لقد وصل النظام الدولي الأحادي القطب إلى حالة من الفشل في إقناع الدول التي لا ترى أن في استطاعة القوى الغربية التعبير عنها، وبالتالي فإن تفجّر الوضع الدولي مثّل نقطة تحوّل، وفرصة لحدوث تغيير جذري في العلاقات الدولية.
“لقد غيّرت الحرب في أوكرانيا الوضع العالمي بالفعل، حتى لو كانت نتائجها ومدتها لا تزالان غير مؤكدتين، ولن تكون هناك عودة إلى الوضع السابق أبداً”، هذا ما جاء في مقال نشرته اليوم “لو موند” الفرنسيّة، للكاتب مارك سيمو، بعنوان ” الحرب في أوكرانيا ونظام عالمي جديد: مرآةٌ معلّقةٌ أمام الغرب “.
منذ بداية الحرب في أوكرانيا يوم 24 شباط/فبراير 2022، نظر إليها العالم بما حملته من ارتباطات وثيقة بالتجاذبات السياسية العالمية بين القوى العظمى، ومع مرور الوقت، ترسّخت هذه النظرة بأن هذه المواجهة، رغم أنها حرب محدودة في جغرافية العمليات العسكرية، فإنها أصبحت عالمية التأثير، إذ لم تبق دولة في العالم لم تتأثر بتداعياتها التي طالت مختلف المستويات.
يبدو وضوح حالة الاستنفار العام التي يعيشها الغرب الجماعي “دعماً” لأوكرانيا، فالخطاب الرسمي الغربي يقدّم الصراع على أنه حربُ تَوسّع إمبراطوري روسي، وذلك ليضمن أكبر حشدٍ وتوحّدٍ ممكن، وروسيا، من جهتها، ومعها قسم كبير من دول الجنوب، يصرّان على أنها حرب دفاعية هدفها إبطال استراتيجية احتواء روسيا وتطويقها من قِبل حلف “الناتو”، وبالتالي ضرب الهيمنة الأميركية الغربية، وتحرير العالم، والجنوب خصوصاً، من قيودها.
تحركٌ صلب بخطواتٍ ثابتة.. نحو واقعٍ دوليٍ جديد
عاش العالم أحاديّة قطبية شكّلت الحراك الدولي فيه طيلة ما يقارب الثلاثة عقود، تصرّفت خلالها الولايات المتحدة الأميركية كأنّها “ستبقى على عرش القوة العالمية إلى الأبد”، فخاضت حروباً، ودمّرت دولاً وأفقرت شعوباً، وقدّمت نظاماً عالمياً على مقاسها.
جاءت الحرب في أوكرانيا، والتي تفجّرت في 2022، وسط صراع متعدد الجبهات عبر عدد من الأقاليم، سعت فيه روسيا إلى إعلان تحدي الغرب، والتصدي لاستراتيجية “الناتو” في شرق أوروبا، ومحاولة فرض ذلك بالقوة العسكرية الصلبة، لتعزيز مكانتها في ظل إعادة تموضع استراتيجي أميركي، وانسحابات عسكرية أميركية من عدة مناطق، مقابل تمدد الصين التي باتت تمثِّل مركز الاهتمام الاستراتيجي للولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، أمام سعيها الحثيث خلال العقد الأخير نحو تحصين موقفها الدولي وتعزيز تحالفاتها ووضع أسس لنظام دولي جديد تكون لها فيه مساهمة أكبر في إدارة المشهد الدولي.
خلص تحليل نشرته مجلة “فورين أفيرز” الأميركية، للدبلوماسي الألماني ورئيس مؤتمر ميونخ للأمن منذ 2022، كريستوف هيوسغين، أنّ الحرب في أوكرانيا تمثّل نقطة تحوّل تاريخية هامة للعلاقات الدولية، ومؤشراً لنهاية مرحلة بدأت منذ نهاية الحرب الباردة، عندما حاولت الدول الغربية إدماج روسيا في نظام قائم على قواعد دولية من ترتيبها.
