كشفت استقالة رئيس الوزراء الإيطالي ماريو دراغي، عن هشاشة وضعف اوروبا. فمنذ اندلاع المواجهة الاطلسية ــ الروسية في 24 شباط/فبراير الماضي، والنكبات والازمات تلاحقها من كل حدب وصوب، بدءًا من ارتفاع أسعار الطاقة، مرورا بهبوط العملة وارتفاع التضخم، وصولا الى القيادة المتعثرة وليس انتهاء بالتخبط في كيفية التعاطي مع العملية العسكرية الروسية الجارية في أوكرانيا.
المفارقة انه في كل هذا المشهد الأوروبي المتغير والمتعثر، تحضر روسيا التي تشاهد بهدوء (غير اسفة طبعا) تساقط الصقور الاوروبيين ــ الذين كانوا رأس الحربة في التحريض والدفع بفرض العقوبات عليها ــ واحدا تلو الاخر، حيث كان سبق دراغي نظيره البريطاني بوريس جونسون، وما بينهما يوجد الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون الذي اصبح كالبطة العرجاء، بعد خسارته الاغلبية النيابية في الانتخابات البرلمانية التي جرت الشهر الفائت.
كيف أُسقِطت حكومة الوحدة الوطنية لدراغي؟
في الواقع تشتهر إيطاليا بسياساتها المتقلبة رأساً على عقب، لكن الاضطراب الأخير فاجأ البلاد على حين غرة، حيث أتت قبل عطلة الطبقة السياسية لقضاء إجازتها الصيفية.
كان دراغي لمدة 17 شهرًا، قوة موحدة نادرة في السياسة الإيطالية، يحظى بدعم واسع من اليسار إلى اليمين. لكن هذه الوحدة تعثرت مع استبدال المخاوف الوبائية بالتضخم، والجفاف غير المسبوق، والازمة الاوكرانية.
جاءت استقالة رئيس الوزارء الايطالي ردًا على تمرد حصل في حكومة الوحدة الوطنية التابعة له، عندما أعلن قادة ثلاثة أحزاب ائتلافية أنهم يفضلون مساراً آخر وأفضل حظاً مع الانتخابات المبكرة. وقررت هذه الاحزاب الثلاثة وهي: حزب “فورتسا إيطاليا” (يمين وسط) بزعامة سيلفيو برلوسكوني، و”الرابطة” (يمين متشدد) بزعامة ماتيو سالفيني، و”حركة خمس نجوم” الشعبوية المعادية للهجرة، التصويت بحجب الثقة عن الحكومة، وقالت إنه لم يعد بإمكانها التعاون مع دارغي.
استنادا إلى الارقام، فاز دراغي في التصويت الذي جرى الاربعاء الفائت في 20 الجاري في مجلس الشيوخ الايطالي، ولكن نتيجة قرار هذه الاحزاب الثلاثة اعلاه، بعدم المشاركة، أُجهضت فعليا حكومة الوحدة الوطنية. ولذلك أصبح الانهيار رسميًا صبيحة اليوم التالي، عندما قدم دراغي استقالته للرئيس سيرجيو ماتاريلا الذي طلب منه البقاء في منصبه لتصريف الأعمال.
سقوط رئيس وزراء إيطاليا في مواجهة موسكو.. “كش ملك”
ماذا عن الاسباب الحقيقة لاستقالة دراغي؟
كما هو معلن، يعتبر الجدل حول محرقة النفايات المقترحة في روما السبب الرئيسي للازمة السياسية الايطالية التي عصفت بالحكومة وادت الى استقالة دراغي. لكن الأحزاب الإيطالية نفسها التي كانت تدعم دراغي، رأت ان لديها الآن أسبابا لتفضيل الانتخابات، إذا أتيح لها الاختيار.
وعليه، بزرت مخاوف داخل روما واوروبا، من ان ما سيأتي بعد ذلك بالنسبة لإيطاليا، بمجرد إجراء الانتخابات، قد يكون مختلفًا كثيرًا. من المرجح أن تجمع الحكومة المقبلة مجموعة من الأحزاب القومية، وأحزاب يمين الوسط (وجميعهم مقتنعون بأنهم قد يفوزون بأي تصويت يتم إجراؤه في الأشهر المقبلة) بما في ذلك بعض الأحزاب التي تتبنى وجهات نظر متشككة في أوروبا ومؤيدة لروسيا.
