كتب حسن نافعة
أشارت تقارير صحافية تتمتع بصدقية عالية إلى أن الرئيس الأميركي جو بايدن سيزور منطقة الشرق الأوسط لوضع اللمسات الأخيرة لاتفاق رباعي يشمل إلى الولايات المتحدة الأميركية، السعودية ومصر و”إسرائيل”، ويستهدف تمكين السعودية من فرض سيادتها الكاملة على جزيرتي “تيران وصنافير” بعد إخلائهما من القوات متعددة الجنسية التي لا تزال ترابط فيهما بموجب معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية الموقّعة في 26 آذار/مارس عام 1979.
ولضمان موافقة “إسرائيل” على إجراء هذا التعديل على معاهدة “سلام” مصرية إسرائيلية تشترط موافقة الطرفين لدخول أي تعديل عليها حيّز التنفيذ، ستعمل الولايات المتحدة لإقناع السعودية بالاستجابة لطلبين إسرائيليين في المقابل: الأول، السماح بفتح مجالها الجوي أمام الطيران التجاري الإسرائيلي المتجه نحو منطقة جنوب شرقي آسيا، والآخر السماح بتنظيم رحلات جوية إسرائيلية من “إسرائيل” إلى السعودية مباشرة لنقل الحجاج الفلسطينيين من حاملي الجنسية الإسرائيلية.
ويرجح عدد من المراقبين أن تشكل هذه الخطوة بالغة الأهمية -إن تمت- بداية لعملية تطبيع تدريجي للعلاقات بين السعودية و”إسرائيل” قد تنتهي بالتوقيع على معاهدة “سلام” كاملة بين الطرفين. ويشير هؤلاء المراقبون إلى أن بايدن يبدي حرصاً شديداً على النجاح في هذا المسعى وتقديمه إلى الناخب الأميركي كإنجاز لمصلحة “إسرائيل” يأمل أن يساعده في انتخابات التجديد النصفي للكونغرس، التي ستجرى في شهر تشرين الثاني/نوفمبر المقبل.
تثير هذه التقارير، إن صحت، جملة من الأسئلة تفرض نفسها هنا: هل كانت السعودية تدرك حقاً، بإصرارها على سعودية الجزيرتين والإلحاح منذ مطلع التسعينيات على استردادهما وفرض سيادتها عليهما، أن هناك ثمناً عليها دفعه في المقابل، وأن هذا الثمن لن يكون أقل من تطبيع علاقاتها رسمياً مع “إسرائيل”؟
وإذا افترضنا أن السعودية تدرك هذه الحقيقة منذ البدء، فهل كانت مستعدة ومهيّأة سياسياً ونفسياً لدفع هذا الثمن الذي قد يراه البعض باهظاً وغير مبرر، أم هي على الأرجح استدرجت من دون وعي منها نحو منزلق لم تكن مدركة في البدء لحجم ما ينطوي عليه من أخطار؟
وهل أصبحت السعودية قادرة الآن على إدراك حجم التبعات والمخاطر الإستراتيجية المترتبة على المضي قدماً في هذا الطريق، فتتراجع عنه في اللحظة الأخيرة، أم هي تعرف ما تريد واختارت هذا الطريق وسعت له بمحض إرادتها؟ للإجابة عن هذه الأسئلة، دعونا نحاول وضع القصة في سياق يسمح للقارئ بفهم تفاصيلها وإدراك أبعادها.
ففي 8 نيسان/أبريل 2016، وفي أثناء زيارة الملك سلمان وولي عهده لمصر، فوجئ الشعب المصري بأن من بين الاتفاقيات الثنائية العديدة التي جرى التوقيع عليها في هذه الزيارة، اتفاقية خاصة بترسيم الحدود البحرية بين مصر السعودية، وأنه بموجب الترسيم الذي اتفق عليه الطرفان، سيتعين على مصر أن تتنازل للسعودية عن سيادتها على جزيرتي تيران وصنافير، ما أثار غضباً شعبياً عارماً، نشبت إثره معركة سياسية وقانونية طاحنة بين الحكومة وقطاعات واسعة من النخب المصرية على اختلاف توجهاتها السياسية والفكرية.