ولفتَ هذا التحليل إلى أنّ الحرب القائمة في أوكرانيا تمثّل مفترق طرق للنظام الدولي القائم، وتختبر ثبات قواعده المحددة، مع أنّ ثمة دولاً تنظر إلى الصراع على أنّه يمثل، عودة لديناميكية الحرب الباردة، إذ تتمركز الولايات المتحدة والغرب في مواجهة مصيرية مع روسيا.
يُستخدم حالياً في أوساط الخبراء والمحللين الغربيين، تعبيرٌ قوي وذو دلالات مهمّة لتوصيف واقع النظام الدولي، هو “العالم المتشظّي” أو “العالم المفكّك”، والقصد الدقيق به هو فقدان الغرب لسيطرته “المعهودة” على بقيّة دول العالم.
لكنّ أميركا ذاتها -والتي كانت تحاول لعقود الحفاظ على سطوتها على النظام الدولي- فشلت فشلاً ذريعاً في بناء جبهة عالمية ضدّ روسيا، خارج إطارها الغربي “الذي يبدو موحّداً” ضمن “الناتو”، ليظهر واضحاً انحسار الهيمنة التي كانت تفرضها بأدواتها الصلبة والناعمة كافة، على مُختلف دول الجنوب، وفي طليعتها الدول الصاعدة، والتي تستهدف مراجعة النظام الدولي القائم، بما يؤمّن لها مكانة دولية أوسع، وتحقيقاً أكبر لمصالحها، كالهند وباكستان وبلدان في أفريقيا وأميركا اللاتينية.
ويبدو استثناء الصين وإيران من مثل هذا التصنيف، أمراً طبيعياً وضرورياً، وهما المصنَّفتَان ضمن خانة أعداء الولايات المتحدة، واللتان لهما سجلٌ حافل من التصادمات مع أميركا والغرب بشكل واضح.
وعند الحديث عن إيران تحديداً، يُنظَر أيضاً إلى اتساع الفجوة بين روسيا والغرب على أنّها فرصة لطهران لتقوية محور مناهض للغرب مع روسيا والصين، فمن المنظور الإيراني المُلتزم بضرورة إيجاد حل سلمي للأزمة في أوكرانيا، تبقى الهجمة الغربية الجماعية على روسيا هي مدعاة لتوحيد الجهود والتنسيق مع موسكو.
فإنّ الحرب في أوكرانيا، وما سبقها من تعامل غربي مع مطالب روسيا بضمان أمنها الإقليمي، وضمان أمن سكان دونباس وسلامتهم، أدّى إلى تعزيز المصالح المشتركة بين روسيا والصين وإيران، وخلقَ فرصاً وإمكانيات جديدة لتقريب وجهات النظر، كما دفعت العقوبات الغربية روسيا في سياساتها إلى التعاون مع النموذج الإيراني كمثال للسياسة الخارجية والاقتصادية والأمنية الناجحة في الصمود.
تبقى أمام هذا النظام السياسي الأمني الجديد الآخذ في التطوّر، عقبة مركزيّة، وهي الصعوبة التي تواجهها القوى الإقليمية والدولية غير الغربية للتغلُّب على النظام المالي الدولي الخاضع لهيمنة الدولار الأميركي، وهي العقبة التي إن استطاعت الحرب في أوكرانيا تجاوزها، فسنصبح أمام وضوح كامل لرؤية عالم جديد ومتعدد الأقطاب على المستويات كافة.
روسيا والأطلسي على أرض أوكرانيا، حرب ستستمر
وضع الرئيسان، الروسي فلاديمير بوتين والأميركي جو بايدن، في آخر خطابٍ لكل منهما، رؤيتين مختلفتين جذرياً لمستقبل أوكرانيا، إذ قدما روايات تتناقض بشكلٍ حادٍ حول من هو المسؤول عن الحرب الدائرة هناك، لكنّهما متفقان على نقطة واحدة فقط، ومعهما آراء أغلب المحللين والمراقبين؛ أنّ الصراع ليس قريباً أبداً من النهاية.
