تركِّز الولايات المتحدة الأميركية أقصى اهتمامها على دور الإستخبارات وجمع المعلومات ومقاطعتها وتحليلها، وتعتمد منظومة اتخاذ القرارات لديها وبخاصة الحساسة منها على تلك المعلومات الإستخباراتية والتي تطوِّرها بشكل دائم لمراقبة أراضيها من جهة، وتتبّع كل ما يحدث في دول العالم من جهة أخرى وبالأخص مراقبة وجمع وتحليل كل ما أمكنها الوصول إليه من معلومات حول من تصنّفهم على أنهم أعداء وخصوم للولايات المتحدة الأميركية.
تدرَّجت الولايات المتحدة الأميركية منذ القرن الثامن عشر في تأسيس مراكز الإستخبارات وذلك تبعًا لحاجتها، ولدورها الإقليمي والعالمي، ولما تعتبره تحديات وتهديدات لأمنها القومي، حيث من الملاحظ أنَّ إنشاءها لكل مركز استخبارات كان استجابة لمتغيِّرات محدَّدة، كالحرب العالمية الأولى، وانتصارها في الحرب العالمية الثانية وبدء هيمنتها العالمية، والحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي، وانتصار الثورة الإسلامية في إيران، وهجمات 11 سبتمبر وغيرها.
أنشأت الولايات المتحدة الأميركية أول مركز استخباري عام 1882م، وهو مكتب المخابرات البحرية (ONI) الذي يتبع لسلاح البحرية الأميركية التابعة لوزارة الدفاع، ثم أنشأت عام 1915 استخبارات خفر السواحل (CGI) الذي يتبع لخفر سواحل الولايات المتحدة التابعة لوزارة الأمن الوطني، ثم أنشأت عام 1945 مكتب الإستخبارات والبحوث (INR) الذي يتبع للإدارة الفيدرالية للولايات، تلاها عام 1947 إنشاء وكالة الإستخبارات المركزية (CIA) وهي وكالة مستقلة كانت تتبع للرئيس مباشرة لغاية تأسيس مجمع الإستخبارات (IC)، ثم أنشأت عام 1948 سلاح الجو السادس عشر (AF16) الذي يتبع لسلاح الجو الأميركي التابع لوزارة الدفاع، وفي عام 1952 أنشأت الولايات المتحدة الأميركية كل من؛ وكالة الأمن القومي (NSA)، وخدمة الأمن المركزي (CSS) واللَّتان تتبعان لوزارة الدفاع، ثم أنشأت عام 1961 كلًا من؛ مكتب الإستطلاع الوطني (NRO)، ووكالة استخبارات الدفاع (DIA) واللَّتان تتبعان أيضًا لوزارة الدفاع، وأنشأت عام 1977 كلًا من؛ فيلق المخابرات العسكرية (MIC) والذي يتبع لقيادة الجيش التابعة لوزارة الدفاع، ومكتب المخابرات والإستخبارات المضادة (OICI) والذي يتبع لوزارة الطاقة، ثم أنشأت عام 1978، استخبارات سلاح مشاة البحرية (MCI) والتي تتبع لمشاة البحرية الأميركية التابعة لوزارة الدفاع.
الاستخبارات الأميركية تغير طريقتها بعد الثورة الإسلامية
ومنذ العام 1979؛ تغيرت استراتيجة الولايات المتحدة الأميركية في إنشاء مراكز الإستخبارات والتعامل معها، حيث ظهر تحدٍّ جديد وهو انتصار الثورة الإسلامية في إيران والتي رفعت شعار “الموت لأميركا” و “الموت لإسرائيل” وما رافقها من إغلاق السفارة الأميركية في طهران واحتجاز طاقمها وكل ما تبع ذلك من أحداث مهمَّة واستثنائيَّة لم تكن مألوفة لدى العالم ولا لدى أميركا بنفسها لناحية رفع الشعارات ضد الهيمنة والسياسة الأميركية وتحديها والجرأة في مواجهتها.
