شارفت لوحة المشهد الجديد في منطقة غرب آسيا عموماً و لبنان خصوصاً على الإكتمال، بإنتظار لعبة إعادة التموضع، الأمر الذي يؤسس إلى عقد جديد مليء بالأحداث و التطورات تحت عنوان غرب آسيا الجديد، المصطلح الذي طغى على ما كان يسمى مشروع الشرق الأوسط الجديد، ضارباً عرض الحائط ما كان يسوّق له الأمريكي بكل أدواته، و أصبح من المنطقي جداً في الأدبيات السياسية إستبدال المصطلحات حفاظاً على مصداقية الحدث من جهة، و إحتراماً لعقول القرّاء من جهة أخرى. أمّا السؤال الذي يطرح نفسه اليوم، كيف نستطيع ترتيب المشهد الجديد في المنطقة، وأين لبنان منها في ظل تسارع الأحداث، و زلزال الإنقسامات الذي يعصف به يوماً بعد يوم؟.
البداية من المشهد القادم من بكين العدو الإقتصادي اللدود للولايات المتحدة الأمريكية على طاولة مثلثة تشبه السهم المتوجه شرقاً، كاسراً الخط الأحمر الأمريكي، حيث نجح إبن سلمان الحالم و الساعي بشتى الطرق للوصل إلى عرش المملكة، فيقسم تاريخ العائلة الحاكمة في الحجاز إلى ما قبل ابن سلمان وما بعده، فضلاً عن إدراكه بأن الأمريكي فعلياً غير قادر على تطبيق الحماية التي وعد فيها. ومن هنا كانت الإنطلاقة بعد عقود من الطلاق عبر إرساء قاعدة أساسية في استئناف العلاقات مع الجمهورية الإسلامية في إيران وإعادة فتح السفارتين، تليها المستشاريات الثقافية في البلدين، و إعادة الإنطلاق في ورشة الترميم السياسي. وعلى خط موازي بين القاهرة و طهران للعودة من جديد و فتح القنصليات.
في المقلب الآخر، لم الشمل و إعادة تسليط البوصلة نحو العدو الحقيقي-الكيان المؤقت- هو عنوان المشهد الإيراني، في عملية إلتفاف ذكية على كل الجهود الأمريكية التي أثبتت فشلها في المنطقة، مقابل سياسة أمريكية جديدة قوامها صفر مشاكل تحت عنوان الأيام الأخيرة للإستثمار في النفط و الغاز لن تكون لغيرنا في غرب آسيا. الأمر الذي سينعكس إيجابياً على الجمهورية العربية السورية وعودتها إلى الحضن العربي، وقد نراها أول الحاضرين في القمة العربية القادمة في الرياض. ناهيك عن سعي إبن سلمان بأي وسيلة للعودة الآمنة من مستنقعه و عبثيته في اليمن الذي ما زال صامداً، و يشكل الخطر الوجودي لمستقبله، كذلك الأمر بالنسبة إلى البحرين فقد تتدخل السعودية في أي لحظة للبدء في إيجاد الحلول، نظراً لما تملكه من قدرة تأثير على النظام الحاكم، و إذا تمت هذه الخطوات بنجاح نستطيع القول أن وجود الكيان المؤقت على الخارطة الجديدة سيكون هزيلاً.
أين لبنان في مشهد غرب آسيا الجديد؟
لبنان في هذه المرحلة من عملية التحول الإقليمي والدولي يتأثر بالمشهد المستجد، خاصةً انه بلد قائم على تركيبة معقدة جداً، و إنقسام حاد في المواقف، فضلاً عن الأزمة الإقتصادية التي تفتك فيه بعد تلاقي جشع المحتكرين والفساد المالي و المصرفي و السياسي داخلياً مع الحصار الخارجي المفروض عليه أميركياً، كل ذلك في ظل الصراع البارد و المنافسة الصينية الروسية الأمركية في حوض المتوسط على من يمتلك ويستثمر و يتحكم في مصادر الطاقة في عقودها الأخيرة.
في تشرين ثاني 2021، أطلّت مساعدة وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى باربرا ليف في لقاء جمعها مع نظيرها دايفيد هيل في ويلسون سنتر خلال ندوة متخصصة للحديث عن لبنان، و فيها أعلنت جهاراً تهديدات بالعقوبات والفوضى و التحريض و تنبؤات سوداء للسيناريوهات القادمة. وتلاها فعلاً مجموعة من الأحداث و الوقائع، وهي مستمرة، حيث بادر بعض ما يسمى بنواب التغيير بالدعوة للإعتصام في ساحة الشهداء لقياس ما تبقى من مدى تأثير لهم في الشارع، و قد أتت الدعوة تزامناً مع جلسة اللجان النيابية المشتركة، إنضم إلى هذه الدعوة حراك العسكريين المتقاعدين، و كان المشهد الصادم القائم أولاً على طرد بعض رموز التغيير من نواب و نشطاء، وثانياً على الصدام الحاد – عسكر عسكر- بين من هم في الخدمة الفعلية من جهة، والمتقاعدين من جهة أخرى، الأمر الذي أزعج السفارة الأمريكية، لأن رغبتها لم تكن في هكذا صدام، و خاصةً انها الراعي الرسمي لدعم المؤسسة العسكرية “نظرياً”.
