الكتاب يتحدث عن تجربة فكرية حول حالة تشكل واقع المؤلف المستمر، عن حالة “التوّحد” المستمرة لمدى الحياة.
الكتاب: “لهذا السبب أقفز: المتوحد الذي حوّل الصمت إلى صوت”
تأليف: ناووكي هيغاشيدا؛ تقديم: ديفيد ميتشل؛
ترجمة” أنطوان باسيل.
الناشر: شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، ط1، 2021.
“لهذا السبب اقفز” كتاب لا يشبه أي كتاب تقرأه. كما يقوم ديفيد ميتشل في تقديمه، كتاب يدعو مؤلفه ناووكي الى تصور حياتكم وقد حُرمتم فيها ملكة النطق، فلا دردشة مع صديق لأنها فوق حدود القدرة.
الكتاب يتحدث عن تجربة فكرية حول حالة تشكل واقع المؤلف المستمر، عن حالة “التوّحد” المستمرة لمدى الحياة، أي البقاء لمعظم المرضى تحت التخدير والبقاء الإجباري في مستشفى للأمراض العقلية، حيث يضطر المتوّحدون إلى قضاء حياتهم كلها في تعلّم كيفية محاكاة الوظائف، كما يقول ميتشل.
ويضيف ميتشل أن التوحد ليس بالمشوار السهل على أهل المتوّحد أو على من يتولون العناية به. ورغم رهبة التوّحد هناك أمل حيث أن النظرية الطبية لم تعد تلقي اللوم على الزوجة في التسبب بالتوّحد للأم الثلاجة أي الأم الباردة العواطف، كما أننا لم نعد نعيش في مجتمع يعتقد أن المتوّحدين سحرة أو شياطين، ويتم التعامل معهم على هذا الأساس.
ويطرح ميتشل السؤال التالي: إلى أين اللجوء؟ ويجيب قائلاً: الى الكتب، هناك الكثير منها، لكنه يستدرك، هناك فجوة بين النظرية وبين ما يُكتشف على أرض الواقع ولا يمكن ردمها. هناك كتب المذكرات، لا تساعد أيضاً، وأخيراً هناك كتب السير الذاتية لمرضة التوّحد. لكن لم تساعد أمام التحديات، التي وقف ديفيد ميتشل عاجزاً أمامها ولا يزال جاهلاً بالأسباب.
ووصله كتاب “ناووكي هيغاشيدا”، الذي يقول ميتشل إن الكتاب وضعه المؤلف عام 1992، وكان تلميذاً في المرحلة المتوسطة، وكان التوّحد جعل قدرة المؤلف على التواصل الشفهي مستحيلاً، ولكنه نجح في تعلّم الحروف الخاصة بالمتوحدين، وشبكة الأبجدية اليابانية ونظيرتها الإنكليزية. ويقول ميتشل إن ناووكي كان يتواصل مع الآخرين من خلال التأشير إلى حروف هذه الشبكات لهجاء الكلمات الكاملة، فيقوم بعدها المساعد الجالس إلى جانبه بكتابتها، وأنه كان في وسع ناووكي الكتابة والتدوين مباشرة على الكومبيوتر عبر لوحة المفاتيح لكن طريقته الأولى أفضل، وأقل قدرة على الإلهاء وتساعده على التركيز. كان يكتب ويقوم بتأليف الشعر وكتابة الروايات ويتواصل مع الآخرين بهذه الطريقة.
لقد استطاع “ناووكي هيغاشيدا” عبر كتابه “لهذا السبب أقفز” أن يعطي الإجابات المنتظرة، وأن يشكل توّحده بالحد الأدنى تحدياً وتغييراً جذرياً للحياة.
يقول ميتشل إن الكتاب “رسالة إلهية رفعت الغشاوة عن أعيننا، شعرت للمرة الأولى وأنا أقرأه بأن أبننا يحدثنا، بكلمات ناووكي عما يدور في رأسه”.
