بدأ الكلام عن أكراد قنديل مع بداية الحرب على سوريا، وبدأ يذيع صيتهم أكثر فأكثر بعد العام 2015 وبعد تشكل قوات سوريا الديمقراطية، “قسد”، والتي تأسست تحت ذريعة حماية الكرد وخاصة الإيزيديين منهم، الذين استباحهم تنظيم داعش الإرهابي، عندما اجتاحت العراق ومنطقة الجزيرة السورية. اجتياح يذكرنا باجتياح جحافل المغول والتتار للعراق والشام وآسيا الصغرى، حيث أسست الدولة العثمانية على يد أحفادها. بدأت داعش بسبي نساء الإيزيديين واستعباد أطفالهم، وقتل رجالهم، ونشأت حينئذ حركة كردية لمواجهتهم، وكان قوام هذه الحركة حزب العمال الكردستاني المحظور تركياً، قاطنوا جبال قنديل.
تمتد منطقة جبال قنديل، والتي هي جزء من من سلسلة زاغروس ما بين إيران وشمال العراق وتركيا. هذا الأمر يضعنا أمام سؤال تاريخي كبير قادم، لأنه من المتوقع أن تتم الإجابة الموثوقة عليه من خلال كشف وثائق الحقيقة عن الدور الأميركي في سوريا والعراق اليوم ولكن بعد بضع عشرات من السنين، وذلك بعد أن تحرر الوثائق السرية في الدولة التركية وفي أمريكا واوروبا. ولكننا اليوم واستشرافاً ما قرأناه في تاريخ منطقتنا والصراعات عليها، اذ تعد بلاد الشام والعراق أكبر منطقة صراع عالمي، وهي تتوسط خط التجارة العالمي ما بين الشرق الأقصى في آسيا وما بين البحر المتوسط مروراً نحو أوروبا. ومنذ أيام الإسكندر المقدوني والمنطقة تأتيها جحافل المستعمرين الطامعين بخيرات شعوبها، ليس الثروات الباطنية فقط، ولكن الثروات التي استطاعوا اكتسابها عبر التجارة والتفاعل مع العالم وحضاراته، مستفيدين من التنوع الذي تمتعت بها الشعوب التي تعاملوا معها في شبه الجزيرة الهندية والصين.
أعاد التاريخ نفسه عندما بدأت قوات داعش والنصرة وكلاهما من أفرع القاعدة، والتي قوامها الشيشان والقرقيز والتركستان والتركمان والطاجيك والكزخ وغيرهم من إرهابيي آسيا الوسطى وقد تدربوا على يد القاعدة، وبالتالي على يد الأميركيين، في أفغانستان. استُجلب هؤلاء لإجتياح شمال سوريا في العام 2014، وقد تلقوا الدعم بشكل مباشر من بعض دول الخليج وتركيا. اذ فتحت الحدود التركية الشمالية مع سوريا ليعبروا بعشرات الآلاف ومعهم جاء الإرهابيون من بقاع الأرض. وإذا أردنا القراءة في الأهداف التركية في دعم مرور جحافل أجدادهم المغول والتتار مرة اخرى إلى الشام والعراق، فهما هدفان أساسيان: الأول، وهو ما صرح به أردوغان منذ بداية الحرب على سوريا بإنشاء منطقة عازلة في شمال سوريا وشمال شرق العراق، تقوم تركيا فيها بتغيير ديموغرافي، بحجة درء خطر الأكراد، كما فعلت في لواء اسكندرونة وجزيرة كليليكية حيث عملت على تهجير العرب السوريين من المنطقتين، ومن ثم السيطرة عليها بهدف تمرير خط الغاز القطري المنافس للغاز الروسي عبر شمال سوريا إلى تركيا ومن ثم إلى أوروبا. والهدف الثاني، تحقيق الحلم العثماني الأردوغاني بالعودة للتمدد في سوريا والعراق، وحتى في ليبيا والسودان وشرق أوروبا، ومع أصدقائه الطورانيين باتجاه آسيا الوسطى.
دخول الجحافل الداعشية الطورانية من منطقة بحر قزوين، وسبي الأكراد الإيزيديين كان سبباً هاماً في التسلح والتدريب الكردي وتجديد القتال، وهو ما كانت الولايات المتحدة على خطه، وأذكته ودعمته بالسياسة والمال والسلاح. صحيح أن قسم من الأكراد كانوا سوريين، ولكن في الحقيقة أن معظم المقاتلين جاؤوا من جبال قنديل، وهم لا يتحدثون اللغة العربية ولا علاقة لهم بأرض الشام والعراق. وجبال قنديل تقع على بعد 120- 150 كم من شمال مدينة أربيل وتمتد من أطراف جبال زاغروس في جنوب غرب تركيا وحتى إيران غرباً. وهو يمثل منطقة صراع مع الأتراك منذ تشكل الدولة التركية بقيادة أتاتورك بعد الحرب العالمية الأولى.
