تقترب الولايات المتحدة من خطوط النار. هكذا وصفت الصين هذه المرحلة الشديدة التوتر بين الجانبين. حتى ان الخلافات المتأججة بين بكين وواشنطن منذ عقود، قد وصلت إلى ذروتها. وعلى خلاف الحديث المتزايد عن احتمالية الصدام العسكري، تأسّياً بما حصل في أوكرانيا، يرى البعض ان “تايوان ليست أوكرانيا”، وان بكين تمتلك رفاهية الوقت الذي سيهديها، في النهاية، ما تريده في تايبيه، باستمرارها بسلوك المسار التصاعدي اقتصادياً وعسكرياً، لا غير. وهنا عرض لأبرز نقاط الاختلاف بين القضية الصينية والروسية عن طريق الإضاءة على المحددات الجيوسياسية التي تحكم كلا الطرفين إضافة لأوكرانيا وتايوان.
لكل من الصين وروسيا، حساباتهما الخاصة أيضاً. تختلف باختلاف تموضعهما الدولي والإقليمي، إضافة لقوتهما العسكرية والاقتصادية على المسرح العالمي.
فإذا كانت الصين تمتلك ثاني أكبر ناتج محلي في العالم، وتنوّع خياراتها التنموية والإنتاجية من صناعة التكنولوجيا الفائقة، إلى الزراعة والتصنيع كثيف العمالة، وما إلى ذلك وهو ما ساهم بارتباطها مع مختلف دول العالم بشكل قوي، فإن روسيا تعتمد بشكل أساسي على قطاع الطاقة. وبالتالي في حين الذهاب إلى الخيار العسكري، ولجوء واشنطن لسياسة العقوبات كالتي طبقتها على موسكو، فإن الصين ستتأثر بشكل أعمق عن الأثر الذي تركته العقوبات على روسيا، التي طوّعتها لصالحها واستثمرتها كورقة ضغط، نتيجة اعتماد الدول الأوروبية على نفطها.
وفي الوقت الذي تمتلك روسيا أكبر ترسانة في العالم، من حيث عدد الرؤوس الحربية النووية، وقوة تقليدية هائلة، وخاصة قوتها البرية. فإن الصين لم تبدأ في تحديث قواتها البحرية والجوية إلا في أواخر التسعينيات، بعد أزمة مضيق تايوان عام 1996.
كما تختلف الصين وروسيا في أولوياتهما الاستراتيجية. الغزو الروسي لأوكرانيا هو محاولة الرئيس فلاديمير بوتين لتأمين “المساحة القريبة” للبلاد، عند مواجهة توسع الناتو باتجاه الشرق. شعرت روسيا بضرورة مواجهة إمكانية انضمام أوكرانيا وغيرها إلى الناتو؛ في هذه الحالة، ستتدهور البيئة الاستراتيجية لروسيا بسرعة. شعرت موسكو أنه ليس لديها وقت للانتظار.
على النقيض من ذلك، لا تزال الأولوية الاستراتيجية للصين هي الحفاظ على بيئة سلمية تؤدي إلى النمو الاقتصادي للصين. الأساس المنطقي لذلك بسيط. إن “حلم الصين” للرئيس شي جين بينغ هو في الأساس تجديد شباب الأمة الصينية، وهو ما يعني ضمنيًا جعل الصين مرة أخرى مركز شرق آسيا. نتيجة لذلك، لا يؤدي صعود الصين إلى اندفاع للتوسع الإقليمي ولكنه يستدعي مهمة تاريخية طويلة المدى لتصبح قوة عظمى مكتملة الأركان. المنطق هنا هو: إذا كان بإمكان الصين الانتظار لمئات السنين لاستعادة مكانتها الصحيحة (نقلاً عن رواية “قرن الإذلال”)، فلماذا لا يمكنها الانتظار لعقد أو أكثر؟
ويشرح أستاذ العلاقات الدولية في معهد شنغهاي العالمي، تييجون زانغ، في مقال على موقع THE DIPLOMAT، أوجه الاختلاف بين تايوان وأوكرانيا.
ديموغرافياً:
بالنسبة لأوكرانيا، فمن حيث العرق، يصل عدد الأوكرانيين من مجمل حجم سكانها البالغ 48 مليون نسمة، ما يقارب 77%، بينما لا يتجاوز عدد الروس فيها الـ 20%. بينما يبلغ عدد الصينيين في تايوان 90%، في حين لا يتجاوز عدد السكان الأصليين الـ 10% من السكان البالغ عددهم 24 مليون. وقد يظن البعض، بناءً على التركيبة العرقية فقط، أنه سيكون من الأسهل بالنسبة للصين أن تتحد مع تايوان بدلاً من أن تستحوذ روسيا على الأراضي الأوكرانية. ولكن الأمر ليس بهذه البساطة.
