أخيراً، وعلى الرغم من كل محاولات الابتزاز والتأجيل، صوت الكنيست الإسرائيلي على حلِّ نفسه بالقراءة الثانية والثالثة، وأقرّ موعداً للانتخابات البرلمانية في الأول من تشرين الثاني/نوفمبر 2022، كما تريد أحزاب الائتلاف، وهي الانتخابات الخامسة على التوالي خلال أقل من 4 سنوات، في تعبير صارخ عن عمق أزمة الحكم في “إسرائيل”، وإشارة إلى تغيرات جذرية في نظام الحكم قد تطرأ عليه في المستقبل. إنها صيرورة بلغت ذروتها واقتربت من نهايتها.
طُرحت أسئلة متعددة خلال الأيام القليلة الماضية، وكانت غايتها الإشارة إلى الطرف الأقوى في الصراعات بين المعسكرين المتنافسين. ولا شك في أن لهذه الصراعات ونهاياتها تأثيراً مباشراً في الناخب الوسطي، أي غير المتعصب لحزبه، الذي يمكنه أن ينتقل من حزب إلى آخر أو من معسكر إلى آخر، متأثراً بالأحداث والأشخاص وموازين القوى.
هل يستطيع الكنيست سنّ القوانين حالياً؟
كثيراً ما يصرح صحافيون أو معلقون أن الكنيست سيكون معطلاً خلال هذا الفترة، وهذا صحيح، لأنه يكون قد دخل في عطلة طويلة استعداداً للانتخابات، لكن الصحيح أيضاً أن الائتلاف الحكومي يمكن أن يصل إلى تفاهمات مع المعارضة حول مشاريع قوانين قدمت إلى الكنيست سابقاً، ولم يُستكمل مسار إقرارها النهائي بعد خلال الفترة القصيرة بين اتخاذ القرار بالذهاب إلى انتخابات جديدة واليوم الذي يقر فيه قانون حل الكنيست بالقراءة الثالثة، أي النهائية.
وإذا ما اتفق الطرفان على استكمال قانون ما، فيمكنهما القيام بذلك حتى خلال العطلة التي تسبق الانتخابات. تمحور السجال بين الائتلاف والمعارضة على هذا الأمر خلال الأسبوع الأخير، والأخيرة عطلت إقرار قانون حل الكنيست في القراءة الثانية والثالثة حتى يوم 30 حزيران/يونيو.
من أهم القوانين التي أراد الائتلاف الحكومي أن يمررها في الفترة الانتقالية هي:
· قانون “المتّهَم” الذي يعني أن أيّ عضو كنيست قُدّمت ضده لائحة اتهام لا يستطيع أن يكون مرشحاً لتأليف حكومة أو أن يكون رئيس حكومة. هذا القانون يستهدف، في الوقت الحاضر، بنيامين نتنياهو، ويمنعه من العودة إلى رئاسة الحكومة في المستقبل القريب. بطبيعة الحال، تقف المعارضة ضد القانون وضد إقراره في الفترة الانتقالية. في نهاية الأمر، لم يتفق الطرفان على استكمال مشروع القانون، وهو ما كان متوقعاً.
· قانون تمديد “أمر الطوارئ” الخاص بالمستوطنين في الضفة الغربية المحتلة، والذي يتم بموجبه التعامل معهم وفقاً للقانون المدني الإسرائيلي، على الرغم من وجودهم خارج السيادة الإسرائيلية؛ هذا القانون الذي لم تستطع حكومة بينيت إقراره، وكان ذلك أحد أشكال فشلها وأحد أسباب استقالتها.
صوّتت المعارضة ضد إقرار القانون بهدف إفشال الحكومة، كما صوت ضده أعضاء من الائتلاف، هم مازن غنايم من “الموحدة” وغيداء زعبي من “ميرتس”. في نهاية الأمر، لم تستطيع الحكومة تمرير الأمر، لكنه، وفقاً للقانون، يُمدد تلقائياً بسبب حل الكنيست، ويبقى ساري المفعول حتى ما بعد إقامة الحكومة الجديدة.
· قانون “الفيزا”. لقد وعدت إدارة بايدن حكومة نفتالي بينيت بأن تضم “إسرائيل” إلى الدول التي يدخل مواطنوها إلى أميركا من دون فيزا، مع التذكير بأن الحصول على فيزا إلى الولايات المتحدة في الوقت الحاضر يستغرق أشهراً عديدة، لكنّ إقرار الضمّ نهائياً يوجب على “إسرائيل” أن تقرّ قانوناً يوافق على الشروط الأميركية لإتمامه. هذا القانون تريده الحكومة الحالية لتقدم للجمهور إنجازاً تاريخياً، فيما يريد نتنياهو تأجيله ليكون هو رئيساً للحكومة، وهذا ما حصل.
