كان الصومال العربي منذ ما يُسمّى بـ”الربيع العربي”، الذي بدأ بتقسيم السودان العربي إلى جنوب وشمال، ساحة للمنافسة السياسية، وأحياناً للصراع الاقتصادي والأمني والاستخباراتي بين تركيا والإمارات، مثلما كان الوضع عليه في ليبيا.
ففي الوقت الذي كانت أنقرة تدعم الرئيس السابق فارماجو، كانت أبو ظبي تقف إلى جانب الرئيس الأسبق حسن شيخ محمود (كان رئيساً بين أيلول/سبتمبر 2012- شباط/ فبراير 2017)، وتم انتخابه من جديد رئيساً للصومال في أيار/ مايو الماضي.
وتحدثت المعلومات، آنذاك، عن دعم أميركي وإسرائيلي لحسن شيخ محمود خلال فترة الانتخابات، التي جعلت من هذا البلد العربي المهم جداً بموقعه الاستراتيجي محط أنظار الجميع. وتحدثت المعلومات، الأسبوع الماضي، عن استعدادات الرئيس شيخ محمود للقيام بزيارة، سرية أو علنية، إلى “تل أبيب”، قبل قمة الرئيس بايدن في جدة، أو بعدها. وستكون هذه الزيارة، إن تحققت، انتصاراً للدبلوماسية الإماراتية، التي تفوّقت على الدبلوماسية التركية ببنودها السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية.
فلكل من الإمارات وتركيا قواعد عسكرية في الصومال، أيضاً تقوم الدولتان بتدريب القوات المسلحة والعناصر الأمنية الصومالية، في الوقت الذي تنشط الشركات التركية، بشكل أوسع، في مختلف القطاعات الصومالية. ويعيش حوالى 100 ألف صومالي في تركيا، التي تحتضن الآلاف من الشابات والشباب الصومالي في جامعاتها، بعد أن دربت ما لا يقل عن 20 ألفاً من عساكرها، وعلّمتهم لغتها وزوّدتهم بالأسلحة التركية.
وجاءت زيارة شيخ محمود إلى الإمارات في 19 حزيران /يونيو الماضي كأول وجهة خارجية له، بعد انتخابه، لتثبت مدى أهمية الدور الإماراتي المحتمل وثقله في الصومال، الذي يعيش مشاكل داخلية معقدة مع استمرار نشاط حركة الشباب الإسلامية.
ودفع “الغرام” الصومالي – الإماراتي هذا البعض من الأوساط إلى الحديث عن لقاء سري جمع شيخ محمود مع مسؤولين إسرائيليين في أبو ظبي؛ للتحضير لاتفاقيات التطبيع الشامل بين الطرفين. وهو ما لم يتفاجأ به أحد؛ لأن المعلومات كانت قد تحدثت عن زيارة قام بها شيخ محمود إلى “تل أبيب”، سراً، في تموز /يوليو 2016، والتقى خلالها رئيس وزراء الكيان الصهيوني نتنياهو.
ويُعرف عن نتنياهو اهتماماته الشخصية بالقرن الأفريقي، وأفريقيا عموماً، بسبب مقتل شقيقه يونتان خلال عملية “الجيش” الإسرائيلي في مطار عنتيبي في أوغندا، في 27 حزيران/يونيو 1976؛ لتحرير رهائن طائرة الخطوط الجوية الفرنسية التي اختطفها فدائيو الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
وصادفت معلومات زيارة شيخ محمود، آنذاك، إلى “تل أبيب” القمة التي حضرها نتنياهو في عنتيبي، وشارك فيها زعماء كل من: أوغندا ورواندا وإثيوبيا وكينيا وتنزانيا وجنوب السودان وزامبيا. فيما يعرف الجميع حجم الاهتمام الإسرائيلي، السري منه والعلني، بالصومال العربي منذ استقلاله عام 1960.
عودةً إلى زيارة الرئيس إردوغان إلى الصومال في آب /أغسطس 2011، أي مع بدايات ما يُسمّى بـ”الربيع العربي”، فقد أثارت، آنذاك، اهتمام العواصم الإقليمية والدولية، ما دفع هذه العواصم إلى الاستعجال في الانفتاح على الصومال. فأعادت واشنطن وبكين وموسكو فتح سفاراتها في العاصمة مقديشو مع اهتمام إيطالي وبريطاني تقليدي بمستعمراتها السابقة، كما تحظى باهتمام فرنسي أيضاً لأهمية موقعها الاستراتيجي جداً.
