لقد أظهرت الصور ومقاطع الفيديو التي نشرها الإعلام الإسرائيلي من قطر أخيراً نظرة الشعوب العربية الحقيقية إلى احتلال فلسطين، وعدم قبولها بالرواية السائدة التي تقول إن الإسرائيليين باتوا مقبولين في دول الخليج بعد توقيع اتفاقيات “التطبيع”، وأَسقطت إعلامياً كل الروايات التي تتحدث عن أن “العرب لم يعودوا يجدون في إسرائيل عدواً بل يجدونهم حليفاً لهم ضد إيران”.
إن هذه المشاهد، إضافة إلى عدد من استطلاعات الرأي التي أشارت إلى أن اتفاقيات التطبيع وكل الجهد الإعلامي والإعلاني وصرف الأموال الطائلة، لم تستطع أن تربح حرب الأفكار الدائرة اليوم على مستوى العالم ككل وعلى مستوى الشرق الأوسط.
يشار إلى حرب الأفكار والأيديولوجيات السائدة اليوم، باسم “القوة الناعمة” ويفسرها المنظرون الأميركيون بـ”إغراء القلوب والعقول”، أي السعي إلى “الهيمنة الثقافية” التي كان المفكر اليساري، أنطونيو غرامشي، قد تحدث عنها في أواخر القرن التاسع ومطلع القرن العشرين، إذ رأى أن كل طبقة حاكمة لا تعتمد فقط على السيطرة المادية والقهرية والسياسية للمجتمع المحكوم، بل على الهيمنة الفكرية أيضاً، أي على اختراق المجتمع والتأثير فيه فكرياً من خلال فرض نظام القيم الخاص بها وإطارها الفكري ومُثلها ومعاييرها للصح والخطأ، وهو ما يساعد على جعل سيطرتها أطول عمراً وأكثر فعالية.
وتوصل غرامشي إلى خلاصة مهمة مفادها أن الهيمنة الثقافية ضرورية من أجل نجاح سلطة ما، وعلى أي طبقة اجتماعية تريد السيطرة وضمان السلطة والقيادة تكوين هيمنة ثقافية على الآخرين، إذ إن التجارب تثبت أن تفوق مجموعة اجتماعية معينة يَظهر بطريقتين اثنتين: من خلال السيطرة والإخضاع بالقوة، ومن خلال قيادة فكرية ووجدانية وقيمية.
وتتنوع وسائل حروب القوة الناعمة، وفيها:
-المناظرات الفكرية، وهي نزاعات تقدّم فيها الأطراف المتعارضة حججها، وتدعمها بالأدلة وتسعى لدحض استدلال واستنتاجات الطرف الآخر.
– الحروب الأيديولوجية، وهي صراع رؤىً واسعة تُنظّم عادة حول عقيدة معينة.
أما المثال الأكثر شيوعاً للصراع الأيديولوجي فهو الحرب الباردة التي تضمّنت منافسة سياسية واقتصادية وعسكرية بين الولايات المتحدة (الليبرالية) والاتحاد السوفياتي (الشيوعية)، والتي انتصرت فيها الليبرالية، إذ عُد هذا الانتصار نهاية تاريخ الصراع بين الأيديولوجيات.
– الحملات الإعلامية وقد تكون مباشرة أو غير مباشرة، والهدف منها إقناع الجماهير بوجهة نظر معينة، يليها اتخاذهم إجراءات معينة مطلوبة بنفسها، كالتصويت لمرشح معين، أو المشاركة في تظاهرة أو غير ذلك.
وانطلاقاً مما سبق، نجد أن الغرب كان دائماً متفوقاً في الحرب الإعلامية وحروب الأفكار المتعددة، لكن التطور التقني والتكنولوجي وانتشار وسائل التواصل التي كان من المفترض أن يستخدمها الغرب لتسويق أفكاره وترسيخ هيمنته قد انقلبت وبات الغرب يتراجع في حرب الأفكار في عدد من المجالات، ونضرب بعض الأمثلة:
1- الحرب الأوكرانية: مع أن الحرب الإعلامية بين روسيا والغرب كانت لمصلحة الأخير على نحو كبير، وسيطرت الرواية الغربية على نظرة الرأي العام العالمي إلى الحرب الروسية في أوكرانيا، لم تضعف روسيا من الداخل، ولم يؤلّب الرأي العام الروسي أو حتى الأوليغارشية على بوتين لإطاحته، وفق ما سعى له الأوروبيون من خلال قدرتهم الإعلامية وحزمات العقوبات الاقتصادية المتعددة.
2- النظرة إلى “إسرائيل” في الشرق الأوسط: إضافة إلى العداء الذي أظهره المشجعون العرب للإعلام الإسرائيلي في مونديال قطر، وقيام سائق التاكسي بإنزال الإعلاميين بعد معرفته بجنسيتهم، وإصرار العرب من جميع الجنسيات على أن “ليس هناك إسرائيل بل فلسطين”.. إضافة إلى تلك المشاهد، أظهرت استطلاعات الرأي التي نشرها “معهد واشنطن” الأميركي أن غالبية المستطلعين في البلدان السبعة المشمولة بالاستطلاع (البحرين ومصر والأردن والكويت ولبنان والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة) عارضوا عبارة “السماح للذين يرغبون في إقامة علاقات تجارية أو رياضية مع الإسرائيليين بالقيام بذلك”.
وفي الاستطلاع نفسه، قالت أغلبيات ساحقة إنها تَعُد اتفاقيات التطبيع “سلبية إلى حدٍ ما” أو “سلبية جداً”.
وحتى في البلدان الموقعة على الاتفاقيات، وتحديداً البحرين والإمارات، تضاءل الدعم من الأقليات الكبيرة في الفترة التي أعقبت توقيع الاتفاقيات.
وهكذا إذاً، وسواء سميناها “القوة الناعمة التي تهدف إلى السيطرة على القلوب والعقول، أو سمّيناها هيمنة ثقافية، فإن الهدف المطلوب هو السيطرة على العالم بفرض قيم معينة تجعل صاحب تلك القيم مرغوباً فيه وهيمنته مطلوبة ليست باعتبارها هيمنة بل باعتبارها “إلهاماً وقيماً عالمية حميدة”، لكن التطبيع الذي جرى التسويق له بعنوان ديني برّاق “اتفاقيات أبراهام” سقط، وفشلت معه كل وسائل الترويج والإعلام والإعلان الغربي لجعل “إسرائيل” دولة “مقبولة” لدى شعوب المنطقة.
Discussion about this post