يُعتبر الأديب الأشهر في بلاده، وأمام التنوّع الكبير في الانتماءات الدينية والقومية لمواطنيه، جعل المكان بطلاً لرواياته. ماذا تعرفون عن إيفو أندريتش؟ وما هي أهم رواياته؟
هل يولد الإنسان مرتين؟… نعم، إن كان روائياً يوغوسلافياً، اسمه إيفو أندريتش.
ولد الروائي اليوغوسلافي الأشهر، إيفو أندريتش، للمرة الأولى، في 9 تشرين الأول/أكتوبر سنة 1892، في قرية “دولاتس”، التابعة لمدينة “ترافنيك” في جمهورية البوسنة والهرسك، لأسرة كاثوليكية. توفّي والده عن عمر 32 عاماً، تاركاً إيّاه رضيعاً لم يبلغ العامين من عمره بعد، فاضطرّت أمه إلى تركه عند قريبين لها في مدينة “فيشغراد”، وكانا زوجين مستقرين من الناحية المالية، لكنّهما لم ينجبا أطفالاً، لذلك وافقا على رعاية الرضيع وتربيته. ثم رجعت الأم إلى مدينة سراييفو بحثاً عن عمل.
الميلاد الثاني لإيفو أندريتش كان في 26 تشرين الأول/أكتوبر، لكن من العام 1961، تحديداً يوم أعلنت الأكاديمية السويدية فوزه بجائزة نوبل للأدب، نظراً لـ”القوة الملحمية التي تتبَّع بها الموضوعات، وتصوَّر مصائر الإنسان المستمدَّة من تاريخ بلاده”. لم يكن هذا الميلاد ميلاداً بيولوجياً، لكنَّه ميلادُ من بلغ مقصده بعد طول تعب. وما بين الميلادين ثمَّة رحلةٌ شاقّةٌ، عاشها صاحب الجسر الأشهر في تاريخ الأدب العالمي، الذي شيّده روائياً فوق نهر درينا.
سنوات التكوين الأولى: فشل دراسي واعتقال وقصائد نثر
عاش أندريتش سنواته الأولى في مدينة “فيشيغراد”، و”رغم إقامته القصيرة فيها، ألّا أنّه ظلَّ يراها بيته الحقيقي”، بحسب كاتبة سيرته، سيليا هوكسورث. وقد شكّلت هذه المدينة مصدر الإلهام بالنسبة له، حيث تعدَّدت داخلها الأعراق والطوائف، وكان أغلب سكانها من الصرب (المسيحيين الأرثوذكس)، والبوشناق (المسلمون). ومن ثم، لاحظ في سنٍّ مبكِّرةٍ عادات السكان المحليين وخصوصياتهم، التي ستظهر في أعماله لاحقاً.
في الـ6 من عمره، بدأ أندريتش دراسته الابتدائية. وروى أنّها كانت أسعد أيام حياته. ثم حصل في سن الـ10 على منحةٍ دراسيةٍ لمدة 3 سنوات في سراييفو، حيث عاش هناك مع والدته، التي كانت تعمل في مصنع للسجاد.
لم يكن أندريتش طالباً متفوقاً، بل واجه صعوبةً في دراسته، لا سيّما في الرياضيات، حتى أنّه اضطرَّ إلى إعادة الصف السادس، ممّا أدّى إلى فقدان منحته الدراسية لبعض الوقت. وفي المقابل فقد برع في اللغات، خاصّةً اللاتينية واليونانية. وعلى الرغم من اهتمامه في البداية بالعلوم الطبيعية، إلا أنّه بدأ لاحقاً في التركيز على الأدب، الذي واصل فيه دراسته الجامعية، حتى أعدَّ رسالة الدكتوراه عن “الحياة الفكرية في البوسنة والهرسك في عهد السيطرة التركية”، ثم عمل بعدها في السلك الدبلوماسي.
برع أندريتش في اللغات، خاصّةً اللاتينية واليونانية. وعلى الرغم من اهتمامه في البداية بالعلوم الطبيعية، إلا أنّه بدأ لاحقاً في التركيز على الأدب، الذي واصل فيه دراسته الجامعية.
