لا تزال صربيا تحشد قواتها على الحدود مع إقليم كوسوفو في خطوة قد تدفع للحرب مجدداً في البلقان، وهي المنطقة التي يسودها التوتر منذ التسعينيات من القرن الماضي حين انتهت الحرب الباردة، وانهارت كتلة الدول الاشتراكية وتفكّكت يوغوسلافيا بعد حروب طاحنة على أراضيها.
وقد أعلنت حكومة إقليم كوسوفو، الذي أعلن انفصاله عن صربيا من طرف واحد في العام 2008، أنها مستعدة للدفاع عن الإقليم في مواجهة صربيا داعية بلغراد إلى سحب قواتها. وقد أيّدت الولايات المتحدة حكومة الإقليم داعية الحكومة الصربية إلى إعطاء أوامر للجيش الصربي بسحب حشوده من المنطقة الحدودية مع إقليم كوسوفو.
وكان التوتر بين صربيا وكوسوفو قد عاد إلى التصاعد الأسبوع الماضي عقب قيام مسلحين بهجوم على دورية للشرطة الألبانية بالقرب من قرية بانجسكا القريبة من الحدود مع صربيا، والتي أدت إلى مقتل أحد ضباط الأمن، لجأ بعده هؤلاء المسلحون الذين قدّر عددهم بثلاثين إلى دير قريب من البلدة، تمت محاصرته من قبل القوات الألبانية قبل أن تقع مواجهة أسفرت عن مقتل ثلاثة من المسلحين الصرب، وفرار آخرين إلى داخل الأراضي الصربية.
وكان هذا الحادث قد وقع بعد فشل المحادثات بين الرئيس الصربي ألكسندر فوجيتش ورئيسة الإقليم فجوزا عثماني، والتي كانت تهدف إلى تحسين العلاقات بين الطرفين بوساطة من الاتحاد الأوروبي. وقد عادت أزمة الإقليم إلى الواجهة منذ أيار/مايو الماضي بعد قيام سلطات بريشتينا بتعيين رؤساء بلديات من أصل ألباني في 4 بلديات ذات غالبية صربية في شمال الإقليم. وكانت هذه الخطوة قد أدت إلى مواجهات عنيفة بين الصرب في الإقليم والسلطات الالبانية أدت إلى سقوط مئات الإصابات بمن فيهم 30 جندياً من قوات حفظ السلام في الإقليم والتابعة لحلف شمال الأطلسي.
والجدير ذكره أن هذا الحادث يعتبر الأعنف في الإقليم منذ الحرب التي اندلعت فيه في العام 2008، والتي سقط خلالها 13 ألف قتيل، والتي تخللها تدخّل لقوات الناتو لطرد القوات الصربية من الإقليم ودعم إعلان كوسوفو استقلاله عن بلغراد. وفيما أصدر القادة الغربيون تصريحات تندّد بصربيا، فإن المسؤولين الروس أعلنوا أنهم يراقبون الوضع عن كثب في البلقان، علماً أنّ علاقات وثيقة تجمع روسيا تاريخياً بصربيا.
البعد الديمغرافي والتاريخي للصراع
على الرغم من أن 90% من سكان الإقليم هم من الإثنية الألبانية، إلا أن إقليم كوسوفو يعتبر تاريخياً إقليماً صربياً منذ ما لا يقلّ عن ألفي عام، وهو يعتبر مهد ولادة القومية الصربية. إلا أن موجات نزوح كثيفة من ألبانيا منذ القرن التاسع عشر غيّرت ديمغرافية الإقليم، في ظل سعي الدولة العثمانية لوصل منطقة تراقية بألبانيا عبر مقدونيا وكوسوفو.
ومع بداية القرن العشرين كانت نسبة الألبان في الإقليم قد قاربت 60% من السكان مع مجموعات إثنية أخرى مثل الغجر والبوشناق والأتراك، إلا أنه في العام 1912 سيطرت صربيا التي كانت قد استقلت عن الدولة العثمانية رسمياً في العام 1878 على الإقليم.
وحتى العام 1990 بقي الإقليم جزءاً من الاتحاد اليوغوسلافي الذي كان قد تشكّل بعد الحرب العالمية الأولى. لكن خلال الستينيات والثمانينيات من القرن الماضي ظهرت موجة قومية قوية في صفوف الألبان في الإقليم والذين كانوا قد بدأوا يطالبون بالاستقلال الذاتي، وهو ما ووجه بالرفض من قبل السلطات اليوغوسلافية.
