“إنه أرفع جهاز حاسوب محمول في العالم”، كان هذا هو ما قاله ستيف جوبز عندما خرج جهاز “ماك بوك إير” للعالم لأول مرة عام 2008. كان “ماك وورلد” (Macworld) في ذلك العام حدثا استثنائيا لأبل، حيث أُقيم بعد أيام فقط من انتهاء معرض الإلكترونيات الاستهلاكية السنوي وتوديع بيل غيتس لشركة مايكروسوفت. قدَّم جوبز جهاز “ماك بوك إير” عن طريق إزالته من مظروف مكتب ورقي صغير، صادما الجمهور بمدى صغره ونحافته.
وكما هو متوقَّع، غيَّر الجهاز الجديد مستقبل أجهزة الحاسوب المحمولة. في ذلك الوقت، كان لدى المنافسين أجهزة حاسوب محمولة رفيعة وخفيفة الوزن في السوق، لكن سُمكها كان نحو بوصة واحدة، ووزنها يقترب من كيلوغرامين، مع شاشات مقاس 8 أو 11 بوصة. لم يكن لدى معظمها حتى لوحات مفاتيح كاملة، لكن شركة أبل تمكَّنت من إنشاء حاسوبها بحرفية، فكان الجزء الأكثر سُمكا منه لا يزال أرق من أنحف جزء من سلسلة “Sony TZ”، أحد أنحف أجهزة الحاسوب المحمولة عام 2008. لقد كان إنجازا هندسيا رائعا، وكان مُقدِّمة لحقبة جديدة لأجهزة الحاسوب المحمولة.
قبل “ماك بوك”، أُعلن عن أول هاتف من أبل المعروف باسم “آيفون” (iPhone) في 29 يونيو/حزيران 2007. على الرغم من أنه لم يكن أول هاتف ذكي، فقد قفز إلى ما هو أبعد من المنافسة وأطلق ثورة الهاتف المحمول، ما فعلته أبل ترك عددا قليلا من الصناعات أو المجتمعات دون تغيير.
عندما كشف ستيف جوبز النقاب عن آيفون لأول مرة، وصفه بأنه “هاتف محمول ثوري”، و”جهاز اتصال غير مسبوق بالإنترنت”. وعلى الرغم من أنه يُطلَق عليه “هاتف”، فإن الدخول إلى الإنترنت من خلاله كان له أكبر تأثير على العالم. أدَّى ذلك إلى تغيير طريقة وصولنا إلى المعلومات إلى الأبد.
قدَّمت أبل مفهومين مهمين للغاية سيظلان في صميم أجهزة الحاسوب المحمولة لسنوات قادمة: شاشة اللمس، ومتجر التطبيقات. في العقد الذي تلا ذلك، تسبَّب هاتف أبل الذكي في حدوث تحوُّل مجتمعي. أصبحنا دائما على اتصال، بالعمل، بأصدقائنا، بأولئك الذين نريد أن نكون مثلهم ويريدون أن يكونوا مثلنا. أصبحت الهواتف رفيقنا الدائم، مما يُتيح لنا الهروب إلى ألعاب الهاتف المحمول التي كانت تتطلَّب ذات مرة تشغيل أنظمة ألعاب منفصلة كاملة، والوصول إلى مكتبة عالمية هائلة من الموسيقى، وتصفح مختلف المعارف البشرية. لقد تجاوز هاتف أبل وجميع الأجهزة التي استلهمته منذ لحظة إنشائه “المألوف”، ليصبح المحمول جزءا من حياتنا اليومية.
أُطلق متجر التطبيقات في عام 2008 -بعد عام من إطلاق آيفون- مع 500 تطبيق. يوجد الآن 2.1 مليون تطبيق على متجر تطبيقات أبل، و3.4 ملايين تطبيق على متجر بلاي المنافس له، وفقا لشركة قياس التطبيقات “App Annie”. حوَّلت التطبيقات الهواتف إلى جهاز متكامل، من بنك إلى جهاز ألعاب فيديو وحتى حساس للحركة وبوصلة. في الواقع، يمكن أن يكون مخزن الحنين إلى الماضي مليئا بالعناصر اليومية التي حلَّت محلها الهواتف الذكية: الخرائط، والمصابيح اليدوية، والساعات، والماسحات الضوئية، وكاميرات الفيديو، والتقويمات، والآلات الحاسبة، وغيرها. في الربع الأول من عام 2017، نمت عائدات التطبيقات في آب ستور وغوغل بلاي إلى 10.5 مليارات دولار. (1)
قدَّم لنا جهاز أبل أيضا مفهوم الوسائط الاجتماعية أثناء التنقل. بين عشية وضحاها، أصبح هناك عالم جديد من المشاركة (والإفراط في المشاركة) متاحا بلمسة واحدة على شاشة هاتفك كل لحظة، وأصبحت مشاركة وجبة مع متابعيك أمرا بسيطا مثل التقاط صورة. حسنا، ربما لم يكن الأمر “بسيطا” في ذلك الوقت، لكنه كان بالتأكيد أفضل بكثير من الاضطرار إلى الانتظار لاستخدام سطح المكتب في كل شيء.