في شبابه، انخرط أندريتش في العمل السياسي، كما اعتُقِل على خلفية اغتيال ولي عهد النمسا، الأرشيدوق فرانز فيرديناند، في 28 حزيران/يونيو 1914، الذي أشعل فتيل الحرب العالمية الأولى، وأُطلق سراحه في 20 آذار/مارس 1915، لنقص الأدلة.
وإن بقيت تجربة السجن مؤثِّرةً في حياته، وهو الأثر الذي تجلّى لاحقاً في روايته “الفناء الملعون”، إلا أنَّ الحديث عن إبداعه يبقى الأهم، وقد بدت شرارته الأولى منذ أن كان في المدرسة الثانوية، لكنّه لم يتلقَّ من والدته التشجيع الكافي، حيث يتذكّر أنّه عندما أطلعها على أحد أعماله الأولى، ردّت: “هل كتبت هذا؟… لماذا فعلت ذلك؟”.
نشر أندريتش أول قصيدتين له في العام 1911، في مجلة اسمها “فيلا بوسانسكا” (الجنية البوسنية)، وكان حينها لا يزال طالباً في المرحلة الثانوية. أما بعد الحرب العالمية الأولى، فقد ظهرت قصائده ومقالاته ومراجعاته وترجماته في عددٍ من المجلات. وكانت القصائد النثرية أحد الأشكال الأدبية المفضلة لديه آنذاك، وقد وصف المؤرخ واين س. فوسينيتش شعره خلال تلك الفترة، بأنّه كان “شخصياً وحزيناً في الغالب”.
قدرة كبيرة على الوصف المُركّز العميق
كتب إيفو أندريتش خلال حياته عدداً من الأعمال الأدبية المهمّة، وقد تمثّل مشروعه في جعل المكان هو البطل الرئيس للأحداث، وكانت روايته “جسر على نهر درينا” خيرَ مثالٍ على ذلك. يسرد أندريتش في رائعته هذه ملحمة بناءِ جسرٍ، أمر بتشييده الوزير العثماني الأكبر محمد علي باشا على نهر درينا، في بلدة “فيشيغراد” البوسنية، سنة 1517.
من خلال المكان (الجسر)، ناقش أندريتش مختلف “الثنائيات”: الشرق – الغرب، الإسلام – المسيحية، الدولة العثمانية – أوروبا، الضفة – الضفة الأخرى، البقاء- الرحيل… حيث لا بطل أوحد، أو شخصيات تبقى. كل البشر لدى أندريتش عابرون، والجسر هو الباقي الوحيد.
وصف أندريتش المنطقة في بداية الرواية. عاين كلَّ صغيرةٍ وكبيرةٍ فيها، تفحّص التضاريس، منحيات النهر وملامحه، جمع كلَّ شاردةٍ وواردةٍ عن تاريخ المكان، كأنّه يمهّد الأرض التي ستنمو فوقها عشرات الحكايات الموجعة. حكى بعدها قصة رضيعَيْن مسيحيَّيْن دُفنا حيَّيْن داخل عامودٍ حجريٍّ من أساسات بناء الجسر، من أجل تهدئة الجنيات التي أحبطت بنائه، وأيضاً إشفاق المهندس عليهما، وتركه فتحتين صغيرتين لتتمكّن أمهما من إرضاعهما. كما قصَّ واقعة الولي المسلم الذي تصدّى بمفرده لجيش من الكفرة، وتمكّن من صدّهم عن اجتياز الجسر، وغيرها الكثير من الحوادث والوقائع التاريخية.
كتب إيفو أندريتش خلال حياته عدداً من الأعمال الأدبية المهمّة، وقد تمثّل مشروعه في جعل المكان هو البطل الرئيس للأحداث، وكانت روايته “جسر على نهر درينا” خيرَ مثالٍ على ذلك.
