كتب أحمد الدرزي
بعد بضعة أيام، سيحط الرئيس الأميركي جو بايدن للمرة الأولى في فلسطين المحتلة، أُس بؤر الصراع الدولي، التي تحمل الرمزية الأعلى لمسارات التحول الدولي.
ومن بعدها، سيزور السعودية، ليلتقي ملكها غير المعلن محمد بن سلمان، ويعلن من هناك ولادة تحالف إقليمي جديد يحيط بطبيعة الحال بسوريا من أخطر جهاتها، فما فرص نجاح هذا التحالف الجديد؟ وما مدى خطره على سوريا؟
إنها ليست المرة الأولى التي تتعرض فيها سوريا لمخاطر الجوار الإقليمي، ففضلاً عن وضعيتها الجغرافية والتاريخية التي جعلت منها ممراً وساحة لصراع الإمبراطوريات عبر التاريخ، اختبرت ذلك 3 مرات في العصر الحديث، كانت الأولى منتصف خمسينيات القرن الماضي، والثانية مع نهايات سبعينيات القرن الماضي أيضاً، والثالثة مع منتصف شهر آذار/مارس عام 2011، وما زالت مستمرة حتى الآن، وهي في طور التجديد، مع مجيء الرئيس الأميركي.
وعلى الرغم من المظاهر المحلية للصراع الدموي في المرتين الثانية والثالثة، فإن البعد الإقليمي والدولي كان وما زال أكثر وضوحاً، وخصوصاً في المرحلة الحالية والمستمرة.
من هنا، تأتي أهمية التحرك الأميركي الجديد في تغيير واضح للاستراتيجية الأميركية التي سعت من قبل للتخفف من حمل صراعات ما تسميه الشرق الأوسط، والتفرغ أكثر لمواجهة الصين وروسيا، لكنها اكتشفت بعد إجبار روسيا على خوض الحرب معها بالوكالة في أوكرانيا أن ارتدادات هذه الحرب عليها وعلى حلفائها الغربيين كانت أكثر بكثير عليها مقارنة بروسيا.
كما أنها اكتشفت أن هذه الحرب وسَّعت قائمة الدول المجاهرة بالاعتراض على سياساتها ورفض إملاءاتها، ووصل الأمر إلى حد ظهور استقطاب واضح تقوده القوى الآسيوية الناهضة، الصين وروسيا والهند وإيران، في مواجهة الاستقطاب الأميركي القاهر لدول الاتحاد الأوروبي، ومن بعده كلّ من تركيا و”إسرائيل” ومصر والأردن والسعودية والإمارات والأردن والبحرين بشكل أساسي.
تعتمد الاستراتيجية الأميركية الجديدة على إعادة الاهتمام بمنطقة غرب آسيا وشمال أفريقيا، للإغلاق على الصين وروسيا بالدرجة الأولى، وحصار إيران من جديد بعد الفشل في احتوائها، وهي التي تعتبر المحور الجيوسياسي الأخطر والأهم بين شرق آسيا من المحيط الهادئ وغربها حتى شرق المتوسط، ومنطقة أوراسيا وشبه القارة الهندية، ولا يمكن تحقيق ذلك إلا في المنطقة الأضعف، وهي سوريا، وفق التصور الأميركي، وهي المنطقة التي توجد فيها جيوش القوى الدولية والإقليمية، والتي تعد قابلة للصدام فيما بينها، ولكن الأفضل أن يتم الصدام باستخدام قوى عربية في مواجهة ذات طابع قومي ومذهبي مع كل من روسيا وإيران.
هذا التوجه الاستراتيجي الجديد لا يمكن أن ينجح في ظل صراعات الدول التي تدور في فلك أميركا، وخصوصاً بعدما أظهرت ذلك بالمعارك التي لم تتوقف بين المجموعات السورية والأجنبية المسلحة، وفقاً للدول الداعمة لها.
هذا الأمر لم يتوقف على الساحة السورية فقط، بل ظهر واضحاً في الصراع السعودي الإماراتي في اليمن أيضاً، فما كان من واشنطن إلا استغلال الظروف الداخلية والإقليمية والدولية لهذه الدول، ودفعها إلى الحد الأقصى من التعاون في مقابل مكافآت لكل دولة.
كان الأمر يحتاج إلى تهدئة الجموح التركي ودفع الرئيس التركي إلى حسم خياراته في لعبة التوازن بين موسكو وواشنطن، فكان مكسبه عدم الممانعة عن اجتياح بقية الشمال السوري، والقضاء على التجربة السياسية والعسكرية الكردية في سوريا، إضافة إلى رفع الغطاء الغربي جزئياً عن كرد تركيا، فيما كسب ولي العهد السعودي محمد بن سلمان الاعتراف الأميركي باعتباره الرجل الأقوى في المملكة، مع طَي اتهامه بجريمة قتل جمال خاشقجي.
وكدلالة على الدور الجديد، وافقت واشنطن على استبدال التجربة الكردية في شمال شرق سوريا بتجربة عربية تجتمع فيها العشائر العربية تحت مظلة النفوذ السعودي، واستبقت واشنطن اجتماع جدة، عبر البدء ببناء قاعدة عسكرية بريطانية مع ضباط سعوديين في منطقة الشدادي في الحسكة، لتقود قوات عسكرية عربية بديلة من القوات الكردية في الرقة والحسكة ودير الزور.
