رحل المخرج التونسي شوقي الماجري عن الحياة في 10 من تشرين الأول/اكتوبر عام 2019 تاركاً وراءه إرثاً درامياً متميزاً توجته جوائز عديدة من أهمها “جائزة ايمي التلفزيونية” العريقة.
لقّب الراحل بـ”شاعر الدراما التلفزيونية”. وعرف بأنه تلميذ المدرسة الأوروبية الشرقية للسينما، وقد انتبه مبكراً إلى جمالية النص المتقن الصنع تقنياً وسلطته على المشاهد الذي يتطلع إلى صورة تلفزيونية وخطاب فني يقطع مع الرداءة والنزعة التجارية الفجة. ما أبرز محطات حياة الماجري وأعماله؟ وكيف قوّمه بعض المشتغلين في ميدان الدراما نقداً وإخراجاً في تونس؟
الخروج من ربقة الرؤية الفنية السائدة
عاش الماجري في حي باب سويقة الشعبي حيث ولد هناك في 11 من تشرين الثاني/نوفمبر عام 1961. درس المرحلة الابتداية ثم انتقل إلى الثانوية في المدرسة الصادقية وأكمل دراسته الجامعية في علم الاجتماع، ولم ينفك في الاثناء يبدي اهتمامه بعالم التمثيل الذي تبلور شغفه به ضمن أندية السينما ودور الثقافة بتونس.
غذّت قراءات الماجري في مجال الأدب والفنون شخصيته كمثقف نهل من المرجعيات اليسارية التي كانت تزخر بها الساحة التلمذية والطالبية منذ سبعينيات القرن الماضي، وكانت القضية الفلسطينية حاضرة دوماً، وكذلك حركات التحرر في أميركا اللاتنية. وحضرت الأدبيات الاشتراكية وتمظهراتها في السينما، خصوصاً تلك المأتية من الاتحاد السوفياتي والمعسكر الشرقي لتبلغ ذروتها في الثمانينيات.
شكل رحلته إلى بولونيا حقلاً شاسعاً لاكتشاف أسماء ضخمة في عالم الاخراج مثل أندريه واجدا وجيزري سكوليموفسكي وكريستوف باندريك وتادوس شيميلفيسكي وأندري مونك وغيرهم، ممن زخرت بهم مدرسة السينما الوطنية بليدز أو حيث كان النسر القيصري يزيّن سقف القاعة الكبرى لعرض الافلام في مبنى أوسكار كون.
أكمل شوقي الماجري دراسته محصّلاً الماجستير عام 1994 لينجز أفلاماً قصيرة منها “أوليانو” و”البوسطة”، ثم تأتيه الفرصة بعد ذلك في سوريا ليخرج الجزء الثاني من المسلسل التلفزيوني “إخوة التراب” عام 1998، ثم “تاج من شوك” و”الأرواح المهاجرة” عام 2002 عن رواية إيزابيل الليندي “بيت الأرواح”.
وكان في الأثناء قد أدرك أن المخرج هو القطب الذي على الجميع أن يظل متمسكاً به،ـ لأنه مفتاح نجاح العمل الدرامي كما ذهب إلى ذلك المخرج البولندي سكولوموسكي بينديريك في أحد خطاباته المتعلقة بالسينما والمجتمع والسلطة.
الدراما الشاعرية كحل سحري لخلق معادلة السينما والتلفزيون
أدرك شوقي الماجري أن القضايا التي تطرح على الساحة العربية يمكن أن تجد نافذة سحرية، وهي الشاشة، وأدرك أيضاً أن الكاميرا تجذب المشاهد أكثر من الخطابات المباشرة، وهي يمكن أن تبلور رأياً عاماً أكثر نضجاً لفهم أهمية الدراما في تحقيق التوازن بين المتعة والوعي. لذلك عمل على امتداد أكثر من 20 عاماً وعلى مساحة أكثر من 16 عملاً درامياً على تجسيد هواجسه الفنية ومشاغله السياسية وخصوصاً الداعمة لفلسطين.
