تم التوقيع على مذكرة اتفاق فصل القوات الذي يقضي بانسحاب العدو الإسرائيلي إلى خلف مدينة القنيطرة (تل أبو الندى) وأن ينسحب كذلك من مثلث الرفيد في القطاع الجنوبي. وحاول كيسنجر أن يتضمن نص الاتفاق على مادة فحواها أن تقوم القوات السورية بمنع العمل الفدائي الفلسطيني انطلاقاً من الجولان. وكان موقف الرئيس الأسد حاسماً في هذا المجال وقال لكيسنجر:«إننا لا يمكن أبداً أن نضع قواتنا لحماية الأمن الإسرائيلي».
كما تذكر الدكتورة بثينة شعبان في كتاب “حافة الهاوية – وثيقة وطن: الرواية التاريخية لمباحثات حافظ الأسد وهنري كيسنجر” أنه في إحدى الجلسات التفاوضية حول مؤتمر “السلام” الذي كان من المقرر انعقاده في جنيف آنذاك، وبعد جدال بين القائد الراحل وكيسنجر حتى وصل إلى طريق مسدود حيث أصرّ الأسد على ضرورة ترسيم خطوط فصل القوات مع كيسنجر قبل بدء المؤتمر، كما أن أسئلته التي طرحها على كيسنجر كانت جوهرية حول مؤتمر جنيف المقترح وهي: “هل توافق الولايات المتحدة على أننا لا نستطيع التخلي عن أي جزء من أراضينا المحتلة وأنه لا بدّ من استعادتها كاملة وهل يعتقد الدكتور كيسنجر أن من الممكن تحقيق السلام من دون حل القضايا الأساسية للفلسطينيين؟ هل سنذهب إلى مؤتمر السلام لنضع برنامجاً لتحقيق هاتين النقطتين اللتين ذكرتهما أولاً أم لنغرق فقط في جزئيات قد تستغرق وقتاً طويلاً من غير التوصل إلى حل شامل؟”. ومع انتهاء المرحلة الأولى وتحقيق انسحاب جزئي للقوات “الإسرائيلية” من مرتفعات الجولان، رفض كيسنجر إلزام نفسه بموقف حيال مسألة الانسحاب الكامل بالرغم من أنه كان مستعداً لمناقشة أمر الأراضي السورية المحتلة كاملة مع الأسد لكنه لا يضمن بقاء ذلك سراً وذلك سيؤدي إلى آثار كارثية في العلاقات الأميركية – “الإسرائيلية”.
وفق ما ذكرته شعبان في كتابها، وقال كيسنجر بتذمر حينها: “إذا انهار المؤتمر أو لم يُعقد إطلاقاً، فسيجعل ذلك منه أضحوكة للمجتمع الدولي”. قاطعه الأسد قائلاً: “هذه ليست مسألة شخصية يا دكتور كيسنجر، إن الحرب والسلم والاحتلال هي أمور يجب التعامل معها بوضوح مطلق، وإلا، فمن شأن أي سوء فهم أن يؤدي إلى كارثة”.
وبالتالي على “اللبنانيين” الذين يضغطون على المفاوض اللبناني لتقديم تنازلات والقبول بالعروض “الإسرائيلية” أن يعلموا جيداً بأنّ الحرب والسلم والاحتلال هي أمور يجب التعامل معها بوضوح مطلق.
وتجدر الإشارة أيضاً، إلى لقاء الرئيس الراحل حافظ الأسد بالرئيس بيل كلينتون في جنيف في 26 آذار عام 2000، حيث وضع كلينتون آنذاك خريطة على الطاولة وأشار إلى أنّ “الإسرائيليين مستعدّون لإعادة 85% من الجولان لسورية، والتعويض عن الـ 15% الباقية من الأرض الصخرية الجرداء بعيداً عن بحيرة طبرية”.
