في الذكرى الأربعين لانطلاقة حزب الله، نحن أمام ظاهرة استثنائية في مستواها وفي قدراتها، في دورها، في موقعها محليًا واقليميًا ودوليًا، واستثنائية أيضًا فيما استطاعت أن تحققه على صعيد مواجهة أعداء لبنان، “اسرائيل” والارهاب، وفي ظل ظروف استثنائية أيضًا، لناحية ما تعرض له من ضغوطات وحصار واستهداف، وعلى مستوى غير مسبوق، لم يتعرض له حزب أو طرف أو مكوّن.
من الطبيعي فيما لو قررتَ أن تكتب عن المقاومة بمناسبة الذكرى الأربعين لانطلاقتها، أن تتطرق إلى أسس تلك النشأة، أسبابها، تطورها، المراحل التي مرت بها وساهمت في تكوين هيكليتها ومنظوماتها الأمنية والعسكرية والقيادية والسياسية والمالية والاجتماعية، وكل ما يمكن أن يشكل عنصرًا من عناصر تركيبتها. وفي التطرّق الى كافة هذه النواحي، عليك أن تنظم بحوثًا واسعة حولها للوقوف وبأكبر قدر من الأمانة على المعطيات الفعلية الصحيحة الأقرب للواقع وللحقيقة، بهدف الوصول الى مقاربة عادلة وموضوعية، بعيدة عن التزلف أو التضخيم إذا كنت مؤيدًا للمقاومة، وبعيدة عن التظلم والتصويب غير العادل اذا كنت غير مؤيدٍ لها.
من هنا، وفي مقاربة موقع ودور حزب الله، لا بد من تناول أساس انطلاقته وضرورات نشأته، ومراحل تطور قدراته وامكانياته، والتحديات التي واجهته محليًا واقليميًا، والى عوامل القوة التي امتلكها وساهمت في انتصاره على العدو وفرضِه التحرير وانهاء الاحتلال، والى ما حققه خلال مسيرة المواجهة ضد العدو الاسرائيلي على مستوى الردع وحماية لبنان، ودوره في هذه المواجهة لناحية دعم ومساندة المقاومة الفلسطينية، وفي مواجهة الارهاب مباشرة في لبنان أو استباقيًا خارجه، ودوره على الصعيدين الاجتماعي والوطني كطرف أو مكون أساسي قادر أن يكون مساهمًا رئيسًا على صعيد تأمين توازن فاعل في تحقيق مسيرة نمو وتطور لبنان وحماية حقوقه وثرواته.
انطلاقًا من ذلك، وبهدف الاضاءة على أكبر قدر ممكن من هذه النقاط التي تطبع مسيرة حزب الله، وتجيب بشكل تقريبي عن هذه العناوين المذكورة أعلاه، قد يكون من الأنسب توزيع هذه النقاط على ثلاثة محاور رئيسة:
1 –نشأة حزب الله ومراحل مسيرة المقاومة والتحرير ومواجهة العدو المستمرة حاليًا.
2 – دور حزب الله الاقليمي (في مواجهة الارهاب – في دعم المقاومة الفلسطينية – دوره كطرف رئيسي في محور المقاومة).
3 – دور حزب الله الوطني الداخلي (كطرف رئيسي في دعم مسيرة النمو والتطور وحماية حقوق وثروات لبنان).
* في هذا الجزء من المقال سنتطرّق إلى: نشأة حزب الله ومراحل المسيرة
فكرة المقاومة أساسًا انطلقت وعبر تاريخ كل الدول من وجود احتلال يستوجب مقاومته ومواجهته. الغزو الاسرائيلي للبنان عام 1982 كان نقطة انطلاق حزب الله، وهنا كانت نشأة حزب الله كمقاومة لبنانية رأت من واجبها الوطني والقومي والديني مواجهة العدو على أراضي الوطن المحتلة، خاصة في ظل وجود الكثير من المعوقات والعراقيل الداخلية والخارجية التي منعت انهاء الاحتلال الاسرائيلي بالطرق المفروضة استنادًا للقوانين الدولية، من تقاعس الدولة المركزية حينها وضعفها على كافة الصعد، الى التدخلات الاقليمية والتواطؤ الدولي الذي عرقل تنفيذ قرارات مجلس الأمن الدولي لإنهاء الاحتلال (القرارين 425 و426)، وكل ذلك كان بهدف مساعدة العدو على فرض اتفاق تطبيع أو “سلام” مع لبنان كثمن لانهاء الاحتلال.
امكانيات متواضعة
انطلاقة المقاومة كانت في بداياتها عبارة عن مشروع جريء وخطير وأشبه بمغامرة غير مضمونة النتائج، حيث لا امكانيات ولا تمويل ولا تجهيز كاف، فقط كانت تتسلح بقرار ثابت وأكيد بمواجهة العدو، وبالتزام بالتضحية مهما كانت الظروف. بدأت مسيرة شاقة من تحضير مجموعات مقاومة وتجهيزها تدريجيًا بما يناسب مواجهة عدو قادر وصاحب امكانيات عسكرية واستعلامية غير بسيطة. وانطلقت المقاومة في مسار متصاعد من العمليات المتواضعة والخفيفة، لتتطور مع الوقت الى تنفيذ عمليات معقدة وأكثر جرأة وفعالية، بعد تقدم مستوى عناصرها في تكتيك القتال وفي مناورة العمليات الخاصة (كمائن وإغارات) وبعد ارتفاع مستوى تجهيزاتها بشكل متدرج ومناسب.