امتلك أندريتش قدرةً كبيرةً على الوصف المركّز العميق، وقد وصف الكاتب المصري الراحل جمال الغيطاني قدرته تلك، في مقالٍ له نُشِرَ بتاريخ 1 تشرين الأول/أكتوبر 1997، في مجلة “الهلال”، قائلاً: “في سطورٍ قليلةٍ، تَمثل الشخصية بكلِّ تاريخها، ربّما تكونُ شخصيةً عابرةً، أو يمتدُّ حضورها زمناً أطول، المهم علاقتُها بالجسر، هنا تصبح الرواية سجلّاً للتاريخ الداخلي للبشر، وقراءةً دقيقةً لخريطة المصائر الإنسانية، وتأمّلاً شعرياً فلسفياً لإيقاع الزمن، الذي بدأ معه الجسر وانتهى أيضاً”.
في روايته “جسر على نهر درينا”، كما في باقي أعماله أيضاً، يقف أندريتش على مسافةٍ واحدةٍ من جميع الأعراق والأديان، ومن ثم نجد أنَّ التعايش وقبول الآخر سمةٌ ممتدَّةٌ على طول رؤيته، بل نجد في روايته المسلم والمسيحي واليهودي، يعبرون الجسر من هنا إلى هناك، ومن هناك إلى هنا. يؤكّد جمال الغيطاني على هذه النقطة، في مقاله المذكور أعلاه، بالقول: “لا يمكن اعتبار أندريتش صربياً متعصّباً، إنّما يمكن القول إنّه كان يرى الإنسان في رؤيةٍ شاملةٍ، قوامها إمكانية التعايش بين الأعراق والأديان المختلفة”.
الإقامة الجبرية والانفجار الأدبي الكبير
عمل أندريتش في السلك الدبلوماسي في مملكة يوغوسلافيا، بين عامَي 1920 و1923، وعاد للعمل الدبلوماسي في جمهورية يوغوسلافيا، حيث عُيّن سفيراً لدى ألمانيا بين عامَي 1939 و1941، خلال السنوات الأولى من الحرب العالمية الثانية. اعتقله الألمان في نيسان/أبريل 1941، في أعقاب غزو قوات “المحور” ليوغوسلافيا. وفي حزيران/يونيو من العام نفسه، سُمح له بالعودة إلى بلغراد التي أصبحت تحت الاحتلال الألماني، لكنّه احتُجز في شقة أحد أصدقاءه، في ظروفٍ يشبِّهها البعض بالإقامة الجبرية.
في تلك الفترة كُتِبت “جسر على نهر درينا”، وكانت واحدةً من 3 روايات كتبها خلال سنواتٍ قليلةٍ. نشر أندريتش الروايات الـ3 في تتابعٍ قصيرٍ خلال عام 1945، بعد تحرير بلغراد من النازيين.
الرواية الثانية في ثلاثيته كانت “وقائع مدينة ترافنك”، وهي رواية تاريخية تتحدث عن مدينة “ترافنك” في أوائل القرن الـ19، واستخدم للحديث عنها مسار شخصين عاشا فيها في الوقت نفسه، هما القنصل الفرنسي وزميله النمسوي. لم يتخلَّ أندريتش في هذه الرواية أيضاً عن تيمته في جعل المكان هو البطل، وبالإضافة إلى الحبكة الرئيسية، فإنَّ الرواية مشبعةٌ بالعديد من القصص عن السكان المحليين، حيث يستخدم أندريتش شخصياته ليروي قصصاً عن الناس بشكل عام، مع التأكيد أنَّ كلَّ شخصٍ يقع ضحيةً للظروف التي ترسم مصيره.
كانت رواية “الآنسة” هي المكمِّلة للثلاثية. تدور أحداثها في مدينتي سراييفو وبلغراد، خلال العقود الثلاثة الأولى من القرن الـ20، وتصوّر الحياة المأسوية لامرأة محبَطة، تعيش مستعبَدةً للمال، بعدما أوصاها أبوها المفلس قبل وفاته أن تقتصد إلى حدِّ البخل.
اعتقل الألمان أندريتش في نيسان/أبريل 1941، في أعقاب غزو قوات “المحور” ليوغوسلافيا. وفي حزيران/يونيو من العام نفسه، سُمح له بالعودة إلى بلغراد التي أصبحت تحت الاحتلال الألماني، لكنّه احتُجز في شقة أحد أصدقاءه، في ظروفٍ يشبِّهها البعض بالإقامة الجبرية.