وعلى الرغم من تمكن الحكومة المصرية من حسم هذه المعركة لمصلحتها، بالنجاح في إسقاط حكم كانت قد أصدرته المحكمة الإدارية العليا، يقضي بمصرية هاتين الجزيرتين وبطلان توقيع الحكومة المصرية على اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع السعودية، فإن هذه المعركة خلفت آثاراً ما زال طعم مرارتها عالقاً في الحلوق حتى هذه اللحظة، فما زالت قطاعات عريضة من المواطنين المصريين تعتقد أن الحكومة السعودية استغلت مرحلة ضعف مرّت بها الحكومة المصرية في أعقاب أحداث 30 حزيران/يونيو و3 تموز/يوليو 2013 لتقبض ثمن ما قامت به من دور وما قدمته من تأييد مادي ومعنوي لهذه الأحداث التي انتهت بسيطرة الجيش على مقاليد السلطة في مصر.
لا يتّسع المجال هنا للخوض في تفاصيل هذه المعركة، ولا للحديث عن الأسانيد التاريخية والقانونية التي تطرحها الأطراف المعنية لإثبات ملكيتها للجزيرتين، فلهذا مجال أو مقام آخر. المهم أن الحكومة المصرية شرعت، فور تمكنها من حسم هذه المعركة لمصلحتها، في اتخاذ إجراءات التصديق على اتفاقية ترسيم الحدود البحرية، ثم أقرّها البرلمان المصري في 14/6/2017، وصدّق عليها رئيس الجمهورية في 17/6/2017، ونشرت في الجريدة الرسمية في اليوم نفسه.
ولكن عملية نقل السيادة على الجزيرتين إلى السعودية تطلبت إجراءات أخرى موازية لضمان موافقة الحكومة السعودية، من ناحية، على التزام الترتيبات الأمنية نفسها التي تخضع لها الجزيرتين بموجب معاهدة “السلام” المصرية الإسرائيلية، ولإخطار الحكومة الإسرائيلية من ناحية أخرى بهذه الموافقة، وهو ما جرى فعلاً، إذ تضمّنت الملحقات المرفقة بالاتفاقية المنشورة في “الوقائع المصرية” مكاتبات متبادلة بين السلطات المصرية وكل من السلطات السعودية والسلطات الإسرائيلية تفيد بموافقة السعودية على الترتيبات الأمنية التي تخضع لهما الجزيرتان بموجب معاهدة “السلام” المصرية الإسرائيلية.
إلى هنا، كان يمكن التعامل مع هذه الإجراءات باعتبارها مسألة تخص مصر والسعودية من ناحية، كما تخص مصر و”إسرائيل” من ناحية أخرى، من دون الحاجة إلى تواصل مباشر بين “إسرائيل” والسعودية، لكن الأمور لم تسر على هذا النحو، وذلك لسبب بسيط، هو أن “إسرائيل” كانت تنظر إلى المسألة برمتها بطريقة أخرى، وتبحث عن ثغرة لجر السعودية نحو مصيدة التطبيع.
بعد 7 أشهر من نشر مصر الوثائق الرسمية الخاصة باتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع السعودية، كتب وزير الخارجية المصري إلى نظيره الإسرائيلي خطاباً آخر يخطره فيه بأن مصر والسعودية “تعتزمان توقيع الاتفاقية المرفقة المعنية بالترتيبات بين الحكومتين بشأن مهام القوة متعددة الجنسية والمراقبين في مضيق تيران وجزيرتي تيران وصنافير”، ويؤكد له من جديد أن مصر “لن تقبل بأي تعديل على الاتفاقية من دون القبول الرسمي المسبق لحكومة إسرائيل”، ثم أضاف: “أتطلع إلى تلقي إقرار سعادتكم بمضمون خطابي، والوثائق المتضمنة طيه، بما في ذلك الاتفاقيات المرفقة”، قبل أن يختتم خطابه قائلًا: “بعد تبادل الخطابات ودخول الاتفاقية حيز النفاذ، ستخطر القوة متعدّدة الجنسية والمراقبين لاتخاذ الإجراءات اللازمة للتنفيذ”.
وفي اليوم التالي مباشرة، تلقى وزير الخارجية المصري رداً من نظيره الإسرائيلي، جاء فيه: “آخذ علمًا بتأكيدكم أنه ما من تعديل سيدخل على الاتفاقية المعنية بالترتيبات بين الحكومتين بشأن مهمة القوة متعددة الجنسية والمراقبين في مضيق تيران وجزيرتي تيران وصنافير من دون القبول الرسمي المسبق لحكومة دولة إسرائيل”، ثم اختتم رسالته قائلاً: “في ضوء ما تقدم، أقر بمضمون خطابكم والوثائق المتضمنة طيه، بما في ذلك الاتفاقيات المرفقة، وأؤكد موقفنا أن هذه الوثائق لن يجري اعتبارها انتهاكًا لمعاهدة السلام وملاحقها، وبروتوكول القوة متعددة الجنسية والمراقبين وجميع التفاهمات ذات الصلة بين بلدينا”.