واستجابةً لذلك؛ قرَّرت الولايات المتحدة الأميركية عام 1981 أن تعمل بطريقة استخباراتية مختلفة، وتغيير عقيدتها الإستخباراتية من خلال إعادة هيكلتها وتوحيد جهود كل وكالاتها الإستخباراتية فيما بات يُعرف بـ “مجمع الإستخبارات الأميركية (IC)” والذي يرأسه “مدير الإستخبارات الوطنية (DNI)، والذي يتبع مباشرة لرئيس الولايات المتحدة الأميركية، ويُعتبر المستشار الأول للرئيس ولمجلس الأمن القومي الأميركي في كل ما يتعلق بالإستخبارات المتصلة بالأمن القومي، إضافة لكونه مديرًا لمجمع الإستخبارات (والذي يضم حاليًا 18 عضوًا) ويديره من خلال “مكتب مدير الإستخبارات الوطنية (ODNI)، كما يتولى الإشراف والتوجيه على البرنامج الوطني للإستخبارات.
بعد خمسة عشر عامًا على تأسيس مجمع الإستخبارات الأميركية، وتحديدًا عام 1996، قامت الولايات المتحدة الأميركية بتأسيس وكالة الإستخبارات الجغرافية المكانية الوطنية (NGA) والتي تتبع لوزارة الدفاع، ثم قامت عام 2004 بتأسيس مكتب الإرهاب والإستخبارات المالية (TFI) التابع لوزارة الخزانة والذي يعتبر الجهة المسؤولة عن وضع جهات عديدة ومنها الحرس الثوري وحزب الله وغيرهما على لوائح العقوبات المالية الأميركية، وفي عام 2005 تم تأسيس فرع المخابرات (FBI) الذي يتبع لمكتب التحقيقات الفيدرالي التابع لوزارة العدل، ثم في عام 2006 تم تأسيس مكتب استخبارات الأمن القومي (ONSI) الذي يتبع لإدارة مكافحة المخدرات التابعة لوزارة العدل، وفي عام 2007 تم تأسيس مكتب الإستخبارات والتحليل (I&A) التابع لوزارة الأمن الداخلي التابعة للأمن الوطني، وفي عام 2020 تم تأسيس مركز دلتا الفضاء (DEL7) التي تتبع لقوة الفضاء التابعة لوزارة الدفاع.
ولكلٍّ من تلك المراكز هيكلياتها ودورها ووظائفها ونطاق اهتماماتها وتركيزها وسجل عملياتها والتي لا يتسع لها هذا المقال، وهي جميعها أصبحت تتبع من الناحية الوظيفية لمجمع الإستخبارات (IC)، وهو ما أوجد ابتداءً مشاكل واعتراضات داخل أروقة الإستخبارات الأميركية على الدور والصلاحيات كما حصل مع وكالة الإستخبارات المركزية (CIA) والتي عارضت بشدة ضمّها لمجمع الإستخبارات إضافةُ لتحديات حقيقية في التعاون الإستخباراتي وهو ما أدى لإخفاق بحسب التقديرات في التعامل مع هجمات 11 أيلول عام 2001 بسبب عدم التعاون المطلوب بين (CIA) و (FBI).
تم تحديد وظيفة مجمع الإستخبارات الأميركية (IC) الأساسية بالقيام بالأنشطة الإستخباراتية الضرورية لتسيير العلاقات الخارجية وحماية الأمن القومي للولايات المتحدة، ويركِّز على مهام الاستخبارات الإلكترونية، ومكافحة الإرهاب، والاستخبارات المضادة، وعلى التهديدات التي تشكلها الجهات الفاعلة الحكومية وغير الحكومية التي تتحدى الأمن القومي للولايات المتحدة ومصالحها في جميع أنحاء العالم. ويستفيد مما يصدره بحسب قانون الأمن القومي الأميركي الصادر عام 1947: رئيس الولايات المتحدة الأميركية، مجلس الأمن الوطني، رؤساء الإدارات والوكالات الاستخباراتية، رئيس هيئة الأركان المشتركة وكبار القادة العسكريين، والكونغرس.
