كتبت بثينة شعبان
قبل أن يغادر الولايات المتحدة متّجهاً إلى الشرق الأوسط، نشر جو بايدن مقال رأي في الواشنطن بوست بتاريخ 9/7/2022 تحت عنوان السؤال: لماذا أنا ذاهب إلى السعودية؟ وأجاب بقوله: “لأفتح فصلاً جديداً وواعداً للانخراط الأميركي هناك، ولخدمة مصالح أميركية مهمة”.
ما علينا اليوم أن نقرأه بعد أن شاهدنا وتابعنا فصول الزيارة، من الكيان الغاصب و”إعلان القدس” بين هذا الكيان والولايات المتحدة إلى اجتماع بايدن بزعماء تسع دول عربية، بعد أن أضاف إلى مجلس التعاون الخليجي في هذا الاجتماع مصر والأردن والعراق، وأن نحلّله بموضوعية وهدوء، هو: ماذا تحقق خلال هذه الزيارة، وماذا سوف يتحقق كنتائج لها في المقبل من الأيام، ولمصلحة من؟
“وثيقة القدس” أو “اتفاق القدس” بين الكيان الصهيوني والولايات المتحدة كان خطيراً بالفعل على مستقبل المنطقة، وبالتحديد على هوية هذه المنطقة، وقد اتّخذ هذا الاتفاق ما سمّوه الخطر النووي الإيراني ذريعة، ليس فقط لتهديد إيران خلال مسار المفاوضات معها الذي يُعتبر قائماً، بل لتحويل الكيان الغاصب إلى شريك استراتيجي، “والالتزام الدائم للولايات المتحدة بأمن “إسرائيل” والحفاظ على تفوّقها العسكري النوعي على العرب، والحفاظ على قدرة “إسرائيل” على ردع أعدائها وتعزيز قدراتها للدفاع عن نفسها ضد أيّ تهديد أو مجموعة من التهديدات”، وأن “هذه الالتزامات مقدسة من الحزبين، وهي التزامات استراتيجية ذات أهمية حيوية للأمن القومي للولايات المتحدة نفسها”. وينص الاتفاق على تقديم الولايات المتحدة 38 مليار دولار من المساعدات العسكرية لـ”إسرائيل” على مدى عشر سنوات.
بعد هذا الكلام الحاسم والفاصل، والذي لا يدعم فقط “إسرائيل” في وجه الفلسطينيين، بل في وجه جميع من يعاديها في المنطقة أيضاً، وهي تعتبر كل العرب تهديداً وجودياً لكيان الاحتلال، سواء أطبّعوا معها أم لم يطبّعوا. والاتفاق موجّه ضد أي تهديد أو مجموعة من التهديدات يحدّدها الكيان نفسه.
ما هي قيمة تصريح بايدن في الضفة بقوله: “إن هدف حل الدولتين قد يكون بعيد المنال، لكن نحن نستشعر الحزن الذي يشعر به الشعب الفلسطيني”؟ وكيف يمكن ترجمة جملته أنه سوف يستمر بالعمل لجمع الفلسطينيين والإسرائيليين بعد أن قرّروا أن كل ما تقوم به “إسرائيل” هو ضمن القيم المشتركة والروابط غير القابلة للكسر بين البلدين؟ أي إن الولايات المتحدة نقلت الكيان إلى مرحلة أخرى في المنطقة، مرحلة اعتبرت فيها هذا الكيان ممثلاً للأمن القومي الأميركي، وتسانده في تفوّقه العسكري على كل من يسكن هذه المنطقة إذا تجرّأ على رفض أي صفة أو عمل يقوم به هذا الكيان.
كذلك أشار الرئيس بايدن في مقاله المذكور إلى أنه سيكون أول رئيس للولايات المتحدة يغادر من القدس ليهبط في جدّة، وأن هذا أمر مهم، وتلاه إعلان المملكة السعودية فتح أجوائها لكل شركات الطيران. وهنا نلاحظ أن اللغة التي تمّ استخدامها توارب للتعبير عن فتح الأجواء السعودية والخليجية أمام الطائرات الإسرائيلية، وقد عبّر مسؤولون في “إسرائيل” عن المسافات التي سوف تختصرها رحلاتهم، وتخفيض كلفة الطيران على مستخدمي طيرانهم، أي إنه تطور مهم جداً للكيان الغاصب. ولكنّ الاتفاق على ما يبدو هو عدم استخدام لغة قد تستفزّ مشاعر البعض.
والمواربة نفسها تنطبق على نتائج اجتماع بايدن مع الدول العربية التسع في جدة، والذي كان الهدف منه إقحام العراق أيضاً مع مصر والأردن وبقية دول الخليج في كل القرارات التي تُتّخذ، سواء لمواجهة أعداء الكيان أم للتعاون التدريجي مع كيان الاحتلال، من دون أن يتم استخدام عبارة “ناتو عربي”، لأنهم ربما اكتشفوا أن الوقت ما زال مبكراً لاستخدام هذه العبارة، ولكنّ العمل جارٍ، وبشدة، لإرساء الأسس لمثل هذا الناتو الذي من الواضح أن “إسرائيل”، ممثلة للولايات المتحدة، سوف تقود هذا الحلف في المستقبل.