كان يمكن أن تواصل الأمور سيرها نحو الهدف المنشود، من دون الحاجة إلى تواصل مباشر مع “إسرائيل”، لو أن السعودية اكتفت بالموافقة على البرتوكول الخاص بمهمة القوة متعدد الجنسية والمراقبين من دون تعديل.
وكان بمقدور الحكومة المصرية في هذه الحال نقل الموافقة السعودية إلى “إسرائيل”، كما فعلت من قبل حين نقلت موافقتها على الترتيبات الأمنية المتضمنة في المعاهدة، وينتهي الأمر عند هذا الحد، لكن يبدو أن هاتفاً ما أوحى إلى الحكومة السعودية فجأة بأن تطلب رحيل القوات متعددة الجنسية والمراقبين من جزيرة تيران، بدعوى أن وجودها الدائم عليها ينتقص من سيادتها على كامل ترابها الوطني! وهو ما يستدعي بالطبع الحصول على موافقة مسبقة من الحكومة الإسرائيلية. وهنا يكون السؤال: من أوحى بغرس هذه الفكرة الجهنمية في عقل الحكومة السعودية أو في عقل ولي العهد محمد بن سلمان؟ الأرجح أنه شخص ما يحمل رأساً أميركياً وقلباً إسرائيلياً، ويبحث عن ثغرة تسمح بالنفاذ عبرها لبحث وسائل لعقد صلات مباشرة بين “إسرائيل” والسعودية.
هذه المسألة المهمة جداً، وتأتي في وقت تحاول الولايات المتحدة إقامة شبكة من الترتيبات الأمنية في المنطقة، خصوصاً بعد نجاح “إسرائيل” في الحصول على موافقة بعض دول الخليج العربي لإقامة أنظمة دفاع جوي إسرائيلي على أراضيها، ربما تحسباً لاحتمال أخفاق الجهود الرامية لضمان العودة إلى الاتفاق الخاص ببرنامج إيران النووي الموقّع عام 2015، الذي انسحب منه ترامب عام 2018.
تجدر الإشارة هنا إلى أن موقع جريدة “الأهرام” المصرية، وهي جريدة شبه رسمية، كان قد نشر في حزيران/يونيو الماضي تقريراً نسب إلى مجلس الوزراء المصري، يؤكّد توصل مصر والسعودية إلى اتفاق يقضي بأن تستمر مصر في تولي مسؤولية إدارة جزيرتي تيران وصنافير مع إقرارها في الوقت نفسه بالحقوق السيادية للسعودية عليهما.
ولأن هذا التقرير حذف، ولم يعد متاحاً على الموقع الإلكتروني لصحيفة “الأهرام”، فقد أوحى نشره بأن مصر ربما تكون قد بذلت جهوداً لإقناع السعودية بالاكتفاء باعتراف مصر بالسيادة السّعودية على الجزيرتين في مقابل بقاء الوضع الإداري على ما هو عليه، تحسباً لمخاطر محتملة قد تترتّب على فتح الثغرة التي تسعى لها “إسرائيل”، ولأنها جهود باءت بالفشل، فمن الوارد تفسير الإصرار السعودي على طلب رحيل القوات متعددة الجنسية، حتى ولو كان الثمن هو بداية الانزلاق نحو تطبيع العلاقة رسمياً مع “إسرائيل”، على أنه ينطوي على موافقة ضمنية على السير في هذا الاتجاه!
سيطرة السعودية على الجزيرتين يعني أن السعودية ستسيطر منفردة على مضيق تيران الذي يتحكم في الملاحة البحرية في خليج العقبة، ودخول السعودية في علاقات رسمية مباشرة مع “إسرائيل” يعني أن الأخيرة ستكون لها اليد العليا في هذا الشأن.
ولأن “إسرائيل”، وخصوصاً في ظل الصراع المحتدم حالياً والمتصاعد بينها وبين إيران، لا تخفي أنها تستهدف الوصول إلى باب المندب والاقتراب من حدود إيران البحرية والبرية، يرجح أن تشهد المنطقة في الأشهر، وربما في الأسابيع القليلة المقبلة، تطورات خطِرة قد يكون لها أوخم العواقب، وخصوصاً إذا أعلن رسمياً فشل مفاوضات فيينا والدوحة واستحالة التوصل إلى اتفاق يتيح عودة الولايات المتحدة إلى الاتفاق الخاص ببرنامج إيران النووي.
Discussion about this post