وفي ظل قيادة سلوبودان ميلوسيفيتش للحكومة اليوغوسلافية خلال الثمانينيات من القرن الماضي، ولصربيا بعد العام 1994 فإن التوترات ازدادت بين الألبان والصرب في الإقليم. وبعد تفكّك يوغوسلافيا في أوائل التسعينيات، تصاعدت التوترات بشكل ملحوظ. وألغى ميلوسيفيتش الحكم الذاتي لكوسوفو في عام 1990، مما أدى إلى احتجاجات وإضرابات وحركات سرية. ومع اشتداد النزاع، انخرط كل من الصرب والألبان في أعمال عنف وأعمال انتقامية. وقد ظهر جيش تحرير كوسوفو كمجموعة ألبانية متشدّدة تسعى إلى الاستقلال.
وبعد الحملة العسكرية التي شنّها حلف شمال الأطلسي ضد صربيا في العام 1999، فإن كوسوفو وُضع تحت إدارة الأمم المتحدة، وهو ما أدى إلى نزوح عدد كبير من الصرب من الإقليم إلى صربيا. وفي عام 2008، أعلنت إدارة كوسوفو المحلية استقلالها من طرف واحد، ما أدى إلى حرب راح ضحيتها 13 ألف قتيل، وإلى تدخّل الناتو لطرد القوات الصربية من الإقليم.
علاقات موسكو ببلغراد
الجدير ذكره أن أحد أسباب التدخّل الغربيّ من أجل فصل إقليم كوسوفو عن صربيا يكمن في العداء الذي يكنّه الغرب لبلغراد، نتيجة كونها حليفة طبيعية لروسيا منذ بداية القرن التاسع عشر. فلقد شهد القرن التاسع عشر صعود القومية الرومانسية في كل من روسيا وصربيا، مما عزّز الشعور بالتراث السلافي المشترك بينهما. وفي تلك الفترة أعرب المثقّفون والكتّاب والفنانون الروس عن دعمهم لاستقلال صربيا عن الدولة العثمانية، معتبرين الشعب الصربي شعباً سلافياً وأرثوذوكسياً شقيقاً.
وأدّت روسيا دوراً حيوياً في دعم تطلّعات صربيا للاستقلال عن الدولة العثمانية حيث قدّمت المساعدة الدبلوماسية والعسكرية والمالية لبلغراد. وقد أدّت الحرب الروسية التركية 1877-1878 إلى هزيمة الإمبراطورية العثمانية والاعتراف بصربيا كإمارة مستقلة في العام 1878.
وخلال الحرب العالمية الأولى، كانت صربيا وروسيا حليفتين في الصراع. قاتلت القوات الروسية إلى جانب القوات الصربية ضد ألمانيا والنمسا والدولة العثمانية. وخلال الحرب العالمية الثانية قاتل الروس والصرب ضد عدو مشترك هو ألمانيا النازية.
وبعد الحرب العالمية الثانية، كانت العلاقات بين الاتحاد السوفياتي ويوغوسلافيا، بما في ذلك صربيا، معقّدة ومتوترة في كثير من الأحيان. بينما كان كلا البلدين في البداية جزءاً من المعسكر الاشتراكي، اتبعت يوغوسلافيا طريق الاشتراكية المستقلة تحت قيادة جوزيب بروز تيتو، سعياً للحفاظ على سيادتها وإبعاد نفسها عن النفوذ السوفياتي. ومع ذلك، ظلت العلاقة بين البلدين قوية خصوصاً في بعدها الجيوسياسي.
ومع تفكّك الاتحاد السوفياتي في عام 1991 فقدت يوغوسلافيا سنداً قوياً، ما دفعها لمواجهة حرب داخلية بدعم من الغرب الذي نجح في تفكيك الاتحاد اليوغوسلافي إلى ست جمهوريات، هي صربيا وكرواتيا وسلوفينيا والبوسنة والهرسك ومقدونيا والجبل الأسود.
لكن الهجوم الغربي على صربيا في العام 1999 أدى الى تحوّلات كبيرة داخل روسيا. فبنتيجة هذه الحرب تحرّكت الدولة العميقة المتمثّلة بالجيش الروسي والمخابرات والبيروقراطية الروسية وضغطت لتعيين قائد جهاز الأمن الفدرالي (ك جي بي سابقاً) فلاديمير بوتين رئيساً للوزراء كخطوة أولى نحو انتخابه رئيساً لروسيا في بداية العام 2000.
وخلال عهد بوتين تعزّزت العلاقات الروسية الصربية، وتميّزت بالتعاون السياسي والاقتصادي والثقافي. واصلت روسيا الحفاظ على علاقات ثقافية ودينية قوية مع صربيا، مؤكّدة الهوية المسيحية الأرثوذكسية المشتركة. وقدّمت روسيا المساعدات الاقتصادية والاستثمارات إلى صربيا، وخاصة في قطاع الطاقة، كما انخرطت الدولتان في التعاون العسكري والتدريبات المشتركة.