· قانون “الميترو”، وهو الإنجاز الأهم لوزيرة المواصلات، ميراف ميخائيلي، رئيسة قائمة حزب العمل، وهو يقضي بإقامة مترو في مدن المركز على شاكلة المترو في كلّ المدن الأوروبية، ولا سيما أن الازدحام في “تل أبيب” وضواحيها يعطّل الحياة يومياً، ولا يمكن حل هذه الأزمة إلا بإقامة هذا المترو؛ المشروع الذي تتداوله حكومات “إسرائيل” منذ عقدين على الأقل من دون نتيجة حقيقية.
تقف المعارضة ضد إقرار هذا القانون لتمنع ميخائيلي من تحقيق أيّ إنجاز أمام ناخبيها، مع العلم أنَّ مركز البلاد هو خزان مصوتي حزب العمل. في نهاية السجال على إدراج هذا القانون في قائمة قوانين الفترة الانتقالية، اشترط الليكود القبول بإدراجه في مقابل موافقة الحكومة على موعد 25 تشرين الأول/أكتوبر لإجراء الانتخابات بدلاً من الأول أو الثامن من تشرين الثاني/نوفمبر، كما تريد الحكومة، وفشلت ميخائيلي في إقرار القانون.
وهنا يطرح السؤال: ما هدف المعارضة ورئيسها نتنياهو من كل هذا الصراع، ومن الإصرار على موعد 25 تشرين الأول/أكتوبر بالذات؟
يمكن أن نجد لذلك هدفين أساسيين؛ الأول هو إرضاء حلفائه الحريديم، لأنَّ موعد 25 تشرين الأول/أكتوبر مناسب جداً لهم، وهو اليوم الأخير لعطلة المدارس الدينية، فيكون نشاط الشباب الحريدي مساهماً كبيراً في عملية الانتخاب. ثانياً، يهدف نتنياهو إلى تسجيل نقاط إضافية ضد الحكومة وإظهارها أمام الجمهور حكومة ضعيفة وفاشلة، تخسر كلّ معاركها مقابل نتنياهو، وهذا ما يعزز صورة الأخير بأنه الرجل القوي في نظر الجمهور اليميني.
يزداد سخط الجمهور على الحكومة بعدما انضمت بعض أحزاب الائتلاف إلى اقتراح المعارضة بزيادة ميزانية الانتخابات لأعضاء الكنيست بمبلغ يساوى 260 ألف شيكل إضافي لكل عضو، أي أن ميزانية الدولة تخصص مليوناً و660 ألف شيكل لكل عضو كنيست لصرفها على الانتخابات بدلاً من مليون و400 ألف سابقاً.
يحدث هذا في ظل إضراب المعلمين وسائقي الشاحنات العامة الذين يطالبون بزيادة أجورهم التي تقترب من متوسط الأجور في الدولة، وفي ظل موجة غلاء كبيرة شهدتها السنة الأخيرة، فارتفع سعر البنزين، مثلاً، 3 مرات، حتى وصل إلى أكثر من 8 شيكل لليتر الواحد، فهل توجد ميزانيات لأعضاء الكنيست، ولا توجد ميزانيات للعاملين؟
هنا، وللموضوعية، لا بدّ من التذكير بأنَّ الحكومة نجحت، خلال هذه الفترة القصيرة، في تمرير أكثر من 40 قانوناً صغيراً، منها قوانين اجتماعية تخص المستضعفين، لكنّ الإعلام ركز الأضواء على القوانين التي أراد الليكود إفشالها.
ما العوامل المؤثرة في نتائج الانتخابات ومن ثم تأليف الحكومة؟
لا مجال هنا لتناول كلّ العوامل المؤثرة، لكنّنا سنتناول أهمها من دون الخوض في الشرح الطويل:
أولاً، جمهور الناخبين الإسرائيلي، وهو جمهور يميني بغالبيته العظمى، وهو المسيطر في المعسكرين المتنافسين. أما الفوارق بينهما، فلا بدَّ من التطرق إليها في شرح مطول، نظراً إلى أهميتها.
ويمكن اختصار ذلك بأن معسكر الحكومة الحالية يرى ضرورة قصوى في الحفاظ على علاقات لا يشوبها أي توتر مع الإدارة الأميركية والغرب عموماً، فيما يرى معسكر نتنياهو أن “إسرائيل” أصبحت قوة عسكرية وتكنولوجية عظمى، وأنها مؤهلة لتكون صاحبة القرار في الشرق الأوسط، وعلى العالم الغربي أن يقبل ما يخطط في “تل أبيب” ويدعمه.