نحو الشاشة الكبيرة
لاحقا، وضعت الهواتف الذكية، جنبا إلى جنب مع تطبيقات تحرير الصور المصاحبة لها، كاميرات جيدة في جيوب الجميع، وأصبحنا جميعا مُصوِّرين غزيري الإنتاج. أدَّى الارتفاع المتزامن لمنصات التواصل الاجتماعي بدوره إلى منحنا مكانا وسببا لنشر صورنا. هذا العام، ستُلتقط 1.2 تريليون صورة رقمية في جميع أنحاء العالم، 85% منها عبر الهواتف (2)، مقارنة بـ 400 مليار صورة رقمية التُقطت عام 2011، وفقا لشركة أبحاث السوق “KeyPoint Intelligence”.
لفهم مدى ثورية آيفون حقا في التصوير الفوتوغرافي، ما عليك سوى إلقاء نظرة على بعض الإحصائيات. شهدت مبيعات الكاميرات انخفاضا كبيرا منذ عام 2011، ومع ذلك فقد وصل عدد الصور التي يلتقطها الأشخاص في عام واحد إلى أكثر من تريليون صورة منذ عام 2017. في عام 2015، تجاوز آيفون كاميرات “DSLR” التي أنتجتها العلامات التجارية القديمة “نيكون” (Nikon) و”كانون” (Canon)، وبات هو الكاميرا الأكثر استخداما بين 120 مليون مصور يشاركون الصور على موقع “فليكر”. (3)
يبدو “فليكر” موقعا لكبار السن مقارنة بالبديل الذي ظهر لاحقا: إنستغرام، التطبيق الأكثر شعبية لتبادل الصور الفوتوغرافية ومشاركتها على الفور، الذي يضم اليوم أكثر من مليار مستخدم نشط (4)، وتُشير التقديرات إلى أن أكثر من نصف هؤلاء المستخدمين يستخدمون الآيفون. في السياق ذاته، أجرى مركز “بيو” للأبحاث استطلاعا لمستخدمي الهواتف الذكية، ووجد أن 92% قالوا إن الكاميرا كانت الميزة الأكثر استخداما على هواتفهم، أكثر من المكالمات أو رسائل البريد الإلكتروني أو تصفح الإنترنت. (5)
بعد ذلك، بدأت صور آيفون في الظهور على جدران المعرض باعتبارها فنونا جميلة، وعلى الصفحة الأولى لصحيفة نيويورك تايمز بوصفها جزءا من تقرير قتالي لمصور حرب. بنى المصورون المحترفون المتابعات على إنستغرام من خلال أعمال خاصة بالآيفون فقط أدَّت إلى رفع مستوى علاماتهم التجارية وجعلهم من المشاهير. عندما بدأ الصحفي “ريتشارد كوتشي هرنانديز” التصوير باستخدام آيفون، تخلَّص من كاميراته الاحترافية، ووضعها جانبا ولم ينظر إلى الوراء أبدا.
هرنانديز ليس الصحفي الوحيد الذي يستخدم آيفون في عمله، فبالمثل تخلَّصت محطة “FTV” السويسرية من الشاحنات الحية التي تحمل معدات التصوير باهظة الثمن، وأرسلت المراسلين إلى الميدان مع جهاز آيفون على عصا سيلفي، حيث يمكنهم تسجيل مواقفهم الخاصة والبدء في البث المباشر باستخدام تطبيق البث. (6)
الأمر لم يتوقَّف على منصات التواصل الاجتماعي والإعلام، حيث انتقلت الأفلام المنتجة على أجهزة أبل إلى الشاشة الكبيرة. (7) واليوم يوجد مجتمع كبير من صانعي الأفلام عبر الأجهزة المحمولة، يمكن العثور على العديد منهم على مواقع “فيميو” و”يوتيوب”. في مهرجان “صندانس” السينمائي عام 2015، حصل فيلم “Tangerine” على آراء حماسية بسبب الحوار والبراعة الفنية في التصوير السينمائي. استخدم صانعو الأفلام جهازَيْ هاتف “آيفون 5 إس” وعدسة إضافية غير مكلفة لالتقاط المشاهد السينمائية.
قد يكون من الصعب تخيُّل أن الهاتف الذكي يحل محل جميع المعدات التي يستخدمها المصورون المحترفون اليوم، لكن كونراد ميس، الذي أخرج خمسة أفلام كلها على آيفون وفاز بالعديد من الجوائز في مهرجانات الأفلام على الهاتف المحمول، يعتقد أن صناعة الأفلام على الهواتف الذكية ستجذب المزيد من الناس إلى صناعة الأفلام، ويؤكِّد: “لقد حدث التغيير بالفعل. الجميع يُصوِّرون مقاطع فيديو في الشوارع وفي الإجازات وفي المناسبات. أذهب إلى فصول دراسية ومؤتمرات لأُظهر للناس ما يمكن فعله بهاتف ذكي إذا كنت مهووسا بدرجة كافية”
ربما لم يكن ستيف جوبز عالِما أو تقنيا متخصِّصا، لكنه كان رائد أعمال متحمسا للمستقبل، قادرا على دفع المطورين إلى حدودهم القصوى، وهو ما مَكَّننا من رؤية واختبار أشياء لم تكن في الحسبان. لقد امتلك قدرة فريدة على فهم احتياجنا واحتياجات عالمنا، ليس فقط ما نريده الآن، ولكن الأهم، ما الذي يمكن أن نريده في المستقبل.
Discussion about this post