كتبت د. ليلى نقولا
كشف الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله في خطابه الأخير أن “هناك من يريد لهذا الشعب أن يموت جوعاً، وأن نقتل بعضنا على أبواب الأفران ومحطات البنزين، وإذا كان الخيار أن لا يُساعَد لبنان ويُدفع باتجاه الجوع، فالحرب أشرف بكثير”.
وحدد السيد نصر الله الأهداف التي يريدها لبنان، والتي من الأفضل أن تتحقق بالمفاوضات، وإلا فلبنان مستعد لخوض الحرب لتحقيقها، باعتبارها عملية إنقاذية، وهذه الأهداف هي: “ليست فقط الاعتراف بالحدود البحرية، بل الإذن للشركات بالقدوم واستخراج النفط والغاز. المسألتان بحاجة إلى حل. فلا يكفي أن يقولوا هذه حدودكم وممنوع على الشركات الاستخراج وإلا يكون الإنجاز ورقياً”.
وهكذا، وخارج إطار المجال الإقليمي المحدود، والأهداف اللبنانية البحت في هذه القضية، يمكن القول إن التطورات العالمية المتسارعة والتعسف الذي مارسه الأميركيون في استعمال سيف العقوبات على المعارضين لسياساتهم، سوف يخرج هذه الآليات من يد الأميركيين للاستخدام كسلاح سياسي، ونذكر من ضمن تلك التطورات ما يلي:
1- إنشاء منظمات مالية دولية موازية
سيطرت الولايات المتحدة الأميركية على المؤسسات الدولية، التي تأسست بعد الحرب العالمية الثانية، والتي تُعرف باسم “مؤسسات بريتون وودز”، وهما: “البنك الدولي للإنشاء والتعمير” (البنك الدولي) الذي تأسس رسمياً عام 1944، و”صندوق النقد الدولي” عام 1945.
وسرعان ما تحوّلت هذه المؤسسات إلى أدوات تحقق من خلالها الولايات المتحدة أهدافاً سياسية عالمية، أهمها: الضغط على الدول المتعثرة عبر إمساك ورقة الإقراض، وتسويق المبادئ الرأسمالية لمصلحة الشركات وعلى حساب الشعوب، وذلك عبر تشجيع الخصخصة والتخلي عن القطاع العام، والتقديمات الاجتماعية وسواها…
ولأن المؤسسات الدولية يجب أن تعكس التغيرات في الاقتصاد العالمي، وبهدف زيادة صوت الاقتصادات الناشئة والبلدان النامية وتمثيلها، قامت مجموعة “بريكس” بإنشاء آليات موازية لـ”مؤسسات بريتون وودز” في قمتها السادسة التي عقدت في البرازيل في 14-16 تموز / يوليو 2014، وهما: “بنك التنمية الجديد” (NDB) و”ترتيب الاحتياطي الطارئ” (CRA).
وبدأ بنك “التنمية الجديد” بالتوسع (موازنته المقترحة 30 مليار دولار)، فتمّ قبول أول أربعة أعضاء جدد عام 2021 وهم: بنغلاديش ومصر والإمارات العربية المتحدة وأوروغواي، وينتظر أن تنضم العديد من الدول الأخرى إليه بعد الحرب الأوكرانية.
2- إنشاء بديل لنظام “سويفت”
“سويفت” هي اختصار لعبارة “جمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك (SWIFT)، وهي جمعية مقرها بلجيكا تقدم خدمات تتعلق بتنفيذ المعاملات المالية والمدفوعات بين البنوك، واستطاعت أن تسيطر على غالبية التحويلات المالية في جميع أنحاء العالم. وتتمثل وظيفتها الرئيسية في أن تكون بمنزلة شبكة الرسائل الرئيسية التي تتم من خلالها المدفوعات الدولية.