وتمثّل صربيا أهمية جيوسياسية بالنسبة لروسيا. فموقع صربيا في قلب البلقان يمنح روسيا موطئ قدم استراتيجياً في المنطقة. ومن خلال تنمية العلاقات الوثيقة مع صربيا، تستطيع روسيا اكتساب النفوذ والحفاظ على وجودها في منطقة البلقان، التي يُنظر إليها باعتبارها مفترق طرق حاسماً بين أوروبا والشرق الأوسط.
كذلك فإن روسيا هي مورد رئيسي للطاقة إلى صربيا، وتوفّر حصة كبيرة من النفط والغاز. ويعمل هذا التعاون في مجال الطاقة على تعزيز النفوذ الاقتصادي والسياسي الذي تتمتع به روسيا على صربيا، الأمر الذي يجعلها أكثر اعتماداً على الموارد الروسية وأكثر قدرة على الوصول إلى الأسواق.
وتشترك روسيا وصربيا في روابط تاريخية وثقافية ودينية، وذلك في المقام الأول من خلال جذورهما السلافية المشتركة والمسيحية الأرثوذكسية. وغالباً ما تستفيد روسيا من هذه الروابط لتعزيز المشاعر المؤيدة لروسيا داخل صربيا وتنمية الشعور بالهوية المشتركة والتعاون.
والجدير ذكره أنّ كلاً من روسيا وصربيا تعتبران هدفاً لسياسات الغرب العدائية، ما يجعلهما مرشّحتين لتشكيل تحالف ضد النفوذ الغربي المتمثّل بالولايات المتحدة والناتو والاتحاد الأوروبي.
صربيا وكوسوفو من وجهة النظر الأميركية
بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ساهمت الولايات المتحدة في اندلاع الأزمة في يوغوسلافيا السابقة بغية تفكيكها في إطار جهودها لتوسيع نفوذها إلى أوروبا الشرقية. والجدير ذكره أن واشنطن كانت تنظر بعين الريبة إلى القدرات الكامنة ليوغوسلافيا التي كانت أكبر قوة في أوروبا الشرقية، وكانت بالتالي تقف حجر عثرة في مواجهة توسّع النفوذ الأميركي شرقاً. بعد ذلك فإن دعم الولايات المتحدة لانفصال إقليم كوسوفو عن صربيا كان يهدف لمزيد من الإضعاف لصربيا واحتوائها بحكم أنها حليف طبيعي لروسيا.
وهذا الذي دفع واشنطن الى إقامة قاعدة عسكرية هي الأكبر لها في أوروبا على أراضي إقليم كوسوفو لتشكّل قاعدة للنفوذ الأميركي في البلقان كمنطلق لتوجيه ضربة لروسيا من ناحية الجنوب، تماماً كما فعل هتلر خلال الحرب العالمية الثانية حين استبق هجومه على الاتحاد السوفياتي في حزيران/يونيو 1940 باحتلال البلقان.
وتدعم الولايات المتحدة بقوة تطلّعات كوسوفو للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي. وباعتبارها عضواً في منظمة حلف شمال الأطلسي فإن كوسوفو ستساهم في أمن واستقرار الحلف في المنطقة. فضلاً عن ذلك فإن تعزيز التكامل الأوروبي الأطلسي في كوسوفو ينسجم مع الهدف الأوسع للولايات المتحدة المتمثل في تعزيز نفوذها في شرق أوروبا. وتهدف واشنطن عبر انفصال إقليم كوسوفو إلى احتواء النفوذ الروسي في البلقان في إطار محاصرة روسيا وعزلها عن القارة الأوروبية.
كذلك يمتلك إقليم كوسوفو احتياطيات كبيرة من الفحم، وقد أعربت الولايات المتحدة عن اهتمامها بدعم تنويع مصادر الطاقة في المنطقة. ومن خلال مساعدة كوسوفو على تطوير مصادر طاقة أنظف وأكثر استدامة، تهدف الولايات المتحدة إلى تعزيز أمن الطاقة الإقليمي، وتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري والنفط الروسي كمصدر للطاقة بالنسبة لأوروبا.
وفيما يتعلق بالوجود العسكري الأميركي في إقليم كوسوفو فإنه يتمثّل بكونه جزءاً من قوة “كفور”، وهي قوة تابعة للناتو تعمل منذ العام 1999 كقوة حفظ سلام في الإقليم. إضافة إلى ذلك فإن هنالك عدداً غير معلن من القوات الأميركية منتشراً في الإقليم، ويتخذ من قاعدة بوندستيل مقراً له على الرغم من أن الولايات المتحدة لا تعترف بأن هنالك قاعدة عسكرية لها في كوسوفو.