تماماً كما وضع اليوم هوكشتاين العرض بأنّ “الإسرائيليين مستعدون لإعطاء لبنان كامل حقل قانا مقابل حصول تل أبيب على مساحة شمال خط 23″، وكأن شمال خط 23 ملكية “إسرائيلية” و”قانا” منحة “إسرائيلية” للشعب اللبناني، ناهيك عن أن كامل الأراضي الفلسطينية المحتلة من قِبل الكيان هي ملكية فلسطينية وبصرف النظر عن أن المفاوض الرئيسي الذي له الحق بالتفاوض هو الفلسطيني مالك الحق والأرض، إنما هذا العرض “الإسرائيلي” بحكم الأمر الواقع، يعيد إلى مسامعنا ما قاله الرئيس الأسد عن الخريطة التي وضعها كلينتون أمامه قائلاً للمترجمة حينها: “دعيهم يبعدوا هذه الخريطة من أمامي”. وتابع بالقول: “انتهى الاجتماع، لا حلّ أبداً دون مياه طبرية، أنا كنت أضع رجليّ في تلك المياه، وهي حقّ للشعب السوري”.
وبعد أن انتهى الاجتماع العاصف بسرعة، ورفض الرئيس الأسد الدخول في أيّ نقاش حول العرض المقدّم، طلبت وزيرة الخارجية الأميركية آنذاك أولبرايت أن ترى الرئيس الأسد بمفردها، وأنّ هناك شيئاً مهماً تريد أن تقوله له.
بدأت اللقاء بالقول: “سيادة الرئيس تعرفون مدى تقديرنا لكم، ولكنني أودّ أن أقول شيئاً هاماً أرجو أن تفكّروا به. قد نكون نحن آخر إدارة أميركية تعرض عليكم 85% من الجولان، وقد تكون هذه فرصتكم الأخيرة لتحقيق هذا الإنجاز المهمّ”.
ابتسم الرئيس الأسد ابتسامة العارف، وقال لها: “أنا لم أقل أنني سوف أتمكن من تحرير الجولان خلال حياتي، ولكنني ودون شكّ لن أقدّم صكّ تنازل عن ذرّة من تراب الجولان، وكلّي ثقة أنّ الأجيال السورية القادمة سوف تقوم بتحرير الجولان من الاحتلال”.
إنّ عودتنا إلى تلك الحقبة هو للاستدلال على أنّ “الإسرائيلي” الماكر لا يملك القوة في المفاوضات إنما يستثمر في الوقت، أما القوة فمن يمتلكها هم أصحاب الأرض وكما كانت سورية تمتلك القوة في المفاوضات حتى أنها لم تتنازل عن ميليمترات من حقوقها فإنّ المفاوض اللبناني كذلك يمتلك القوة والتي تتمثل بصك ملكيته للأرض وما يقوم به “الإسرائيلي” هو استثمار بالوقت والظروف التي أثقلت كاهل المواطن اللبناني، وبالتالي فيحاول “الإسرائيلي” استحصال تنازلات من اللبناني في ظل تنشيط هذه المفاوضات في هذا الوقت تحديداً أو بالأحرى فإننا لن نبالغ إذا ما قلنا بأن “أدوات” العدو أوصلت الواقع اللبناني لهذه الحال عله يستحصل على تنازلات في حقوقه النفطية.
إنما يتوجب على المفاوض اللبناني أن يبقى متمسكاً بحقوقه ولا يتخلى عن ميليمترات منها وإن لم يحصل عليها اليوم فسيحصل عليها غداً وكما لم يتسطع كيسنجر تحقيق “انتصار” تفاوضي على حساب الحقوق السورية فإن هوكشتاين لن يستطيع تحقيق ذاك الانتصار على حساب الحقوق اللبنانية لإن معادلات الردع الاستراتيجية وضعت الخطوط الحمراء في الحقوق اللبنانية ولا يمكن تجاوزها والرسائل الأخيرة التي وجهتها المقاومة اللبنانية كانت شديدة القول وعظيمة الفعل فكان وقعها في أوساط العدو مُربكاً وبالتالي فإنّ حسم هذا الملف بات على توقيت المقاومة، وكما قال السيد حسن نصرالله “المقاومة تنتظر ما سينتج عن التفاوض وتقرّر الخطوة اللاحقة” …
*سماهر عبدو الخطيب- كاتبة صحافية وباحثة في العلاقات الدولية والدبلوماسية
Discussion about this post