هكذا جاء مسلسله “الاجتياح” وثيقة فنية أرّخت لفترة الاعتداء الاسرائيلي في رام الله وحصار كنيسة المهد في بيت لحم ومخيم جنين. وكذلك مسلسله التلفزيوني “هدوء نسبي” الذي يوثق للاحتلال الاميركي للعراق. أما مسلسل “نابوليون والمحروسة”، فهو عمل يزخر بأحداث تاريخية كان لها انعكاسات على الجانب الاجتماعي للشعب المصري. فيما تبلورت جماليات المكان في مسلسل “عمر الخيام” القادم من خلفية فكرية وذائقة حسية وأدبية ذات فلسفة حياتية هي خلاصة الحضارة الفارسية في لحظة تمازج مع الحضارة العربية.
في حين يبقى فيلم “مملكة النمل” الذي أخرجه عام 2012 انتصاراً للمقاومة على القمع والاحتلال وإعلان أن الحب يمكن أن يهزم الحرب والاختفاء القسري، وأن العلاقات الإنسانية القائمة على العاطفة أكثر صلابة من السجن، وأن لحظات الصدق تمحو لحظات التعذيب، فيما المقاومة فعل مقدس لا بد أن يستمر ليبقي جذوة الأمل المتقدة في نفوس من آمن بعدالة قضيته كما آمن بقداسة أرضه. وقد صوّر هذا الفيلم في سوريا وتونس حيث اختار المخرج بعض الكهوف التونسية وانتجه التونسي نجيب عياد.
أما مسلسل “أسمهان” فيبقى علامة فارقة في الدراما التلفزيونية العربية لما تضمنه من إخلاص لشخصية هذه الفنانة بتناقضاتها وتجذرها في طبيعتها المتقلبة، وسماتها الجسدية التي كانت ملامسة لتراجيديا إغريقية من حيث ملامستها لمصيرها، كأنما تحوّلت إلى شخصية تكاد تلائم كائناً حالماً بقدر ابتعاده عن الواقع. فهو يجازف باستنزاف الجانب المتبقي من حضوره ككائن عابر على الأرض، لذلك كان الماء خلاصاً بعد أن كان ميلاداً.
نصر الدين السهيلي: الماجري صاحب موقف راديكالي رافض للكيان الصهيوني
أشار المخرج والممثل نصر الدين السهيلي إلى أن سوريا تعد من الثوابت في مواقف شوقي الماجري إذ ظل وفياً لهذا البلد الذي فتح له أبواب الشهرة وتحقيق حلمه الفني.
ووجد الماجري انسجاماً كبيراً داخل الساحة الفنية السورية، ما مكّنه من تحويل مسلسلات تلفزيونية إلى روائع تضافر فيها العمل الجماعي للممثلين مع موهبة ودراية هذا المخرج، الذي لم يجد صعوبة في بلورة تصوره لكيفية بناء مسلسلات ناجحة جماهيرياً وفنياً.
وعُرف عن شوقي الماجري مهارته في إدارة وحسن توظيف قدرات الممثلين، إضافة إلى أنه من أكثر المخرجين العرب قدرة على تركيب اللقطة، وتعامله مع المشاهد المكتوبة يحتوي على ثنائية وظفها تقنياً بمهارة حيث كان ينظر إلى المشاهد من خلف الكاميرا ومن الداخل. إذ كان ينظر أيضاً من زاوية الشخصيات وتمثلاتها لصراعاتها والسيطرة على مساحة انفعالاتها داخل كادرات محددة، إضافة إلى درايته الدقيقة بكتابة السيناريو، وهذا ما يدركه المشاهد، إذ إن كل حلقة من حلقات مسلسلاته يمكن أن تتحول إلى عمل مستقل بذاته، ويضم عناصر الفرجة بما تضمّه من إمكانات تفتح باب التخيل والتأويل.