ثانياً، شخص نتنياهو، وهو عامل مؤثر في نتائج الانتخابات البرلمانية ومؤثر داخل الليكود، كما أنه عامل حاسم في تشكيل الحكومة، نظراً إلى الموقف القاطع لدى عدد من القوى السياسية الصهيونية، بمن فيهم قوى يمينية متطرفة، ضد العمل مع نتنياهو في حكومة واحدة، ولا سيما أنه أصبح متهماً رسمياً بقضايا فساد يتم تداولها في المحكمة. وكان هؤلاء يرفضون التحالف معه عندما كان مشتبهاً فيه، قبل أن يصبح متهماً وفق القانون.
ثالثاً، التوجّه الأميركي أو بالتحديد موقف البيت الأبيض من الحزب الحاكم أو من الشخص الذي يقود الحكومة، وهو عامل مؤثر في نتيجة الانتخابات بشكل غير مرئي، لكنّه مؤثر أكبر في تأليف الحكومة، وإن لم يكن علنياً.
ليس سراً أن إدارة بايدن تفضل التعامل مع حكومة برئاسة أيّ شخص ما عدا نتنياهو، لما يشكله الأخير للحزب الديمقراطي من إحراج ووجع رأس في الشرق الأوسط وداخل أميركا أيضاً. وقد لاحظنا خلال السنة المنصرمة رعاية أميركية “أبوية” لحكومة بينيت – لبيد، إلى درجة أن إدارة بايدن تنازلت عن الكثير من المهام المستعجلة في الشرق الأوسط، أو أرجأتها، إرضاءً لهذه الحكومة ورعايةً لها، ومنها تأجيل العودة إلى الاتفاق النووي، وتأجيل فتح القنصلية الأميركية في القدس الشرقية، وربما إلغائه، ورفع منظمة التحرير الفلسطينية من قائمة الإرهاب الأميركية. في المقابل، رفع إدارة بايدن منظمة “كاخ” الإرهابية اليهودية، المحظورة وفق القانون الإسرائيلي، من قائمة الإرهاب الأميركية. إضافةً إلى ذلك، بذلت إدارة بايدن جهداً كبيراً في الأسابيع الأخيرة لتحصيل إنجازات استراتيجية لحكومة لبيد على المستوى الإقليمي، لعلّ ذلك يساعدها في استعادة السلطة.
يدرك الجمهور الإسرائيلي الوسطي بين المعسكرين أن تشكيل حكومة إسرائيلية برئاسة نتنياهو قد يعكّر صفو العلاقات مع البيت الأبيض برئاسة ديمقراطية، وليس صدفة أن حكومة بينيت – لبيد تألفت في ظل إدارة بايدن.
رابعاً، موقف الممثلين العرب في الكنيست من شخص رئيس الحكومة، وهو ما كان بارزاً في تأليف الحكومة الحالية، ولا سيما أنّ أياً من المعسكرين لم يستطع تشكيل حكومة وحده من دون الاستعانة بأعضاء عرب.
بالعودة إلى تأثير العامل الشخصي لنتنياهو نفسه في تشكيل الحكومة، لا بد من التذكير بأنَّه، وإن أراد الاستعانة بأعضاء عرب، وافترضنا أن هؤلاء وافقوا على ذلك، إلا أنه لا يستطيع ذلك بسبب معارضة حلفائه الطبيعيين، مثل سموطرتش وبن غفير.
خامساً، العامل المتغير، وقد يكون مفاجئاً ومؤثراً إلى حد كبير في تأليف الحكومة، وهو احتمال سقوط عدد من الأحزاب المعارِضة لنتنياهو، بسبب عدم عبورهم نسبة الحسم. هنا، سيكون نتنياهو، وفق قانون الانتخابات وتوزيع الأصوات، هو المستفيد الأكبر، ليس بزيادة عدد مقاعد الليكود فحسب، إنما بتناقص مقاعد معارضيه في الكنيست أيضاً. وبذلك، سيكون باستطاعته تشكيل حكومة يمينية من دون الحاجة إلى نواب عرب.