عام 2001، أصدرت الولايات المتحدة الأميركية “برنامج تتبع تمويل الإرهاب”، وبموجبه حصل الأميركيون من “سويفت” على بيانات كل حركات تحويل الأموال عبر العالم والبنوك، وعلى معلومات عن الزبائن وأماكن سكنهم وتفاصيل أخرى.
وكشفت الوثائق التي سربها إدوارد سنودن أن وكالة الأمن القومي الأميركي (NSA) تراقب على نطاق واسع جميع المعاملات المصرفية عبر “سويفت”، وكذلك معاملات بطاقات الائتمان، وأن الوكالة تحتفظ ببيانات من شبكة SWIFT التي تستخدمها آلاف البنوك لإرسال معلومات المعاملات بشكل آمن.
وتطور الأمر، فانتقل الأميركيون من مجرد تعقّب حركة أموال “الإرهاب” إلى استخدام “سويفت” كأداة للعقوبات، فاستخدمها الأميركيون والأوروبيون ضد إيران بداية، إذ أخرجوا البنوك الإيرانية من نظام “سويفت”، ثم ضد روسيا.
لاحقاً، قامت كل من روسيا والصين بإنشاء آلياتهما الداخلية الخاصة بتحويل الأموال. وبعد الحرب الأوكرانية مباشرة، تزايدت الحاجة إلى تفعيل تلك الآليات، وتتجه الأنظار إلى الآلية الصينية، وهي أكبر حجماً وانتشاراً من الآلية الروسية، كخيار تستخدمه الدول التي تريد التجارة مع الصين، وتلك التي تريد الالتفاف على العقوبات والتجارة مع كل من روسيا وإيران، مستخدمين العملات المحلية بديلاً من الدولار الأميركي.
3- معادلة لبنانية جديدة: رفض سياسة التجويع
لا شكّ بأن لبنان يقع تحت تأثير سياسة الضغوط القصوى التي طبقها الرئيس الأميركي دونالد ترامب على كل من إيران ولبنان وسوريا وفنزويلا، والتي أسهمت في تعميق أزمة لبنان الاقتصادية، والتي تتجلى أهدافها في ما أعلنه وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو” إما أن يواجه اللبنانيون حزب الله، أو يواجهوا الجوع والمصاعب الاقتصادية”.
ويعدّ منع التنقيب عن الغاز في المياه اللبنانية جزءاً من تلك الاستراتيجية، إذ كشف رئيس الجمهورية اللبنانية ميشال عون أن شركة “توتال” تعرضت لضغوط أميركية لوقف عملها في البلوك رقم 4، وعدم مواصلة الاستكشاف.
وكان لافتاً الصمت الإسرائيلي والأميركي حول خطاب السيد حسن نصر الله الأخير، الذي هدد فيه بأن لبنان مستعد للذهاب إلى الحرب في حال استمرت المماطلة الأميركية في حسم ملف الحدود البحرية، وأهمها إذا استمرت الضغوط الأميركية على الشركات العالمية لمنعها من التنقيب والاستكشاف في البلوكات البحرية حتى تلك البعيدة عن الحدود الجنوبية، ما يعني أن الطرفين يدركان أن لبنان لن يقبل بأن يموت جوعاً من دون أن يحرك ساكناً.
في النتيجة، لقد عانت دول العالم من تأثير القرارات والعقوبات الأميركية، حتى تلك الأحادية منها، وكان لا بد من إيجاد سبيل للحياة في ظل سياسة الخنق التي تؤديها العقوبات على الشعوب اقتصادياً واجتماعياً وحياتياً. وهكذا، وتطبيقاً للقول القائل “إن أي سلطة لا تحدّها سلطة تجنح إلى التعسف”، تعسَّف الأميركيون في أدوات القوة التي يملكونها، فكانت حاجة العالم إلى التمرد. لا شك بأن هذا التمرد، وخلق آليات موازية، سيؤديان في النتيجة إلى كسر الهيمنة والاحتكار، وسيفتحان الباب لتشكيل نظام عالمي جديد.
Discussion about this post