فالصومال يملك موقعاً شديد الأهميَّة بالنسبة إلى التجارة العالمية، وتموضعه الجغرافي الذي يجعله نقطة تقاطع لعدَّة مناطق بالغة الأهمية جيوسياسياً. ويبلغ إجمالي طول السواحل الصومالية حوالى 3 آلاف كم، وتمتد المياه الإقليمية الصومالية إلى 200 ميل بحري داخل مياه المحيط الهندي. ويسيطر الصومال على خليج عدن والمحيط الهندي ومدخل باب المندب، الذي يشهد مرور قوافل التجارة البحرية عبر قناة السويس، بالإضافة إلى إطلالته على شبه الجزيرة العربية وحدوده الممتدَّة مع إثيوبيا وعمقها الأفريقي غرباً وجنوباً. ويمر من باب المندب حوالى 5 ملايين برميل نفط يومياً، بالإضافة إلى 30 ألف رحلة بحرية قرب سواحل الصومال وتقدّر قيمتها بما لا يقل عن 300 مليار دولار سنوياً.
وساعدت كل هذه المعطيات تركيا على تحقيق مكاسب سريعة وكبيرة في جميع علاقاتها وفعالياتها في الصومال، الذي تحوّل إلى ساحة مفتوحة لمجمل الأنشطة التركية، السرية منها والعلنية، سياسياً واقتصادياً وأمنياً. ووقعت أنقرة على العديد من اتفاقيات التنقيب عن الغاز والبترول في المياه الصومالية، وتوسطت لحل خلافاتها مع كينيا في ما يتعلق برسم الحدود البحرية المشتركة معها.
واختارت أنقرة الصومال مكاناً لإطلاق الأقمار الصناعية لقربه من خط الاستواء، وبادرت إلى إنشاء ميناء فضائي في الصومال وصيانته، وتبلغ كلفته حوالى 350 مليون دولار. ووصل حجم المساعدات التركية للصومال إلى مليار دولار، بحسب كلام الرئيس إردوغان، خلال استقباله الرئيس الصومالي شيخ محمود، في أنقرة 6 تموز /يوليو.
ودفعت هذه الزيارة الأوساط الدبلوماسية إلى الحديث عن احتمالات الاتفاق الإماراتي – التركي للعمل المشترك في الصومال، وتشجيعها على التطبيع مع الدولة اليهودية، في إطار الاتفاقية الإبراهيمية، وعرابها الرئيسي هو محمد بن زايد، الذي سبق للرئيس إردوغان أن اتهمه بـ”خيانة القضية الفلسطينية، وهدد بقطع العلاقات الدبلوماسية معه”، عندما وقع على اتفاقية التطبيع مع “تل أبيب” في أيلول /سبتمبر 2020.
لكن، لم يمنع هذا التطبيع إردوغان من الدخول في حوار سري وعلني مع ابن زايد، الذي زار أنقرة في 24 تشرين الثاني/ نوفمبر العام الماضي، ليرد إردوغان عليها بزيارة أبو ظبي في 14 شباط / فبراير الماضي، وذلك قبل شهر من زيارة الرئيس الإسرائيلي هرتسوغ إلى أنقرة في 9 آذار/مارس.
وكان ذلك كافياً للحديث عن تنسيق تركي -إماراتي-إسرائيلي حول العديد من القضايا الإقليمية (أهمها سوريا والعراق وإيران)، ومنها تشجيع الرئيس الصومالي شيخ محمود على التطبيع مع “إسرائيل” بدعم من الإمارات، ومباركة من تركيا التي لها دور مؤثر وكبير في الصومال، وفيها أكبر سفارة وقاعدة عسكرية تركية في الخارج، كما هو الحال في سوريا والعراق وليبيا.
وكانت ليبيا، حتى الماضي القريب، ساحة لمنافسات تركية-إماراتية يبدو أنها انتهت، أو على وشك أن تنتهي، بعد مصالحة الأمير تميم (حليف إردوغان) مع الرئيس السيسي (المدعوم من الإمارات والسعودية)، المنافس الأكبر لإردوغان في ليبيا.
وكل ذلك ضمن فصول مسرحية المضحك المبكي التي أعدّها وأخرجها الأميركيون. ويبدو أنهم يستعدون لفصل جديد في هذه المسرحية التي يتسابق ممثلوها للعب دور البطولة فيها. وهو ما يتطلب منهم التوصل معاً إلى حل مشترك للأزمة الليبية بتسليم السلطة لرئيس الوزراء فتحي باش آغا ذو الأصول العثمانية، على أن يلحق هو الآخر بقطار التطبيع مع “إسرائيل”، وهو ما سيفعله الصومال قريباً، والبعض يتحدث عن خطوة موريتانية في الاتجاه نفسه.
وكل ذلك بعد أن اتفق الجميع على العودة إلى نهجهم الأول والمشترك في سوريا، ويريدون لها أن تبقى هكذا إلى أن تقرر “تل أبيب” ما الذي ستفعله مع طهران قبل الاتفاق النووي أو بعده، وبات واضحاً أن واشنطن ليست مستعجلة في هذا الموضوع، ما دام حكام المنطقة يأتمرون بأوامرها، وآخرون على الباب ينتظرون تعليماتها، بل وتعليمات “تل أبيب” ومباركتها الدينية!
حسن محلي
Discussion about this post