وكانت اختيارات الماجري لمواقع التصوير والديكورات تجري وفق دراسة معمقة لطبيعة المشاهد والأدوار وطبيعة العمل التاريخي والاجتماعي الذي يجمع بين التسجيلي والفانتازيا، فهو يفرض عناصر لازمة لنجاح وظيفة الديكورات، وكان معروفاً عنه أنه يأخذ على عاتقه ترتيب الاكسسوارات في أماكنها، حيث أنه مشدود إلى هاجس النجاح في وضعها لخدمة خصوصية كل إطار ومدى إضافته للبناء الدرامي وكذلك الشخصيات.
وكان يحضر مرحلة إعداد الإضاءة إلى جانب مدير التصوير. كما كان يعطي الممثل بعداً استطيقياً ملحوظاً ويندرج هذا التصور في رؤيته الشاملة للعمل كروح واحدة، عليها أن تنهض بما يتماشى ووظيفة الدراما التلفزيونية كفن لا يقل إهمية عن السينما.
هذا الشغف بالشخصيات يعود إلى أن شوقي الماجري بدأ مشواره كممثل في المعهد العالي للفن المسرحي بتونس، وقد غذت هذا الشغف الأعمال الإبداعية التي كان هذا المخرج مطلعاً عليها بمختلف أصنافها. يمكننا أن نضيف أن هذا المخرج عاش حيوات كثيرة في حياة واحدة نظراً إلى إيمانه العميق بأن الإخراج ليس تقنيات فحسب، لكنه موهبة وصبر جميل على الدربة والتعلم وفهم للعلاقات الإنسانية.
مات الماجري وفي نفسه هاجس إنجاز عمل ضخم عن علي بن غذاهم، هذه الشخصية المهمة في تاريخ تونس، لكنها ظلت على الهامش ولم تحظ إلا بتأريخ شفهي يخلّدها. وهو لم يكن في معزل عن التفكير في الدور المهم الذي أدته إيران في إثراء مكوناتنا الحضارية من خلال استدعائه شخصيات مشهورة تاريخياً. كما أن مسلسله “تاج من شوك” أظهر خبايا القصر كمؤسسة للفتن ومناورات الأمراء وأزاح الغشاء عن واقع الطبقات الشعبية. كما أن أعماله كانت صورة جلية لهواجس مثقف عربي تؤرّقه قضايا العدالة والمقاومة ورسالة الفن باعتباره حاملاً لهوية هذه الشعوب وتطلعاتها.
عبد الحليم المسعودي: الماجري وبناء سردية الوعي العصي
من جهته، قال عبد الحليم المسعودي، إذا كان شادي عبد السلام يحلم بأخناتون، فإن صديقي شوقي الماجري مذ عرفته كان يحلم بكتابة وإنجاز شريط سينمائي حول علي بن غذاهم الماجري. هذا الثائر في منتصف القرن الـ19 على جور سلطة البايات ذوي الأصول العثمانية.
وكان يردد أن ما أفسدته الكتابة التاريخية التي تجانب الموضوعية استجابة للتاريخ الرسمي، قد تصلحه بشكل جمالي الكتابة الدرامية والملحمية. وكان هذا الوعي التاريخي حاضراً في أغلب أعماله الدرامية وهذا ما يترجم غرامه بإنجاز أعمال مثل “الخيام”، حيث التمفصلات المذهبية الكبرى التي عصفت بالعالم الإسلامي، أو “أبناء الرشيد” حيث تمفصلات السلطة على صفيح شوكة العصبية واستحقاقات العقل، أو في “أبو جعفر المنصور”، حيث تمفصلات الدولة وشؤونها أو في “نابليون المحروسة” حيث تمفصلات الاستعمار وشروط النهضة الممكنة، و”الاجتياح” حيث تمفصلات المقاومة.
