كانت حرب فيتنام هي الحرب الاكثر إيلامًا للدّاخل الامريكي منذ الحرب العالميّة الثّانية، والأكثر تأثيرًا على منظومة القيم حيث أدّت الى تحوّلات اجتماعية ما زالت مؤثّرة حتّى اليوم؛ حينها ظهرت أهميّة الجامعات كمحرّك سياسيّ مهم. وأهمية الحراك الطّلابيّ الجامعي الذي كان له دور في معارضة الحرب وكان المحرّك الاوّل للنّقابات ومجموعات الضّغط التي لحقت بذلك الحراك والتي استطاعت انهاء تلك الحرب، واصبحت معاداة الحرب والدّعوة الى ايقافها صاحبة الصّوت الذّهبي لأيّ مرشّح في أيّ انتخابات أمريكية تشريعية كانت أم رئاسية، وأدّت في النّهاية الى خسارة الدّيمقراطيين الحرب لصالح المرشح الجمهوري ريتشارد نيكسون وبأغلبيّة غير مسبوقة او حتى لاحقة.
من المفارقات أنّ تلك الفترة الزّمنيّة و التي عادت للتّكرار مؤخّرا، أنَّ جامعة كولومبيا التي تقود الحراك الطلابيّ المناهض للعدوان الوحشي على غزه و التي يطالب الحراك إدارتها بوقف الاستثمارات مع الشّركات (الاسرائيلية) أو تلك الامريكية الدّاعمة لدولة الاحتلال في جرائم الابادة و الدّمار التي ترتكبها في غزّة و القدس و الضّفّة الغربيّة، فكانت هي صاحبة الدّور الرئيس في الحراك الطّلابي الذي ناهض الحرب على فيتنام وكشف عيوبها وذلك إثر فضيحة مدويّة تفيد بأنَّ مختبرات جامعة كولومبيا وكليّاتها العلميّة تموّل صناعة الأسلحة المحرّمة دوليًّا وتساهم في تطويرها بحثيًّا، الأمر الذي اضطرَّ ادارة الجامعة في النّهاية لوقف تلك الاستثمارات و أفقد الإدارة الدّيمقراطية والرّئيس الامريكي الاسبق ليندن جونسون ادّعاءاته بأنَّه يخوض حربا أخلاقيّة، وفي سبيل الدّفاع عن حريّات الشّعوب، ولمناهضة الأنظمة الشّموليّة، و في سنوات لاحقة استطاع طلّاب جامعة كولومبيا لعب دور رياديّ في اجبار جامعتهم على سحب استثماراتها في جنوب افريقيا أيّام حكم البيض ، و كان لهذا الحراك دور كبير في نزع الشّرعيّة عن نظام الفصل العنصري و من ثمّ اسقاطه.
تعتبر مؤسّسات التّعليم الجامعي في العالم ذات دور مهمّ ورئيس في صناعة طبقة التّكنوقراط والإدارة وفي بناء شخصيّه المتعلم والمثقّف. وتحظى على الدّوام برعاية ودعم الدّولة، كما تتلقّى أموالا من الجمعيات الخيريّة وهيئات العمل الانساني، ولكن جامعات الولايات المتّحدة لها دور يتجاوز ذلك بكثير. وهي لا تحتاج الى رعاية الدّولة أو أهل الخير؛ إذ إنَّ لديها وقفيات (trust fund) ويصل أحيانا ما في هذه الصّناديق الى مئات المليارات من الدّولارات وربّما الى كسور من التّريليون وتذهب الجامعات بالأموال لاستثمارها حيث يمكن أن تحقّق أعلى الأرباح، كما أنّها الشّريك الفعلي والتّكنولوجي لوزارة الدّفاع الأمريكيّة وفي مجال صناعة الأسلحة، والطّائرات، والقنابل. وترتبط في علاقة وثيقة تجمع بين الجامعات الرّياديّة من جانب، ومدخلات التّصنيع الحربي من جانب آخر. كما أنّها الشّريك العلمي- التّكنولوجي للشّركات الكبرى ووكالة الفضاء الأمريكية (NASA)؛ يعني ذلك بالسّياسة أنّ كل ما يتعلّق بها هو شأن من شؤون الأمن القومي وأنّها ركن مكين من أركان الدّولة العميقة.
وإذا كان ما حدث صبيحة السّابع من تشرين الأوّل الماضي طوفانا حقيقيّا أغرق دولة الاحتلال، ويكاد في حال تدحرجت الحرب أن يصبح طوفانا اقليميا أخذت مؤشراته بالظّهور في البحر الاحمر بفعل المشاركة اليمنيّة، وفيما تقوم به المقاومة في لبنان والعراق من مشاغلة؛ فإنّ ما يجري في الجامعات الامريكية أوّلًا، ثمّ في جامعات أوروبيّة ثانيا، يبشّر بأنَّ مفاعيل الطّوفان الأوّل أخذت في التّدحرج والتّعاظم ككرة الثلج، أو بما يشبه طوفان نوح، أو انهيار سد مأرب كما تروي تواريخ الاساطير.
ما لا تريد إدارة الجامعات في الولايات المتّحدة إدراكه و مثلها الادارة الامريكيّة أنّ القمع، و تدخّل الشّرطة، و اعتقال الطّلاب و أساتذة الجامعات، و تهديد الطّلبة الذين يأخذون منحًا جامعية بحرمانهم منها في حال مشاركتهم، لا يحلّ الازمة و إنّما يؤدّي إلى تفاقمها، ثمّ إنَّ اتّهام كل من يعترض على سلوك إسرائيل بمعاداة السّاميّة و النّظر إليها باعتبارها فوق المساءلة، أصبحت مسألة آخذه بالتّهافت و الفشل، فما يراه العالم هو أنَّ (إسرائيل) هذه قد أصبحت معادية للإنسانية، فهل تصل الأمور في وقت من الأوقات لاعتبار الادارات الأمريكيّة شريكة (لإسرائيل) في جرائمها؟
هذا ما ينشط به طلاب جامعات النّخبة في الولايات المتّحدة، ومعهم الكثير من أساتذتهم، كما في جامعات العالم. الا أنّ جامعات بلادنا عامّة والجامعات الفلسطينية خاصّة لم يصلها الخبر حتى الآن وملتزمة ببيتين من الشّعر للشّاعر العراقي معروف الرّصافي:
يا قوم لا تتكلموا إنَّ الكلام محرّم
ناموا ولا تستيقظوا ما فاز الّا النّوم
Discussion about this post