في الوقت الذي افترض فيه الغرب وخصوصا اوروبا ـ “القارة العجوز” ديموغرافيًا، والعاجزة سياسيا ودبلوماسيا وحتى عسكريا المسلوبة القرار امريكيا ـ ان روسيا سترفع الراية البيضاء، وستطرق ابواب البيت الابيض وبروكسيل، صاغرة مستسلمة بعد فرض العقوبات الخانقة على قطاع النفط الروسي، انقلب سحر العقوبات على الساحر الغربي، بعدما اكتوى وما زال بنار الاسعار الملتهبة التي قفزت بشكل جنوني، لا سيما وقود السيارات، والديزل (اما الغاز فحدث ولا حرج، وهذا نقاش اخر)، فكان الاوروبيون اول المتضررين من هذه العقوبات التي ارتدت عليهم اولا واخيرا.
كيف حولت روسيا تهديد العقوبات على نفطها الى فرصة؟
لم تتأثر روسيا بالعقوبات الغربية على قطاع النفط لديها، فسرعان ما وجدت موسكو البديل عن اوروبا بسرعة، ونجحت بالتالي في تعويض زيادة الطلب على النفط الروسي بالتوجه نحو آسيا، بعد الانخفاض الحاد في عدد البراميل التي يتم بيعها إلى أوروبا جراء العقوبات، ما اطاح بجهود الغرب لمعاقبة موسكو بسبب عملياتها العسكرية في اوكرانيا، والاهم، ان خطوة الكرملين هذه حافظت في الوقت ذاته، على تدفق الإيرادات المالية لروسيا.
ليس هذا فحسب، كانت كل من الصين والهند الرابحتين والمستفيدتين الرئيستين، من العقوبات النفطية على روسيا، إذ ذهب معظم النفط الإضافي إلى هاتين الدولتين العملاقتين.
أكثر من ذلك، ارتفعت واردات الصين من النفط الروسي بنسبة 28 بالمائة، بين شهري ايار/ مايو ونيسان/أبريل من هذا العام، مسجلة مستوىً قياسيًا وصل الى حد تخطي روسيا للمملكة العربية السعودية كأكبر مورد نفط للصين. فيما حظيت الهند بمعظم الزيادة، بحصولها على أكثر من 760 ألف برميل يوميًا، وفقًا لبيانات الشحن التي حللتها شركة أبحاث السوق Kpler .
وفي هذا الإطار قال فيكتور كاتونا، المحلل في Kpler: “لقد أنقذت آسيا إنتاج الخام الروسي… فروسيا، بدلاً من السقوط أكثر، شارف انتاجها تقريبًا على الوصول الى مستويات ما قبل الوباء.”
ماذا عن الكميات التي تصدرها روسيا الى آسيا؟
مع أنه لم يتضح بعد إلى أي مدى ستستمر آسيا في شراء النفط، بينما حرمت أوروبا (نفسها مكرهة وتحت الضغط الامريكي) من الطاقة الروسية، إلا أن التحول نحو آسيا، سمح لموسكو بالحفاظ على مستويات إنتاجها، وتحدي توقعات المحللين بأن إنتاجها سينخفض.
هنا، قد يكون من المفيد جدا الاستعانة بلغة الارقام، التي تشير الى انه بعدما انخفضت مبيعات الخام الروسي الى اوروبا، بمقدار 554 ألف برميل يوميا في الفترة ما بين آذار/ مارس وايار/ مايو الماضيين، زادت شركات التكرير الآسيوية من حصتها البالغة 503 آلاف برميل يوميا من روسيا. وعليه هذا يعني ان موسكو نجحت باستبدال صادراتها النفطية وفق معادلة واحد بواحد، دون اية خسارة تذكر.
يقدر خبراء السلع في JP Morgan (هو بنك أمريكيّ متعدد الجنسيات للخدمات الماليَّة المصرفيَّة) أن الصين يمكنها شراء مليون برميل إضافي من الخام الروسي يوميا مع تعافي بكين من كوفيد-19، ومحاولتها إضافة المزيد إلى مخزوناتها الاستراتيجية من النفط الخام بثمن بخس، لا سيما ان خام الأورال الروسي، يتم بيعه بخصومات تصل الى 30 دولارا مقارنة بخام برنت، وهو (خام نفطي) يستخدم كمعيار لتسعير ثلثي إنتاج النفط العالمي، خصوصا في الأسواق الأوروبية والأفريقية.
ووفقا للمحللين، فإن الجمع بين الخام الروسي الرخيص نسيبا، وارتفاع الأسعار من المنشأ، يشير ايضا الى ان شركات التكرير الهندية تحقق أرباحا مضاعفة.
كيف تتلاعب الهند والصين باوروبا وتبيعها النفط الروسي؟
كان الغرب يأمل بالاستمرار في استخدام عصا العقوبات ضد أولئك الذين يعملون على التأمين على الشحنات النفطية الروسية، مراهنا على أن ازدياد تكاليف تمويل سفن الشحن، قد يشكل عائقا أمام موسكو أمام تصدير نفطها، لكن الحسومات الشديدة التي تضعها روسيا، جعلت نفطها ليس مرغوبا فقط، بل موضع منافسة لدرجة أن الصين والهند والمشترين الآسيويين الآخرين يتهافتون على شرائه.
بمجرد تكرير النفط وتحويله إلى ديزل، لا يمكن لأحد أن يميز ما إذا كانت المنتجات التي يتم إرسالها إلى أوروبا وأماكن أخرى تأتي من الخام الروسي. من هنا يقدر JP Morgan أن روسيا يمكنها العثور على ممولين لنقل حوالي 3 ملايين برميل يوميًا من النفط إلى آسيا، حيث ستتولى شركات التأمين الهندية والصينية التي تديرها الدولة، قضية التأمين.
وبحسب منظمة “مركز أبحاث الطاقة والهواء النظيف” ــ مقرها فنلنداــ حققت الهند أرباحا كبرى من خلال التجارة بالنفط الروسي الرخيص، حيث تقوم بإعادة تصدير بعض المنتجات النفطية في شحنات، نحو الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا.
وفي هذا الاطار قال جيف براون، رئيس FGE، وهي شركة استشارية في مجال الطاقة، عن النفط المكرر الذي يعاد تصديره إلى الغرب: “هذا هو التناقض الأساسي: يريدون معاقبة روسيا ، لكنهم لا يريدون ارتفاع أسعار النفط.”
أدى ارتفاع أسعار الطاقة إلى ازدياد عائدات روسيا النفطية حيث بلغت حوالي 1.7 مليار دولار في ايار/ مايو الفائت، وفقا لوكالة الطاقة الدولية.
في المحصلة، بات واضحا ان روسيا تمكنت من افراع العقوبات المفروضة عليها من مضمونها، خصوصا على مستوى النفط وجعلتها عديمة الفاعلية، بل انها اعادت توجيهها نحو مهندسيها الغربيين، حيث بدأوا يلمسون نقمة مواطنيهم وتعالي صرخاتهم يوما بعد يوم، جراء الغلاء الفاحش الذي يضرب امريكا واوروبا هذه الايام، ويطال مختلف السلع الاستراتيجية والحيوية ومن ضمنها الطاقة والمواد الغذائية.
Discussion about this post