كيف كان موقف دراغي من الازمة الاوكرانية؟
تضع استقالة دراغي نهاية محطمة لفترة من الوحدة السياسية النسبية في روما وتزعزع استقرار ثالث أكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي، حيث كان ينظر إلى دراغي على نطاق واسع على أنه ضامن لاستقرار ايطاليا. لمدة عام ونصف، قاد دراغي الوسطي حكومة واسعة من اليسار إلى اليمين، وبنى سمعته – التي بنيت كأكبر محافظ سابق للبنك المركزي في أوروبا – لزيادة نفوذ إيطاليا في بروكسل والتأكيد بقوة على خط أوروبي متشدد ضد روسيا في “معاركها في أوكرانيا”.
كان دراغي يعد رمز المواجهة الأوروبية ضد موسكو والعملية الروسية في اوكرانيا،
ففي بروكسل، يحظى دراغي باحترام واسع النطاق لعمله السابق في مجال الادخار في منطقة اليورو كأكبر محافظ للبنك المركزي في أوروبا، منح دراجغي إيطاليا مستوى من النفوذ السياسي نادرا ما تتمتع به.
علاوة على ذلك، ومنذ انطلاق العملية العسكرية الروسية في اوكرانيا، أيد رئيس الحكومة الايطالية العقوبات ضد روسيا، وساعد إيطاليا في محاولة إيجاد مصادر بديلة للطاقة، حيث كان يخطط لرحلة إلى الجزائر طمعاً بالحصول على الغاز.
اين روسيا في المشهد الايطالي المأزوم؟
كانت إيطاليا (دراغي) أول دولة غربية كبرى تدعم علنا عضوية أوكرانيا النهائية في الاتحاد الأوروبي. ليس هذا فحسب، بل بدأ دراغي فعلياً تطبيق خطة إبعاد إيطاليا عن علاقة غامضة مع روسيا بوتين، وبدا مرتاحا أكثر في موقفه الواضح ضد موسكو من الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون أو المستشار الالماني اولاف شولتز.
في الأيام الأخيرة، حذر بعض السياسيين الموالين لدراغي، من أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يتلاعب بالازمة الايطالية. واستشهدوا على ذلك بتصريح لبوتين اكد فيه مؤخرًا: “أننا لدينا العديد من المؤيدين، بما في ذلك في الولايات المتحدة وأوروبا ، وأكثر من ذلك في قارات أخرى وفي دول أخرى. وسيزداد عددهم بلا شك”.
وانطلاقا من هنا، ولدت استقالة رئيس الحكومة الايطالية في اوروبا، شعورا بالمرارة الاوروبية وتحديداً الايطالية المصحوبة بالقناعة من ان القادة الروس تناولوا الانخاب فيما بينهم في موسكو، “لأن رأس ماريو دراغي قدم إلى بوتين على طبق من فضة”.
اما ما يقضّ مضاجع الاوروبيين ومعهم قيادات ايطالية مؤيدة (للنهج الاطلسي) ان هناك مجموعة من السياسيين الإيطاليين، من يمين الوسط واليمين المتطرف المتعاطفين مع بوتين، ينتظرون في الاروقة السياسية للوصول الى الحكم. وبالتالي من شأن إجراء انتخابات مبكرة، وهو أمر محتمل إن لم يكن مرجحا بعد، أن يوصل أحدهم إلى السلطة.
لكن، بالرغم من ذلك، يبدو انه من غير الواضح ما هو نوع النهج الذي ستتخذه هذه الأحزاب بمجرد وصولها إلى السلطة، خصوصا وان جورجيا ميلوني، التي يعد حزبها القومي “إخوان إيطاليا” الحزب الأكثر شعبية في البلاد وجماعة المعارضة الوحيدة، كانت مواقفها ضبابية فيما يتعلق بالازمة الاوكرانية، فهي من جهة دعمت كييف علنا ضد موسكو، ومن جهة اخرى عارضت ارسال حكومة دراغي السلاح لاوكرانيا.
في المحصلة، ان رحيل دراغي شكل ضربة قوية لاوروبا أمام موسكو، بعدما تحسّر قادتها على الخسارة التي منوا بها، فخروج دراغي اللاعب الأبرز في خط الهجوم الاوربي اعتبرها وزير الخارجية الإيطالي لويجي دي مايو: “لحظة مظلمة بالنسبة لإيطاليا”. “آثار هذا الاختيار المأساوي ستظل باقية في التاريخ.”
في حين ان الاكثر اهمية هو ما قاله إنريكو ليتا، زعيم “الحزب الديمقراطي الايطالي” يسار: “يجب أن نفكر في ما قد يعنيه ـ رحيل دراغي ـ لمقاومة بوتين، دراغي كان ولا يزال نقطة مرجعية لجميع القادة الأوروبيين”.
يبقى السؤال الأبرز مَن مِن بيادق الأطلسي في اوروبا سيكون التالي؟
Discussion about this post