الكتاب يذهب أبعد من توفير المعلومات، فيقدم الدليل على أن للتوّحد ذهناً على قدر نفسه من فضول عقلك وبراعته وتعقيده، كما عقلي وعقل أي كان، كما أن المتوّحد شخص أكثر ذكاءً، يقول ميتشل، ويضيف “ما فعله ناووكي هو محاولة إعادة إحياء الإيمان”.
كما أظهر ناووكي أن التوّحد يقدر كثيراً صحبة أناس آخرين، لكن صعوبة التواصل تجعله ينزوي، كما يحزن لتسببه بإرهاق الآخرين.
ويدعو ميتشل الى وجوب أن يعرف المرء أن المتوّحد يستوعب محيطه، وعلى المرء أن يزيد صبره ورغبته وتفهمه وتواصله عشرة أضعاف مع التوحد.
وجه ناووكي في تمهيد لكتابه دعوة للقيام برحلة في عالم التوّحد، بعد أن عرفنا أنه لم يعرف أنه مختلف إلا من خلال ما قاله الناس، وشرح عن عجزه عن القيام بالأشياء، ويقول إنه لو “نُظر ببساطة الى التوّحد على أنه نمط من أنماط الشخصية لأصبحت الأمور أسهل لنا، ولكنا أسعد مما نحنا الآن”.
ويحاول ناووكي في كتابه أن يقدم ويشرح طريقته، ما يدور في خلد المتوّحدين، ويأمل أن تؤدي قراءة الكتاب إلى بناء صداقات أمتن مع المتوحّدين.
يعتمد ناووكي أسلوب السؤال والجواب في الرحلة في العالم الغامض للمتوّحد، بلغة وأسلوب جذاب مشوق وبليغ، أجاب في السؤال عن كيفية كتابته للجمل من دون الحاجة لاستخدام الصوت، بل استخدام شبكة الحروف الأبجدية كطريقة للتواصل غير الصوتي واستخدام الحاسوب، وبذلك اكتسب طريقة جديدة للتفاعل مع الآخرين. وعن التكلم بصوت عالٍ، فيقول إنه رد فعل لاإرادي، وأنه هو نفسه ينزعج من ذلك، وأنه يريد أن يكون لطيفاً وهادئاً وساكناً. وحول الأسئلة المتكررة، يقول إن السبب هو النسيان، وإن التكرار بالنسبة للمتوّحد أشبه لعبة التقاط الكرة، التي فيها متعة كبيرة له، إنه لعب بالصوت والإيقاع. أما ترديد الأسئلة على السائل كالببغاء فهو للتنقيب عن “صورة الذاكرة” للإجابة، فإن حصّلتها كانت الإجابة. كما أن الحديث عملية صعبة، لأنه “قد يذهب بك الأمر قائلاً عكس ما أردتَ قوله” حسب ما كتب ناووكي.
وتتوالى الأسئلة والأجوبة التي قد تتبادر الى ذهن القارئ حول المتوّحد في حياته اليومية وعاداته وتصرفاته وقدراته فيستفيض بالشرح والإجابة، فيتحدث عن طريقة النطق والتفكير والحركة لدى المتوّحد، كما يغوص في أعماق مريض المتوّحد فيتحدث عن مشاعره تجاه الآخرين وأهله، ويلفت الى ناحية مهمة وهو حب الطبيعة والتمشي في الطبيعة لدى المتوحد.
كتبت ناووكي قصة تضيء على حياته، بأسلوب بليغ وشيق تجعل القارئ في شغف للانتقال الى السؤال التالي، وختم بقصة نرى الحروف والجمل صوراً تمر أمام أنظارنا كفيلم مميز الإخراج.
لقد كتب ناووكي عبر السؤال والجواب معاناة مريض التوحد في البيت والمجتمع، وختم بعبارة رائعة “عندما يشع نور الأمل على هذا العالم كلّه، عندها سيرتبط مستقبلنا بمستقبلكم، وهذا ما أريده أكثر من أي شيء”.
Discussion about this post