تعد جبال قنديل مرتعاً هاماً لعناصر حزب العمال الكردستاني. في كل مرة تتعرض فيها قرى هذه الجبال لقصف الأتراك ينجم عن ذلك فوضى وتهجير للسكان هناك، مما سيؤدي وبشكل تلقائي إلى نمو العداء تجاه تركيا والدفع بالمزيد من القرويين من ذوي الأجساد القوية إلى التدرب على السلاح وإلى مزيد من العنف والكراهية ما بين تركيا وأبناء المنطقة وإلى مزيد من التهجير، وكأن الهدف التركي هو إخلاء جبال قنديل لترتع فيها، ويتم ترحيل المقاتلين بشكل تلقائي إلى الأماكن التي تديرها قسد في الشرق السوري، أو إلى كردستان العراق، ومن ثم تقوم بقصفهم في كردستان. الأمر الآخر أن هذه المنطقة تقع إلى الشمال الغربي من العراق وبالتأكيد وإلى الشرق من إيران. اذ يعد الأكراد أحد وقود الحرب الأميركية –الإسرائيلية ضد إيران وسوريا.
ما يحدث ما بين تركيا وأكراد قنديل سيكون انعكاسه المباشر في كل مرة حرباً في سوريا مع مجلس العشائر وقصفاً تركياً لمناطق حزب العمال الكردستاني. وفي الحقيقة أن تركيا لا تميز بين كردي وآخر مهما تكن انتماءاته خارج حدود تركيا المعروفة. وفي الوقت نفسه ينشط في جبال قنديل مجموعات أخرى بدعم تركي وأميركي وهم مقاتلي منظمة خلق الكردية والتي تعتبرها إيران مجموعات إرهابية وهي لا تفتئ تقوم بعمليات إرهابية في إيران أو تساعد على تنفيذها وخاصة ضد حرس الحدود في الجبال وحتى في الداخل. وتمرر تركيا وكردستان العراق هذه المجموعات عبر أراضيهما، أو عبر اذربيجان أحياناً.
في الثالث من الشهر الحالي، استغاث رئيس حكومة اقليم كردستان مسرور البارزاني بالرئيس الأميركي وقال: “نحن ننزف اقتصادياً وننزف سياسيا”، ومن ثم التقت سفيرة أمريكا في العراق بالرئيس الكردي. فماذا وراء اللقاء؟ هل هو اعلان كونفدرالية كردستان أم دولة كردستان، خاصة وأن حكومة كردستان المستقلة تسعى نحو السيطرة على نفط كركوك. والسؤال الأهم، إذا ما دعم الأميركيون الإنفصال فما هو المطلوب منهم في المنطقة وهم يقعون على حدود العراق وسوريا وإيران؟ المطلوب بالتأكيد الولاء التام للمشروع الأميركي في المنطقة مقابل الدعم الذي يتلقونه. وبذا ستستمر الدائرة المفرغة بالدوران، وسيبقى أكراد قنديل وقود المجموعات الكردية المقاتلة مقابل المال، في العراق وسوريا وإيران، ومن أجله سيقدمون الرجال والنساء على مذبح “الإستقلال” على أراض ليست لهم، حتى يأتي ذلك على نهايتهم أو على استسلام من حولهم، وهذا ما لن يحدث.
هذه الحلقة المفرغة من القتال والكراهية ما بين أكراد قنديل، وبالذات أعضاء حزب العمال الكردستاني والأتراك، والتي لابد أنها تُذكى من قبل الأميركيين لا تنفك تدور دون توقف. وحتى أنها تتجدد إذا ما لاحظنا كلما بدأت قسد بمحاولات جديدة لتجنيد المزيد من أبناء العشائر، حتى أن شبابهم بدؤوا بالهرب من الجزيرة السورية خوفاً من تجنيدهم بإتجاه تركيا ولبنان، ومؤخراً بعد احتدام الصراع من جديد كان النزوح الأكبر بإتجاه لبنان. فيما تمتلئ منطقة شرق الجزيرة السورية وكردستان العراق بأكراد قنديل أكثر فأكثر ويزخر مخيم الهول بالعائلات الداعشية الطورانية.
ويبدو أنه كما تم تجميع إرهابيي بحر قزوين والتخلص منهم في سوريا، يحاول الجميع اليوم جمع أكراد قنديل المسلحين للقضاء عليهم في سوريا ايضاً، أو الدفع بهم نحو تنفيذ المخطط الأميركي بزرع اسرائيل كردية في شمال سوريا والعراق تتعاون مع الموساد بشكل كامل وتتماهى مع المطالب الأميركية، وقد بدأت ذلك فعلياً في كردستان العراق.
Discussion about this post