التداعيات الإقليمية لاندلاع صراع جديد في البلقان
سيكون لتصاعد التوتر والمواجهة في إقليم كوسوفو تأثير على الاستقرار في منطقة البلقان، والتي تعتبر منطقة متفجّرة في أوروبا أدت الصراعات فيها إلى اندلاع عدة حروب ذات بعد عالمي، وعلى رأسها الحرب العالمية الأولى. ويمكن ألّا يبقى الصراع محصوراً في إقليم كوسوفو، وأن ينتقل إلى مناطق وبلدان أخرى في ظل الفسيفساء الإثني والقومي في منطقة البلقان حيث لا توجد دولة صافية إثنياً أو قومياً.
وهذا يمكن أن يؤدي إلى تصاعد التوترات العرقية والسياسية والصراعات التي لم يتم حلّها، والتحديات الاقتصادية في المنطقة، وأيضاً إلى أزمات سياسية ونزاعات حدودية وزيادة تدفّقات الهجرة. ومن الممكن أن يؤدي هذا الانتشار الإقليمي إلى زعزعة استقرار البلدان المجاورة وتعطيل الاستقرار العام في مجمل القارة الأوروبية.
إضافة إلى ذلك فإنه يمكن لاندلاع الصراع في البلقان أن يقوّض التعاون الإقليمي، والتكامل الاقتصادي داخل القارة العجوز. وهذا بدوره من الممكن أن يعيق جهود التكامل والتعاون الأوروبي الأوسع.
ويتخوّف الأوروبيون من أنّ عدم الاستقرار في البلقان قد يخلق تحديات أمنية لأوروبا. وتشمل هذه التحديات انتشار الجريمة المنظّمة عبر الحدود، والاتجار بالأسلحة، وإمكانية انتشار الأيديولوجيات المتطرفة. ومن الممكن أن تعمل هياكل ومؤسسات الحكم الضعيفة في منطقة البلقان على خلق أرض خصبة للأنشطة غير القانونية التي قد تمتد إلى ما وراء حدود المنطقة وتهدّد الأمن الأوروبي.
وبسبب موقعها الجغرافي، فإن منطقة البلقان تشكّل طريق عبور لتدفّقات الهجرة واللاجئين في السنوات الأخيرة. ومن الممكن أن يؤدي عدم الاستقرار في المنطقة إلى تفاقم هذه الهجرة، مما يؤدي إلى زيادة الضغوط على الحدود الأوروبية وأنظمة إدارة الهجرة.
ومن الممكن أن تؤدي هذه الضغوط إلى إجهاد الاستقرار الاجتماعي والسياسي والاقتصادي في الدول الأوروبية وتضخيم المناقشات والتوترات السياسية القائمة داخل أوروبا.
لذا فقد يرى بعض المراقبين أنّ التوتر في البلقان قد يشكّل فرصة بالنسبة لروسيا لإشغال الأوروبيين بأزمات داخل البيت الأوروبي، ما قد يلهيهم عن دعم نظام فولوديمير زيلنسكي في كييف ضد روسيا. كذلك فإن روسيا ترى في دعم صربيا تعزيزاً لنفوذها في شرق أوروبا وتعرية للنفوذ الأميركي في المنطقة، ما قد يزعزع القاعدة التي يمكن أن تنطلق منها واشنطن للانطلاق من شرق أوروبا لضرب العمق الروسي. كذلك فإن روسيا بدعمها لصربيا تكون تكفّر عن التقصير تجاه حليف تاريخي خلال التسعينيات من القرن الماضي أدى إلى تضحيات كبيرة من قبل هذا الحليف.
أما بالنسبة لصربيا، فإنها تنظر إلى كوسوفو على أنه إقليم صربي انتزع منها من قبل الغرب، وهي بالتالي تحاول استعادة سيادتها على ترابها الوطني. كذلك فهي ترى في عودة الروح إلى النفوذ الروسي فرصة بالنسبة لها لكسر الحصار الغربي المفروض عليها منذ عقود، واستعادة سيادتها على أقاليم خسرتها في الجبل الأسود والبوسنة والهرسك وكرواتيا في إطار الدعوة لمشروع قومي صربي، والذي شكّل خلال القرن العشرين نواة الدعوة لوحدة سلاف الجنوب أو اليوغوسلاف، كما هي التسمية باللغة الصربية.
Discussion about this post