الخطوات المتوقّعة خلال الحملة الانتخابية والنتائج المترتبة عليها
أشارت استطلاعات الرأي بداية الأسبوع الماضي، وهي قابلة للتغيير، إلى تغير بسيط في موازين القوى بين المعسكرين، مع إشارة، بالضوء الأحمر، إلى أنّ حالة الاستقطاب قد تُسقِط عدداً من القائمات الممثلة اليوم في الحكومة، فالاستطلاع الذي يشير إلى احتمال حصول “القائمة” على 4 أعضاء يعني أن “القائمة” في خطر، لأنَّ نسبة الحسم المطلوب من كل قائمة عبورُها لتدخل إلى الكنيست، هي 3.25%، وهذا يعني 4 أعضاء على الأقل، إذا ما أخذنا بالاعتبار أن أحزاب “ميرتس” (نيتسان هوروفتس)، و”أمل جديد” (جدعون ساعر)، و”القائمة العربية الموحدة” (منصور عباس)، وحزب “يمينا” برئاسة إييلت شاكيد، بدلاً من بينيت، قد يحصلون على 4 أعضاء فقط، فهذا يعني أن بعضهم سيسقط أو يضطر إلى أن يتحالف مع أحزاب أخرى. وفي حالة السقوط، سيكون ذلك من حظ الأحزاب الكبرى، فيزداد أعضاؤها. إذاً، إن سقوط أي حزب من المعسكر المناهض لنتنياهو يزيد فرصة نتنياهو لتأليف حكومة.
بناءً على ما تقدم، من المتوقع أن تندمج أحزاب ترى نفسها في حالة خطر، مثل “أمل جديد” (ساعر) مع “أزرق أبيض” (غانتس)، أو ميرتس مع “حزب العمل” (ميراف ميخائيلي)، أو أن تندمج “يمينا” (شاكيد) مع “هناك مستقبل” (لبيد)، أو ربما تتلقى دعماً من اليمين، على أن تكون في معسكر نتنياهو بعد الانتخابات. كما أن هناك مفاوضات بين ميخائيلي وإيزنكوت، رئيس الأركان السابق، للانضمام إلى قائمة حزب العمل الذي يحاول، بشكل دائم، أن يجذب إليه شخصيات عسكرية.
أما في موضوع تشكيل الحكومة، فقد أعلن حزب “يهدوت هتوراة” (حريديم أشكناز) أنّه لن يعطي نتنياهو تفويضاً أعمى عند تشكيل الحكومة القادمة، وأنه لن يجلس في مقاعد المعارضة مستقبلاً، وهذا أمر جديد قد يتكرّر مع “شاس” (حريديم شرقيين) أيضاً، وهو ليس في مصلحة نتنياهو بالتأكيد.
في الخلاصة
على الرغم من نجاح الحكومة في تمرير عشرات القوانين في الأسبوع الأخير، فإنها فشلت في تمرير غالبية القوانين ذات الأهمية الكبرى، والتي ذكرناها أعلاه، والتي أعدتها خلال السنة الماضية، وأرادت استكمالها خلال الأيام الأخيرة.
هذا الفشل روجته وسائل الإعلام الإسرائيلية من دون الالتفات إلى القوانين التي سنّت خلال هذه الفترة القصيرة. رافق ذلك استقالة نفتالي بينيت من الحياة السياسية تعبيراً عن فشله أيضاً. وبذلك، نجح نتنياهو في أن يعزز الصورة الضعيفة الفاشلة لهذه الحكومة ورئيسها نفتالي بينيت في نظر جمهور الناخبين، وهذا ما يعزز إمكانية عودة نتنياهو إلى الحكم بقوة جمهور الناخبين اليميني المتحمس جداً للانتخابات، والذي يبحث عن قائد “عظيم” يقود “إسرائيل العظمى” في نظره.
وإذا ما قرّر بايدن، عند زيارته “تل أبيب”، لقاء نتنياهو، بصفته رئيساً للمعارضة، وعدم حصر لقائه مع رئيس الحكومة فقط، فإنه يكون بذلك قد شرّع له الباب إلى رئاسة الحكومة القادمة.
عربياً، من المتوقع أن يحتدم الصراع بين الكتلتين، “المشتركة” و”الموحدة”، وفي داخلهما أيضاً، وأن تزداد نسبة المقاطعين لانتخابات الكنيست، على خلفية فشل تجربة محاولات “التأثير من الداخل”، وعجز الممثلين العرب، من مقاعد المعارضة أو داخل الائتلاف، عن تحصيل حقوق المواطنين العرب الفلسطينيين في الداخل، مع ضرورة التذكير بأن الانتخابات البرلمانية الأخيرة شهدت مقاطعة عربية وصلت إلى 55% من أصحاب حق الاقتراع العرب. أما الباقون، فقد انقسمت أصواتهم بين الأحزاب العربية والأحزاب الصهيونية.
في كلّ الأحوال، لا مكان لأي حالم يرى حكومة إسرائيلية تريد أن تتقدم نحو “مفاوضات” و”تسوية” و”سلام”، وليس أمام الشعب الفلسطيني إلا النضال ضد الاحتلال بكل الوسائل والأشكال التي منحته إياها الشرائع الدولية.
- أليف صباغ _ محلل سياسي مختص بالشأن الإسرائيلي
Discussion about this post