منذ أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، دأبت الحكومة الصينية على تعزيز العلاقات الثقافية والاجتماعية وعلاقات القرابة مع الشعب التايواني. كان الغرض الأولي من هذه الخطوة هو الفهم (أو سوء الفهم) أنه مع المزيد من الاتصالات الثقافية والاجتماعية، سينمو التايوانيون مثل شعب الصين ويشعرون بشكل متزايد بانتمائهم إلى “الوطن الأم”. لكن خلال ولاية الرئيس التايواني، أواخر التسعينيات، تم تعزيز الهوية التايوانية، وهو ما يمثل تحديّاً جديّاً امام مساعي “إعادة التوحيد”.
اقتصادياً:
يبلغ الناتج المحلي الإجمالي لتايوان أكثر من ثلاثة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي لأوكرانيا. وتايوان أهم بكثير من أوكرانيا من الناحية التكنولوجية في المنطقة والعالم كمركز لتكنولوجيا المعلومات. خاصة كمنتج رئيسي للرقائق. في الواقع، دعت الولايات المتحدة مؤخرًا تايوان إلى المساهمة بشكل أكبر لحل النقص العالمي في أشباه الموصلات.
مع بداية القرن الـ 21، كتب روبرت روس، أنه من الناحية الجيوسياسية، فإن شرق آسيا هو ثنائي القطب، مع الولايات المتحدة باعتبارها القوة البحرية المهيمنة والصين القوة القارية المهيمنة، حيث تقع تايوان بين المجالين. في هذا الصدد، فإن من يسيطر على تايوان سيكسب ميزة على الآخر.
يمكن القول، بالنسبة لواشنطن، تايوان أكثر أهمية من أوكرانيا اقتصاديًا واستراتيجيًا. بل إن اليابان أكثر ترددًا في رؤية تايوان تتحد مع الصين، لأنها تعتبر مضيق تايوان جزءًا من شريان حياتها، لا سيما عندما يتعلق الأمر بأمن نقل الطاقة.
وهنا، يشير زانغ، إلى ان أحد العوامل الأكثر أهمية لكل من حرب أوكرانيا وحرب مضيق تايوان هو احتمال التدخل العسكري الأمريكي المباشر. بالنسبة لأوكرانيا، أوضحت الحكومة الأميركية أنها لن تنضم مباشرة إلى القتال. هناك صورة مختلفة جدا عن قضية تايوان. منذ إقامة العلاقات الدبلوماسية بين الولايات المتحدة وجمهورية الصين الشعبية في عام 1979، بما يتماشى مع قانون علاقات تايوان، حافظت الحكومة الأمريكية عن عمد على موقف غامض فيما يتعلق بالتدخل العسكري المباشر. كان هذا الغموض فعالاً في ردع كل من الصين عن استخدام القوة من أجل التوحيد وردع تايوان عن إعلان الاستقلال الرسمي.
ويخلص زانغ إلى القول ان تايوان تعد أكثر أهمية لمصالح الولايات المتحدة من أوكرانيا، ومن المرجح أن تثير رد فعل عسكري مباشر. على أقل تقدير، ستكون العقوبات الاقتصادية احتمالًا قويًا في حالة نشوب حرب على مضيق تايوان. وفي الوقت نفسه، فإن الصين لديها ما تخسره اقتصاديًا أكثر مما تخسره روسيا من اجراءات الولايات المتحدة وحلفائها.
في ظل هذه الظروف، فإن استخدام القوة لإعادة تايوان إلى “الوطن الأم” ليس خيارًا للصين الآن، ولن يكون كذلك في المستقبل المنظور، طالما أن هناك فجوة كبيرة بين الجيشين الصيني والأمريكي. المفهوم السائد في بكين هو أن الصين ستستمر في النمو بشكل أقوى اقتصاديًا وعسكريًا، وأن الوقت في صالح الصين. وبالاقتباس من “فن الحرب”، مع الصعود المستمر للصين، يمكن للصين في النهاية “الفوز دون قتال”.
جادل البعض بأن أحد الدروس التي ستتعلمها الصين من حرب أوكرانيا هو أن الصين بحاجة إلى التفكير بجدية قبل شن حرب إعادة توحيد ضد تايوان. هذا الدرس، مع ذلك، هو درس للمستقبل البعيد. إن الصين ليست في عجلة من أمرها لإعادة التوحيد، لا بالوسائل السلمية أو بالقوة. أفضل أمل للصين هو أن تواصل صعودها المستمر. عندما يكون التدخل العسكري المباشر مكلفًا للغاية بالنسبة للولايات المتحدة، فإن تايوان ستلتزم بشروط الصين وسيتم تحقيق “الفوز دون قتال”.
Discussion about this post