أشار الرئيس الروسي في خطابه الأخير، والذي ألقاه في موسكو الثلاثاء الماضي، إلى مستقبلٍ قاتمٍ في أوكرانيا، إذ من المرجّح أن تستمر الحرب الطاحنة لسنوات، وقال: “سنحل المهام المعروضة علينا خطوة بخطوة، بعناية وباستمرار”.
وأعاد بوتين التأكيد على أنّ الغرب كان يحاول “تحويل الصراع المحلي إلى مرحلة من المواجهة العالمية”، كما تعهد بأنّ روسيا سترد وفقاً لذلك، كما أصرّ على أنّه “كلما زاد عدد الأسلحة بعيدة المدى التي يسلمها الغرب لأوكرانيا، اضطررنا إلى نقل التهديد بعيداً من حدودنا”.
وتعهّد الرئيس الأميركي بدعم اتفاقية الدفاع الخاصة بالمادة الخامسة الخاصة بحلف “الناتو”، في أكثر اللحظات حماسة في خطابه، والذي ألقاه من العاصمة البولندية وارسو، الثلاثاء الماضي، وأعلن أنّ “الهجوم على أحد هو هجوم على الجميع، إنه قسم مقدس، قسم مقدس للدفاع عن كل شبر من أراضي الناتو”.
يحضر هنا حديث للمستشار الألماني، أولاف شولتس، وصف فيه العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا بأنّها “نقطة تحوّل تاريخية”، وهو ما يتطلب من برلين زيادة إنفاقها الدفاعي، وتحسين استعداداتها للمساعدة في الحفاظ على “الاستقرار” في أوروبا، والاضطلاع بدور قيادي في “حل” النزاعات الدولية.
استطلعت دراسة حديثة أجراها مركز أبحاث المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، ونشرت تفاصيلها صحيفة “الغارديان” البريطانية في مقال مطوّل، آراء في تسع دول أعضاء في الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك فرنسا وألمانيا وبولندا، وفي بريطانيا والولايات المتحدة، بالإضافة إلى الصين وروسيا والهند وتركيا.
وكشف التقرير الذي وُصِف بالواقعي، عن اختلافات جغرافية حادة في المواقف تجاه الحرب و”الديمقراطية” وتوازن القوى العالمي، ما يشير إلى أنّ عملية روسيا التي بدأتها قبل عامٍ من الآن، قد تكون نقطة تحول تاريخية تشير إلى ظهور نظام عالمي “ما بعد غربي”.
وأشار التقرير بوضوح إلى أنّ الغرب فشل تماماً في إقناع القوى الكبرى الباقية، مثل الصين والهند وتركيا، بوجهة نظره ومطالبه تجاه الأحداث في أوكرانيا، كما لفت إلى أنّ الدرس الذي يجب أن تفهمه القوى الغربية كان واضحاً، إنّها بحاجة ماسة إلى رواية جديدة مقنعة لدول مثل الهند، التي يجب عدم خسارتها.
كانت الردود من الدول غير الغربية التي شملها الاستطلاع مختلفة للغاية عن ما حصل عليه الاستطلاع في الغرب، أعداد كبيرة من الناس في الصين (76٪) والهند (77٪) وتركيا (73٪)، قالوا إنّهم يشعرون أنّ روسيا قوية كما كانت قبل الحرب، وقد رأوا موسكو على أنها حليف استراتيجي، وشريك ضروري لبلدانهم.
تحالف مجابهة الهيمنة بخطواتٍ مشتركة
ذكرت صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية في مقال لمجموعة من الكُتّاب، جاء تعليقاً على خطاب الرئيس بايدن الأخير، أنّ إشاراتٍ بدت في مؤتمر ميونيخ للأمن، الذي اختُتم الأحد الماضي، على أنّ عدداً من القادة الأوروبيين يتساءلون عما إذا كانوا سيكونون قادرين على الحفاظ على المستوى الحالي للإنفاق على الأسلحة، وعلى الدعم الحكومي والمساعدات الإنسانية لأوكرانيا، في ظل تنامي تداعيات الحرب، ووضوح أنها لن تنتهي قريباً.
