ترددها ألسنة الناس خلف جدران البيوت وخارجها، حتى يكاد السامع لا يتوقف عن طلب المزيد.. ما هي الملالاة التعزية؟
والله القسم ما فارق البياضــــــــــي
لو شارعوني عند ألف قاضــــي
طلعت نُهدة شقت الجبل طـــــــــول
شاصير على الفتان شهيد ومقتول
شاموت عطش والماء قدور وادواح
من المليح نظرة تــــــرد الأرواح
إنه الحب الحقيقي عندما تأتي حكايته من أهله المغرمين الذين من الممكن أن يقدموا حياتهم فداء لذلك الحب.
وكما جاء في الأبيات الثلاثة السابقة والذي يبدأ فيها الحبيب معلناً القسم واليمين بأنه لن يترك ذلك المحبوب مهما حاول البعض إقصائه أو إبعاده عنه ولو حتى عن طريق إفتاء وأحكام القضاة، فإنه لن يستجيب لأي مطلب قضائي يجبره على ترك حبيبته وكيف يترك حبيبة وهو من أجلها قد أطلق نهدة كبيرة خُيلت من قوتها أنها قد قسمت الجبل وشقته طولاً.
ولهذا من الممكن أن يذهب شهيداً أو يسقط قتيلاً لأجل حبيبه.. وكما يرى العاشق في البيت الثالث أنه من شدة عطشه قد يسقط ميتاً رغم توفر الماء بكل الأواني، إلا أن عطشه هنا ليس عطش الظمأ والحاجة الماسة للماء، ولكنه عطش العشاق حيث يرى هذا العاشق أن نظرة واحدة ممن يعشقه قد تعيد له الكثير من صحته المتدهورة.
القصة السابقة، تردد أبياتها بلحن معين، وتعتبر من أغنيات الأدب الشعبي الريفي، وهو ما يعرف بفن الملالاة.
والملالاة “فن شعبي غنائي يمني، تتكون من عدة أبيات موزونة بنفس الوزن، وكل بيت له قافية مستقلة، تفصل عند الغناء بمقطع صوتي يأتي بعد كل بيت، ويقتصر ذلك المقطع الصوتي على حرف اللام، ولأجله سميت الملالة بهذا الاسم”.
موطن فن الملالاة وطقوسه
إذا كان لكل منطقة من مناطق اليمن منها أسلوب وتميز ولون وموال يختلف من منطقة إلى أخرى، فإننا نقف هنا مع المواويل التعزية المعروفة بـــ “الملالاة” التي تشتهر بها الكثير من بعض أرياف تعز، وإن كان التقارب حاضراً وسط الريف التعزي بكل مديرياته مع اختلاف طفيف باللحن والأداء.
وكذلك إذا ما نظرنا لأرياف مديريات الشمايتين والمواسط وجبل حبشي والمعافر وخدير وحيفان وجزء من مديريات المقاطرة والقبيطة بمحافظة لحج، فإننا سنجد التشابه متقارب جداً بين مواويل هذه المديريات وبالأخص الموال الذي يسمونه هناك (الملالاة) أي الذي يبدأ بترديد كلمة (الا ليليلي لي لي) ومن ثم يدخل الملالي بالبيت الذي يريد أن يقولها.
تعتبر الملالاة التعزية من الأدب الشعبي الذي أتى به القدامى بعد أن صاغوها بأبيات وقوافي شعرية متزنة وكل بيت من الأبيات الشعرية لم يأت بها قائلها بطريقة اعتباطية، ولكنه جاء بها بعد معاناة ونظرة واقعية لمشهد وقع أمام الشاعر نفسه أو تحسس عن قرب لحدث حقيقي لامسه بنفسه، لتنبض حينها عنده قريحة الشعر الواقعي مركباً أمامه بيت أو عدة أبيات شعرية تحاكي ذلك الحدث أو الواقعة.
والملالاة الشعبية تكون أكثر شجواً وشجناً من بعد الساعة العاشرة صباحاً إلى ما قبل الغروب، إذا لا يمكن أن تردد ليلاً.
وأكثر من يتلذذ بسماعها وترديدها، هم الرُعاة والفلاحين على قمم الجبال وفي الهضاب، أثناء الرعي والفلاحة في الأرض.
ولا تقتصر المُلالة على الرجال، فالمرأة تردد مُلالاتها وتتشوق أكثر لسماع لحنها وهي تختار لنفسها الأبيات الغنائية التي تناسب الظرف والزمن الذي تعيشه، وربما تبوح بشيء من معاناتها من خلال اختيار الكلمات المناسبة.
كما يردد موال الملالاة أيضاً عند المرأة عندما تريد أن تنوم طفلها الرضيع حيث تضعه في حضنها، وتحركه يمنة ويسرى حتى ينام الطفل وكأنه ينسجم مع موسيقى تنويمية هادئة.
الفن بلسان قومه
بالرغم من أن “الملالاة” لا تزال حية على ألسن النساء والرجال في الأوساط الشعبية، إلا أنه وكما يرى رئيس “البيت اليمني للموسيقى” الفنان فؤاد الشرجبي أن “هذا اللون الملالاة ما يزال مهملاً موسيقياً، على الرغم من أنه كانت هناك جهود وتوثيق لهذا الفن التراثي الشعبي إلا أنها لم تكتمل”.
وقد حرص كبار الفنانين اليمنين الأوائل من أبناء تعز كأيوب طارش وعبد الباسط عبسي، ومحمد مرشد ناجي، وغيرهم على استلهام ألحان لأغانيهم من موروث “الملالاة”، إلا أن النجاح ظل رهينة للجهود الفردية والمؤقتة.
وظل الوضع كما هو حتى السنوات العشر الأخيرة، حيث برزت موجة شبابية، في صورة مبادرات للتجديد والتنقيب عن هذا الفن الغنائي، وخصص هؤلاء صفحاتهم على مواقع التواصل لنقل تلك مقاطع وتسجيلات الملالاة وإعادتها إلى الواجهة للتعريف بها وحمايتها من الاندثار.
وكانت فرقة “مشاقر تعز” هي الأبرز والأشهر على الساحة الغنائية، وكان أول مقطع للفرقة تم تداوله في مواقع التواصل: “بكرغبش” للفنان أيوب طارش عبسي وحصل على شهرة خارج الحدود الجغرافية اليمنية إلى وصولاً إلى الدول العربية.
تقول هاجر عبد الرقيب نُعمان (23 سنة) وهي فنانة شابة تقوم بدور المؤدية الرئيسية في فرقة “مشاقر تعز”، ترجع سبب ردة الفعل الإيجابية في أول ظهورها، بأن المجتمع كان متعطشاً لذلك الفن، وتعبر عن حزنها لكون هذا الفن “مهمّشاً ومهملاً”، ولا يعرف الكثيرون من جيلها قيمته، واصفة إياه بــ “الكنز”.
ورغم الاهتمام الملحوظ في السنوات الأخيرة من القيادة الشابة، من بعض الفنانيين والفنانات ومتذوقي هذا الفن، إلا أنه لايزال الكثير من هذا الفن كنزاً مدفوناً، يتطلب تنقيباً أكثر، مع المحافظة على ما تم استخراجه.
Discussion about this post