تثبيت المعادلات: تموز 1993 ونيسان 1996
ومع الوقت، بدأت المقاومة مرحلة فرض المعادلات وتثبيت قواعد الاشتباك، فكانت معادلة تموز 1993 بعد عملية تصفية الحساب كما أسماها العدو، التي رضخ الأخير من خلالها لمطلب حزب الله وارتدع عن مهاجمة أهداف مدنية في لبنان، مقابل عدم اطلاق حزب الله الصواريخ على شمال فلسطين المحتلة، لتأتي في نيسان عام 1996 معادلة “عناقيد الغضب”، لتثبت معادلة تموز 1993 وتوسعها، في منع العدو من استهداف المدنيين في لبنان، مقابل عدم استهداف المستوطنين في مستعمرات الجليل وكريات شمونة، ولتفرض المقاومة وجودها على الصعيد الدولي، كمكوّن وطني لبناني مقاوم للاحتلال، أجبر جميع الأطراف على الاعتراف بحيثيته وموقعه.
إنجاز التحرير
قدرة حزب الله في تلك المرحلة على تثبيت وفرض المعادلات باستبعاد استهداف المدنيين في لبنان، والزامه العدو بالانصياع لها، أضعفت موقف “اسرائيل” وضيّقت من هامش مناورتها في الضغط على حزب الله. وتزامنًا مع خضوع العدو لهذا الموقف الصعب، رفع حزب الله من وتيرة ومستوى عملياته ضد العدو بشكل لافت وغير مسبوق، وأصبحت تلك العمليات أكثر نوعية وشراسة وفعالية. اضطر بعدها العدو للاندحار عام 2000، وحققت المقاومة في ذلك أكبر ضربة لجيش العدو وكان إنجاز التحرير.
تموز 2006
لاحقًا، وبعد فشل “إسرائيل” في عدوان تموز 2006 الواسع والمخطط له سابقًا والمدعوم اقليميًا ودوليًا بهدف القضاء على المقاومة في لبنان، فرض حزب الله بثباته وبصموده في تلك المعركة الشرسة “الوعد الصادق” معادلةً أخرى لها طابع دولي – استراتيجي، تمثلت بمندرجات القرار 1701: “اعتراف كامل بالمقاومة وبحق لبنان بمقاومة الاحتلال وبمواجهة الاعتداءات الاسرائيلية بشتى الوسائل طالما هناك احتلال على أرضه أو طالما تعرضت سيادته للاختراق او للاعتداء”.
مع الأسف، كل تلك المعوقات والصعوبات التي كانت موجودة عند نشأة حزب الله عام 1982، ما زال طيفها حاضرًا اليوم ولو بأشكال مختلفة. فصحيح اليوم أن هناك احتلالا اسرائيليًا لجزء من الأراضي اللبنانية في مزارع شبعا والقسم اللبناني من بلدة الغجر، ولكن عمليًا، هناك ما يشبه الاحتلال السياسي الاقليمي والأميركي، رأينا خطوطه العامة في الانتخابات النيابية الأخيرة وفي غيرها من مناسبات التدخل الواضح والمكشوف، ومن بينها على سبيل المثال لا الحصر، ضغوط واسعة على السلطة اللبنانية لتقييد الاقتصاد والسياسة المالية للدولة من خلال منع الدولة من الذهاب شرقًا وقبول المساعدات أو العروض المناسبة للبنان من قبل الصين أو روسيا أو ايران، وبهدف ارضاخه واضعافه علّه يتنازل في موضوع التطبيع والقبول بالتوطين وما شابه. وهذا الاحتلال قد يوازي بخطورته على لبنان الاحتلال المادي للارض الذي مارسته “اسرائيل” قبل ايار من العام 2000.
أيضًا، يبقى ضعف الدولة اللبنانية تقريبًا نفسه، وخاصة لناحية الاصرار المتعمد على حرمان الجيش اللبناني من لعب دوره الوطني في الدفاع عن السيادة بمواجهة “اسرائيل”، وعلى المستوى المطلوب تقنيًا وعسكريًا، في وقت أثبت فيه الجيش اللبناني في أكثر من مناسبة أنه على قدر المسؤولية لو تسنى له امتلاك الحد الادنى المقبول من الامكانيات النوعية، وأنه سيكون رقمًا صعبًا بمواجهة العدو الاسرائيلي استنادا للعقيدة الوطنية التي يمتلكها ويلتزم بها، لكن القرار الخارجي هو ابقاء الجيش مقيّدًا لناحية حرمانه من أسلحة مناسبة لحماية لبنان، وهي الأسلحة النوعية (دفاع جوي وصواريخ فعالة مضادة للدبابات ومسيّرات) التي أصبحت أساسية وضرورية في تركيبة وتجهيز الجيوش حاليًا.
سلاح حماية لبنان
اليوم، رغم هذه الحملة الشرسة على سلاح حزب الله، أصبح واضحًا أن هذا السلاح ضروري لسد النقص الذي فرضوه عنوة وعمدًا على تجهيز الجيش اللبناني. وفيما كان هذا الامر من الاسباب الرئيسة التي ساهمت في بداية انطلاقة حزب الله وفي اعتماده مسار التسليح والتجهيز والتدريب، بهدف خلق القوة الرديفة والداعمة لقوة الجيش اللبناني وللدولة، يمكننا القول وبشكل مؤكد، ان سلاح حزب الله هو السلاح الثاني مع الجيش اللبناني لحماية للدولة، وهو سلاح الدولة النوعي، حين منعوها من الحصول على سلاح نوعي، وهو سلاح الدولة الرادع، حين حُرمت من امتلاك قدرات لردع العدو، وهو السلاح الاحتياطي الاساسي للدولة اللبنانية، والذي استطاع الافلات من قيود الخارج والداخل، ونجح في فرض نفسه ومعادلاته وقواعده، خدمة للهدف الرئيسي: حماية ودعم ومساندة الدولة والجيش والشعب اللبناني.
Discussion about this post