حقّقت أعماله الثلاثة هذه شهرةً كبيرةً، جعلته الاسم الأهم بين الكتاب اليوغوسلافيين في القرن الـ20. لكن تبقى روايته الأخيرة، “الفناء الملعون”، صاحبة الفضل الأول في تكليل مسيرته بجائزة “نوبل للآداب”، التي حصل عليها في العام 1961. ولعلّه حاول خلال كتابتها التخلّص من ذكرى دخوله السجن، في سنٍّ مبكِّرةٍ من عمره.
تحكي “الفناء المعلون” قصة راهبٍ مسيحيٍّ مسجونٍ في سجن تركي في إسطنبول، حيث يتعرّف على رجلٍ تخيَّل نفسه تناسخاً روحياً مع جمشيد، ابن السلطان محمد الفاتح. السجن هنا مكانٌ أيضاً، يسوقكَ إليه قدر شرير، حيث يضمُّ سورٌ واحدٌ المجرمين والأبرياء، ورجال الدين والعلماء، كما يتكشّف داخله جوهر الإنسان، مهما كان دينه ومعتقده.
كل تلك الأعمال التي حظيت بشهرةٍ عالميةٍ، أهّلته لحصد جائزة “نوبل”، في 26 تشرين الأول/أكتوبر 1961. وقد ضمنت له الجائزة اعترافاً عالمياً، كما تضاعف بعدها عدد الجوائز والأوسمة الممنوحة له. حيث حصل على وسام “الجمهورية” عام 1962، وكذلك وسام “27 تموز/يوليو” من البوسنة والهرسك، و جائزة “أفنوج” عام 1967، ووسام “بطل العمل الاشتراكي” عام 1972. بالإضافة إلى كونه أصبح عضواً في أكاديميات العلوم والفنون اليوغوسلافية والصربية، وحصل على الدكتوراه الفخرية من جامعات بلغراد، سراييفو، وكراكوف.
“من الأفضل ألا يتزوج الكاتب”
عاش صاحب “الفناء الملعون” مشتَّتاً، قلقاً، وخائفاً طوال الوقت، ذلك الخوف الذي جعله “لا يعرف نفسه ككاتب”، بل يشعر دائماً أنّه “شخصٌ بلا أهمية”، كما صرّح في حوارٍ أُجري معه عام 1961. كما جعله الخوف يتزوّج متأخّراً، تحديداً في 27 أيلول/سبتمبر 1958، حين كان في الـ66 من عمره، من مصممة أزياء في المسرح الوطني الصربي، تصغره بعشرين عاماً تقريباً. وكان قد أعلن في وقتٍ سابقٍ أنّه “من الأفضل ألّا يتزوّج الكاتب”
عاش صاحب “الفناء الملعون” مشتَّتاً، قلقاً، وخائفاً طوال الوقت، ذلك الخوف الذي جعله “لا يعرف نفسه ككاتب”، بل يشعر دائماً أنّه “شخصٌ بلا أهمية”، كما صرّح في حوارٍ أُجري معه عام 1961.
توفّيت زوجته في 16 آذار/مارس 1968، ثم تدهورت صحته بعد ذلك، لكنّه استمرَّ في الكتابة حتى عام 1974، ثم أخذت صحته منعطفاً آخر نحو الأسوأ، إلى أن أُدخِل مستشفى بلغراد، في كانون الأول/ديسمبر 1974، ثم سرعان ما دخل في غيبوبة وتوفي في الأكاديمية الطبية العسكرية، يوم 13 آذار/مارس 1975، عن عمر ناهز الـ82 عاماً.
أُحرِقت رُفات إيفو أندريتش، ووُضِعَ الرماد في جرّة، دُفِنت يوم 24 نيسان/أبريل في زقاق “المواطنين المميزين” في بلغراد، في حضور قرابة 10 آلاف شخصٍ من سكان المدينة، قّدِموا لوداع كاتبهم المفضّل، الذي طرح في أعماله همومهم، ونقّب في تاريخ بلادهم.
Discussion about this post