إنّ مصر التي تعمل على استعادة دورها الإقليمي تدفعها ضائقتها الاقتصادية المُهددة لها ملزمة إلى الاصطفاف مع هذا الحلف الجديد في مقابل المساعدات المالية، لإبعاد شبح الانهيار الاقتصادي وتأمين الغذاء، كذلك الأردن، الذي يعيش تهديدات الأزمة الاقتصادية نفسها، ولا يمكنه الاستمرار بالحياة من دون المساعدات الخليجية.
بالطبع، إن “إسرائيل” ستكون الرابح الأكبر من هذه العودة الأميركية، فقد استبعدت الدور الإقليمي التركي المُهدد بعد عودة الرئيس التركي عن عداوته لها واستجداء المصالحة معها، كما أن علاقاتها الوطيدة مع الإمارات العربية المتحدة والبحرين تحت عنوان “الدين الإبراهيمي” أتاحت لها الوصول الأمني إلى تطويق إيران أمنياً في الخليج، ووضع شبكات الدفاع الجوي الإسرائيلي في هذه الدول بعنوان الإدارة الأميركية، والأهم من كل ذلك هو الحفاظ على سوريا كدولة مدمرة ضعيفة غير قابلة للتعافي.
هذا ما تسعى إليه الاستراتيجية الأميركية، وهي تمتلك الكثير من أوراق القوة التي تتيح لها فاعلية عالية المستوى لتحقيق أهدافها، لاستمرار الولايات المتحدة قطباً مهيمناً وحيداً في العالم، ولكنها في واقع الحال ليست الدولة الوحيدة التي تمتلك خطة عمل في هذه المنطقة الخطرة في العالم، وليست الدولة الوحيدة التي تمتلك أوراق القوة، فوضعها الاقتصادي في أصعب حالاته منذ فترة الكساد الكبير عام 1929.
كما أن قابلية تفجر بركان وسط أميركا وغربها واردة، وهي الظاهرة التي عبرت عن نفسها بتأييدها الجارف للرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، إضافة إلى وضع حلفائها في الاتحاد الأوروبي، الذين يدفعون ثمن العقوبات التي فرضوها على روسيا، فإذا بها ترتد عليهم أكثر مما حدث في روسيا.
كذلك، إن رهانها على الحرب في أوكرانيا لاستنزاف روسيا أثبت فشله حتى الآن. ومن الواضح أن سير المعارك يقود إلى هزيمة كبيرة في أوكرانيا، ما يتيح لروسيا، الخصم المباشر لها، دوراً عالمياً معترفاً به سينعكس على مستقبل سوريا.
الأمر لا يتوقف هنا، فإيران أثبتت أيضاً قدرتها حتى الآن على إجهاد الأميركيين في أكثر من موقع، وخصوصاً العراق ولبنان وسوريا وفلسطين واليمن، وتحولت إلى رقم صعب في المعادلة الإقليمية والدولية، رغم تأثير العقوبات الاقتصادية الشديدة في الداخل الإيراني.
وقد أصبحت بعد الحرب في أوكرانيا أكثر اهتماماً بعودتها إلى سوق الطاقة الذي أرهق الغرب والعالم، عدا عن قدراتها النووية التي وصلت إلى مستوى القدرة على إنتاج القنبلة النووية بعد اكتمال دورتها.
وفي التجربة المُقارِنة بين الاستقطابين الدوليين والإقليميين، سنجد أن دول الكتلة الصاعدة تمتلك أعلى مستويات التنسيق فيما بينها، وتخوض معاركها السياسية والعسكرية والاقتصادية بتوافق كبير حتى الآن، فيما تخوض دول الاستقطاب الغربي معاركها المتنوعة على قاعدة اللايقين بالنتائج، ما يدفعها إلى التعبير عن اختلاف مصالحها بشكل واضح.
ينطبق الأمر على دول التحالف الإقليمي المُزمع الإعلان عنه، فهوامش تناقضات الأدوار والمصالح المزمنة فيما بينها، ستمنعها من السير لتحقيق الاستراتيجية الأميركية الجديدة، إضافة إلى اللايقين باستعادة الولايات المتحدة مكانتها الأولى، والمترافق مع الخوف منها، بعد استيلائها على أموال كل الدول التي أسقطتها أو مانعتها في سياساتها.
في النتيجة، إن سوريا مقبلة على مرحلة جديدة من التهديدات الأمنية، بعد تفعيل الاضطرابات الأمنية في الجنوب السوري، وتحريك تنظيم “داعش” في البادية السورية، إضافة إلى تهديد تركيا باجتياح ما تبقى من الشمال السوري.
يترافق ذلك مع وضع داخلي صعب، بافتقاد أدنى مقومات الحياة، وانقسام المجتمع السوري بين طبقة ثرية جديدة وغالبية اجتماعية تفوق 90% من السوريين تحت خط الفقر، منهم أكثر من60 % مهددون بأمنهم الغذائي الذي افتقدوه.
تستطيع سوريا أن تتجاوز التهديدات القادمة إذا ما استطاعت البدء بتغيير مسارات الداخل الاقتصادية والاجتماعية، كي تستطيع تلقّف فرص التحولات الدولية المقبلة، وخصوصاً أنها اختارت سياسياً الاصطفاف مع الدول الآسيوية الناهضة التي تراكم إنجازاتها، وتُصرف سياسياً بكسب المزيد من الحلفاء العرب، مثل الجزائر وتونس، وهي بذلك تستطيع تجاوز تهديدات الحلف الجديد الذي سيولد ميتاً من الناحية الفعلية.
Discussion about this post