وبعد وصلول بابرا ليف و جولتها التي إنحصرت ببعض الشخصيات الرسمية وتوافد عدد من نواب التغيير إليها في مقر السفارة فضلاً عن غياب تام للقاء أي من ممثلي المكون المسيحي في لبنان، وسط غياب تام لأي ردة فعل عنوانها حماية الوجود والحقوق و غيرها من الشعارات، واللافت ان جميع البيانات الصادرة عن ليف كانت متشابهة من ناحية عدم دخولها في الأسماء، والتلويح بعصى العقوبات للمعرقلين، مع التأكيد الدائم على مبدأ التنبؤ بالفوضى القادمة لا محال.
تبع ذلك، المشاهد السرابية التي أوهمت البعض أنهم مرشحون حقيقيون لرئاسة الجمهورية، لكن سرعان ما تبددت أحلامهم وأجهضوا حظوظهم بأيديهم تباعاً، فكانت السقطة الأولى للنائب ميشال معوض بعد تصريحاته التي سحبت منه الأهلية لتولي كرسي بعبدا في معرض رده على من وصفه “بالتجربة الأنبوبية”، تلاه مباشرة مشهد عنونه الإعلام اللبناني “عسكر بوج عسكر”، الذي حرم قائد الجيش جوزيف عون من بعض النقاط في السباق الرئاسي، و من ثم تبعه النائب جبران باسيل الذي أطلق العنان لصراعه الأزلي مع رئيس المجلس النيابي متمسكاً بالقاعدة السياسية “إذا لم تجد عدواً فاصنعه”، و إستنفر كل الجهود حتى وصل به الأمر إلى إستعمال الكلام الطائفي والأوصاف غير المناسبة التي أشعلت مواقع التواصل الإجتماعي بمعركة وهمية جديدة كادت أن توصل البلاد إلى حيث يريد المخربون، و بذلك عزل باسيل نفسه عن كرسي بعبدا بخطابه المتناقض بين المثالية و العنصرية، بعدما عاش نشوة الإنتصار الدونكيشوتي إثر تراجع رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب الميقاتي الذي كان من أبرز المحطات الأساسية لباربرا ليف في زيارتها، و أخيراً كان سمير جعجع رئيس حزب القوات، أخر المنضمين للركب الخارج من المعادلة الرئاسية بعدما تبنى الخطاب الطائفي الذي أزعج مموله الأساسي خاصةً موضوع الرجعية المصطلح الذي يؤلمه و يعود به إلى سنوات مضت، و بذلك سقط الجميع بكلامهم العنصري، و بعدما كشفوا خطابهم الحقيقي الذي لا يؤهلهم للجلوس على كرسي جامع لكل الشعب اللبناني.
ما هو السيناريو القادم في لبنان إذاً؟
قبيل أيام تفصلنا عن وصول السفيرة الأميركية الجديدة ليزا جونسون بما تمثل، وإنهاء عهد وديعة ترامب في لبنان دوروثي شيا، السيناريو الذي يمكن تصوره بإختصار سيكون على النحو التالي: الإنطلاق في تحريك الشارع من جديد وبفوضى منظمة محدودة للضغط أكثر على لبنان بحجة إنتخاب رئيس الجمهورية، وتنفيذ شروط صندوق النقد، لكن السبب الأساسي هو تمهيد الأرضية للحصول على إحتكار نفط لبنان قبل أن يصل إليه الصيني أو الروسي، و بعدها تبدأ جونسون بلعب دورها الفعلي، في تقديم صورة جديدة قد تخدع الشعب اللبناني بعد سلسلة تقديمات، تبدأ بتسكير أبوابها تجاه الواشين و المطبلين، ولا تنتهي بتسليم بعض من إنتهت صلاحيتهم للقضاء، وفضح بعض المضاربين على العملة الوطنية و حجز أموالهم، وخلق الأحداث التي تستدعي تحقيق نبؤة بابرا ليف في حزم البعض لحقائبهم ومغادرة البلاد، ليصار فيما بعد إلى تشكيل جبهة معارضة خارجية لها برامجها و أدوارها، و بذلك تكون قد قدّمت أول هدية ثمينة للشعب الفقير الذي قد يفكر بالعفو عن كل ما مضى معها، فكيف به الحال إذا ما إستيقظ يوماً على تراجع كبير لسعر الدولار الأمريكي امام الليرة اللبنانية، فهذا لن يشكل مصدر تضخم او مشكلة إقتصادية في أسواق أمريكا الداخلية، و هذا الأمر فعلته الإدارة سابقاً أكثر من مرة في تمويلها لبعض حلفائها في مشاريعهم السوداء أثناء حروبها في السنوات الأخيرة في غرب آسيا و شمال أفريقيا، كل ذلك مرهون بمجرد التأكد من ضمان الحصول على النفط، و لو عبر شركات لا تحمل جنسيته بشكل مباشر.
لكن المخرب المتربص-الكيان المؤقت- قد يكون له رأي آخر في مجريات الأحداث، ولربما يباشر بتحريك خلاياه النائمة وأدواته في لبنان لتنفيذ أعمال أمنية فتنوية قد تخلط فيه كل الأوراق من جديد!
هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة رأي الموقع
المصدر الخنادق
Discussion about this post