أما الكلام بشأن حل الدولتين والحقوق الفلسطينية في مثل هذه الأجواء، ووفق هذه الخطط، فهو الغطاء اللازم لتمرير جرعات مسمومة لا يمكن لعقل أي عربي يعتزّ بعروبته ويؤمن بعروبة فلسطين أن يستسيغها أو يتمكن من تجرّعها. واللافت أن الولايات المتحدة زادت من دعمها لكيان الاحتلال، فيما نشهد ما يمكن تسميته تخلّي العرب تماماً عن شعبهم في فلسطين.
واللغة الهادئة نفسها استُخدِمت للتعبير عن الإنجاز الذي حقّقه بايدن في السعودية، والذي هو إنجاز حيوي لرئاسته وللانتخابات النصفية المقبلة في الولايات المتحدة، ألا وهو زيادة إنتاج النفط، التي سوف ينجم عنها هبوط في أسعار الطاقة، وهو الموضوع المُلِحّ بالنسبة إلى الولايات المتحدة والغرب بعد ارتفاع أسعار الطاقة إلى الضعف تقريباً، نتيجة العلاقات الروسية الغربية في هذا الموضوع، بعد العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، ما زاد من الإيرادات النفطية للدول العربية النفطية. وهذا هو الإنجاز السريع المهم الذي ابتغى بايدن تحقيقه في هذه الرحلة، وقد تحقّق، وسيبدأ الضخّ خلال أسبوعين، وبذلك يتخلّى العرب أيضاً عن مواردهم لصالح الاقتصادات الغربية.
أما القول إن هذه الرحلة قد كسرت عزلة السعودية، فإن هذا ما يحاول الآخرون إيهام العرب به، بأنهم معزولون، وأنهم بحاجة إلى مثل هذه اللقاءات لضمان أمنهم والاعتراف بمشروعيتهم، في الوقت الذي يمتلكون فيه حوامل الطاقة التي ما زالت تشكّل عصب الحياة الغربية، من الصناعة إلى الزراعة، في الغرب برمته؛ فمن هو الذي بحاجة إلى أن تتحقق مصالحه، ومن هو الذي يعاني من أضرار الوضع الراهن وبحاجة إلى إنقاذ؟! أليس غريباً أن يتحوّل الغريق إلى مُنقِذ، وأن يتوهم المُنقِذ أنه هو الغريق وبحاجة إلى من يُنقذه؟؟
في ضوء كل ما تحقق لكيان الاحتلال الغاصب، ولإدارة بايدن وخططه من ضرورة تخفيض أسعار الوقود في الغرب، مع إلحاح تصريحاتهم على السير في مخططات أبراهام التي تمثّل خطورة بالغة على هوية الأمة العربية ككل، يطرح السؤال نفسه: ما الذي حقّقه العرب من هذا اللقاء، سواء بالنسبة إلى القضية الفلسطينية أم حتى بالنسبة إلى الحضور العربي في المنطقة، في وجه “إعلان القدس” الذي سلّم مفاتيح العمل في المنطقة وتمثيل مصالح الولايات المتحدة للكيان الصهيوني؟ وهل تمكنت الدول العربية التسع من وضع بند واحد في أجندة هذا الاجتماع، إذا كان هذا البند لا يصبّ في مصلحة كل ما نصّ عليه إعلان القدس وكل الرؤية المستقبلية لهذا الإعلان، ليس من تكريس وشرعنة احتلال فلسطين واغتصابها فقط، بل من تخطيط مستقبلي للتحكّم في توجّهات ومصير دول هذه المنطقة من المضائق البحرية: مضيق هرمز وباب المندب إلى جزيرة تيران وصنافير، وفق التزامات واتفاقات وتعهدات لم يعلن عن صميمها بعد؟
يبدو أن الاتفاق قد نصّ كتابة أو شفاهة على التخفيف من اللغة المعلنة اليوم، والسير قدماً في العمل ضمن هذا التوجه الذي تمّ التخطيط له ووضع تفاصيله، ووصل جاهزاً ومحمولاً مع القادمين من القدس المحتلة إلى جدة، لتَتِمّ الموافقة عليه، ولنكتشف ما خفيَ من مندرجاته في المقبل من الأيام أو الأشهر أو السنوات.
إعلان القدس واجتماع جدة وما كتب في البيانات وما لم يكتب بين السطور، ستكون لها تبِعاتها الكارثية على سيادة الدول العربية وعلى استقلال الإرادة العربية وعلى مستقبل العرب ككل، ما لم يواجَه هذا التخطيط الخطير بتخطيط مقابل يقرأ بموضوعية ودقة حجم التهديدات الكارثية المقبلة، وتُعَدّ العدّة الحكيمة لمواجهتها.
Discussion about this post