يُفهم من الإشارات الخارجة عن ميونخ للأمن، مدى التخوّف الغربي “الأوروبي” من مسألة الاستنزاف الذي ستتعرض له الدول الأوروبية كلما طالت الأزمة، وبالتالي مدى الاختلافات بين الأوروبيين وما يمكن أن ينجم عنها من شرخ سياسي قد يمثّل العائق الأبرز أمام “وحدة التحالف الغربي”.
يظهر على النقيض تماماً، ترسّخ أهمية التعاون والتقارب بين الصين وروسيا، ويتضح مدى قوة هذا التحالف، روسيا والصين وإيران ومعهما كوريا الشمالية من أجل تحقيق مصالح الأمن القومي المشتركة بين الجميع، ضد الوجود الأميركي الذي يشتركون جميعاً بأنه وجود مُعادٍ ويشكل تهديداً.
نشر معهد “كارنيغي أوروبا” للدراسات مقالاً بعنوان “تحول نموذجي: العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وروسيا بعد الحرب في أوكرانيا”، لستيفان ميستر، وهو رئيس برنامج في المجلس الألماني للعلاقات الخارجية، أكّد فيه أنّ التعامل المتّبع من قِبل الأوروبيين مع روسيا، سيضع الاقتصاد الروسي تحت الضغط فعلاً، لكنّه سيدفع البلاد أكثر نحو الصين وآسيا بشكل عام، أي أن الأوروبيين ومعهم الغرب الجماعي، يعمّقون مشكلتهم التي تتداخل مع مشكلة انحسار هيمنتهم على العالم.
كان المسؤولون الروس منشغلين بتدعيم أهم علاقاتهم الدولية عندما زار رئيس لجنة الشؤون الخارجية الصيني وانغ يي موسكو، حيث ركّز مقطع فيديو نشره الكرملين، على وانغ وهو يتبادل مصافحة وديّة مع نيكولاي باتروشيف، سكرتير مجلس الأمن القومي الروسي.
أخبر باتروشيف المسؤول الصيني، أنّ كلا البلدين يتعرضان لضغوط من الغرب الجماعي، لذا فإن التعميق الضروري للتعاون بينهما حالياً، يكتسب أهمية خاصة، وقال وانغ إنّ على روسيا والصين “تطوير خطوات جديدة للتعاون الاستراتيجي وفقاً للوضع الدولي المتغير”.
والتقى وانغ يي، قبل وصوله إلى موسكو، مسؤولين غربيين، بمن فيهم وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، في مؤتمر ميونيخ للأمن نهاية الأسبوع الماضي، ووعدَ بأنّ الصين ستحاول استخدام الدبلوماسية لإنهاء الحرب في أوكرانيا، لكنّ الجزء المتلفز من لقاء وانغ مع باتروشيف، ركّز على العلاقات الثنائية بين روسيا والصين.
مثّل اندلاع الأزمة في أوكرانيا قبل عام من الآن، إيذاناً برفض قوة عظمى هي روسيا لسلوك الغرب الذي يمارسه نحوها ويمثل تهديداً وجودياً لها، هذا الرفض كان حاسماً وصلباً في قرار روسي استراتيجي بالتوجه نحو التهديد ومحاربته، كما مثّل رفضاً نموذجاً لسياسات الغرب وسلوكه وعقليّة الهيمنة التي يتحرك استناداً إليها في حراكه الدولي، فالدول المتضررة من الاستعلاء الغربي والهيمنة الأميركية، دول الجنوب أساساً، وجدت في روسيا مثالاً عن القدرة على المواجهة والذهاب إلى أخطر الظروف، والصمود في وجه هجمة كاملة من معسكر كبير، إنّه السر في الحديث المتكرر والمتنامي عن تحوّلٍ جذري يجري على مستوى شكل النظام الدولي وهيكليّته، فالعالم نحو واقعٍ دولي بتوازنات جديدة وبتعددية لا تلغي دولاً ترفض “أبوية” الغرب.
Discussion about this post