كان شوقي منجذباً إلى هذه التمفصلات الكبرى التي اخترقت تاريخ الامة العربية والإسلامية بعقل نقدي وبجمالية أركيولوجية شاهقة. ميزة شوقي الماجري أنه مخرج تونسي يشتغل في بلاده على اختراق واقع الدراما العربية وضخ دماء جديدة، ومقترحات في بناء الوعي عند المشاهد العربي عبر الدراما التلفزيونية. وتدل أعماله في مجملها على حرصه في انتقاء مواضيعها والسبب بحسب رأينا يتمحور حول نقطتين هما:
– دخل الماجري غمار الدراما التلفزيونية بعدسات الفن السابع الآتي من مدرسة أوروبا الشرقية بمرجعياتها الفكرية والجمالية الكبرى التي وهبتنا تاركوفسكي وسرغاي باراداجانوف وبولانسكي وجوزيف شاينا وكوكو يانيس وغيره، وكذلك الثقافة المسرحية المرتبطة عضوياً بهذه السينما.
– وعي الماجري التاريخي كما أسلفنا الذي نشأ مبكراً وطوره بالقراءات والتفكير العميق في شؤون الدراما والصورة وعلاقتهما بالسياق الحضاري الذي تمر به الشعوب العربية عبر تاريخها الماضي والراهن.
ربما لم يكن شوقي الماجري هو المخرج الوحيد الذي توغل في مقصد بناء وعي فرجوي جديد عبر الدراما، لكنه ربما الأوحد الذي كان قادراً، إلى جانب المخرجَين حاتم علي ونجدة أنزور، على تأسيس هذا الوعي العصي في الدراما العربية.
خميس الخياطي: الماجري حوّل التلفزيون إلى سينما أخرى
أما الناقد والكاتب السينمائي خميس الخياطي فرأى أن الماجري مخرج شرقي من حيث تجذّره فنياً في المدرسة السينمائية الأوروبية الشرقية، وقد عرفت بولونيا بجودة الأفلام الوثائقية من حيث الإخراج والكتابة. كما أن إسقاط صفة شرقي على شوقي هو إسقاط جغرافي، إذ إن أفلامه عرضت في سوريا قبل أن تجتاحنا المسلسلات التركية.
يستمد الماجري شرقيته أيضاً من أنه سلّط الضوء على حملة نابليون على مصر موظّفاً الوثيقة التاريخية درامياً، وكذلك اهتمامه بشخصية أسمهان بما تزخر به من شحنة جمالية تعري الجوانب البشرية بما تحمله من تناقضات في شخصيتها كفنانة نادرة ذات حضور طاغٍ. وهو أيضاً سليل المدرسة الشرقية، من حيث اعتماده على الضوء والتوليف في مسلسلاته.
ورأى الخياطي أن “هذا المخرج كان كاتباً ومؤلفاً، أي إن له مساحة إضافية تسمح له بأن يكون متفرداً، وقد كسر بذلك مقولة غودار بأن السينما تجعل الإنسان يرفع رأسه لمشاهدتها، فيما التلفاز تجعله يحنيه. إذ حوّل الماجري التلفزيون إلى سينما أخرى لها جمالياتها.
سمير الحرباوي: حمل الماجري في قلبه حرية طائر مهاجر في كون حرّ
من جانبه، يؤكد المخرج السينمائي سمير الحرباوي أن أعمال شوقي الماجري الدرامية استدعاء مكثف للذاكرة وللخيال، وهذا وليد دراسته للمسرح (المسرح المثلث). كما أن تشبّعه بالسينما بما تفتحه من مغالق تعبيرية مكّنه من التقاط لحظة السحر الذي كان يشد انتباه المشاهد زيادةً على انخراطه في أندية السينما منذ صباه، وقراءاته الغزيرة مما ساعده على تكوين ذاكرة فنية ومساحة خيال شاسعة.
وعرف الماجري بأنه كان يتميز بالصمت وبهدوئه المقدس الذي يبرز عبر عمقه فكرياً وعلى المستوى الإنساني، وساعده على حسن إدارة الممثل. كما انعكس شغفه بالقراءات المتنوعة على جمالية الصورة التي تشبه الرسم، فهي ليست الحكاية لكنها أثر ذلك في العمل ككل، وعلى الرغم من سطوة الإشهار وتوسّع نفوذ التسويق إلا أنه لم ينجرف إلى أعمال تجارية وظل ذلك المثقف الذي حمل وطناً موجعاً وأحلاماً كبيرة .
Discussion about this post