85 مليار دولار ميزانية مجمع الاستخبارات
ولمجمع الإستخبارات والذي تبلغ ميزانيَّته السنويَّة حوالي 85 مليار دولار أميركي، خط ثابت من الإصدارات الإستخباراتية الإستراتيجية والتكتيَّة اليومية والدورية، فهي تقدِّم تقريرًا يوميًا للرئيس الأميركي، وتقارير تقدِّمها للجهات التي تستفيد من إصداراتها والتي تناقش وتصدر القرارات بتبني الإستراتيجيات الأمنية للولايات المتحدة وفقًا لها، ومن أبرز إصداراتها التي تقوم بنشرها “إستراتيجيات الإستخبارات القومية للولايات المتحدة الأميركية NIS” والذي أصدر آخر مرة عام 2019، وكان قد أوصى الإصدار السابق له عام 2014 اعتماد الولايات المتحدة الأميركية لاستراتيجية “الأمن الصلب” أو “الأمن الذكي” والتي عُقدت لأجلها اجتماعات مراكز التفكير الأميركية، والتي تمَّ تلزيمها إصدار الأبحاث حول ذلك ليصدر “مركز راند” عام 2016 دراسته حول الحروب الإرغامية والتي قيَّم فيها استراتيجيات الحروب الصلبة والحروب الناعمة، ليتبنَّى استراتيجية الحروب الإرغامية والتي تعتمد على مواجهة الأعداء والخصوم دون حرب (والذين تم تحديدهم بالصين وروسيا وإيران)، وحدَّد مواجهتهم من خلال ست أدوات إرغامية وهي: العقوبات الإقتصادية، الحظر على الأسلحة والتكنولوجيا، استغلال مخزون الطاقة، الإعتراض البحري، مساندة خصوم العدو، العمليات الهجومية الإلكترونية.
إصدارات مجمع الاستخبارات
ومن إصدارات مجمع الإستخبارات المهمة أيضًا “الإتجاهات العالمية Global Trends“ والتي تصدر كل أربع سنوات والتي تتوقَّع من خلال المعطيات الإستخباراتية والأبحاث والدراسات شكل العالم خلال العشرين سنة القادمة في مختلف الأصعدة الإقتصادية والإجتماعية والديموغرافية والثقافية والبيئية والمناخية والعسكرية والأمنية، إضافةً للتحالفات والتكتلات السياسية الإقليمية والدولية، والتي كان آخرها إصدار عام 2020 والذي يتوقع تلك الإتجاهات حتى عام 2040 والذي حمل عنوان: “عالم مثير للجدل A more Contested World“.
أفريل هاينس مديرة مجمع الاستخبارات
لقد تعاقب على إدارة مجمع الإستخبارات الأميركية (IC) منذ تأسيسه عام 1981سبع رؤساء، وتديره حاليًا الرئيسة السابعة أفريل هاينس – Avril Haines، والتي تولَّت هذا المنصب في 21 كانون الأول 2021، وهي من أم يهودية كما أن زوجها David Davighi يهودي أيضًا، ولدت في نيويورك في 27 آب عام 1967، حائزة على بكالوريوس في الفيزياء عام 1992، ودكتوراه في القانون عام 2001. وقد عملت سابقًا مساعدة للرئيس ونائب مستشار الرئيس لشؤون الأمن القومي في البيت الأبيض (2010-2013)، ثم نائبة مدير وكالة المخابرات المركزية (2013-2015)، ثم نائبة مستشار مدير الأمن القومي (2015-2017)، قبل أن تتولى مهمتها الحالية.
وخلال عملها في إدارة أوباما، عملت “هينز” عن كثب مع “جون برينان” في تحديد سياسة “القتل المستهدف” خارج نطاق القضاء بواسطة الطائرات بدون طيار. وقد ذكرت مجلة نيوزويك أنه تم استدعاء هينز في بعض الأحيان في منتصف الليل لتقييم ما إذا كان يمكن “حرق إرهابي مشتبه به بشكل قانوني” بواسطة غارة بطائرة بدون طيار، وقد لعبت دورًا فعالًا في وضع الإطار القانوني والمبادئ التوجيهية للسياسة لضربات الطائرات بدون طيار، والتي استهدفت أشخاصًا في الصومال واليمن وباكستان.
مرفقات
Discussion about this post