في الوقت الذي صعّدت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن في الأيام القليلة الماضية لهجتها تجاه إيران والصين، وخصوصاً في حال أقدمت الأخيرة على تقديم أيّ مساعدة عسكرية لروسيا (يُحكى عن طائرات من دون طيار متطورة جداً)، رفعت هذه الدول الثلاث وتيرة تحديها لواشنطن، من خلال العمل على تطوير علاقاتها ورفع درجة شراكاتها إلى المستوى الإستراتيجي، وصولاً إلى تشكيل ما يشبه حلفاً ثلاثياً، وإن لم يتم تأطيره بشكل رسمي بعد.
أما مؤشراته الأولى، فقد بدأت تظهر بالفعل عقب انضمام طهران إلى جهود التنين الآسيوي لمساعدة الكرملين في تجريف قناة الفولغا – قزوين البحرية، فضلاً عن قيام شركة إيرانية حالياً تابعة للصناعات البحرية بإصلاح سفينة روسية تحطمت في الجليد على نهر الفولغا (يعتبره الغرب أهم من تزويد طهران روسيا بالسلاح)، في تطور نوعي للعلاقات بين هذه البلدان التي يجمعهما العداء المشترك مع الولايات المتحدة الأميركية، إضافةً إلى روابط التاريخ والجغرافيا والعلاقات الاقتصادية.
أهمية تجريف قناة الفولغا وتأثيرها في العلاقات بين الدول الثلاث
في البداية، لا بدّ من الإشارة إلى أنَّ امتداد التعاون بين طهران وبكين وموسكو إلى منطقة الفولغا يعدّ إنجازاً غير مسبوق على المستوى الجيوسياسي، ومن الطبيعي أن يُقلق الغرب أجمع، نظراً إلى أبعاد هذه الخطوة، وخصوصاً أنه لم يسبق للكرملين السماح في السابق للسفن الأجنبية، بما في ذلك الإيرانية والصينية، بالمرور عبر نهر الفولغا أو استخدام القناة.
كانت السلطات الروسية في الماضي تعتبر هذا النهر ممراً مائياً داخلياً يخضع لاعتبارات الأمن القومي. لذلك، كان ممنوعاً على سفن الدول الصديقة والحليفة الدخول إليه أو استخدام كل القنوات المائية الداخلية الموجودة داخل الأراضي الروسية.
انطلاقاً من هذه النقطة، فإنّ أعمال تجريف هذه القناة ستمكّن سفن الشحن الروسية والصينية والإيرانية، وحتى الهندية وغيرها، من نقل المزيد من الشحنات الثقيلة من وإلى بحر قزوين إلى أوروبا، إضافةً إلى أنها تساعد موسكو على عبور سفن بحرية أكبر من أسطول بحر قزوين الروسي إلى بحر آزوف. وبناء عليه، سيؤدي ذلك إلى تمهيد الطريق أمامها لاستعمالها في معاركها المستقبلية ضد أوكرانيا.
علاوةً على ذلك، فإنَّ المشاركة في هذا الجهد مفيدة من الناحية الجغرافية والاقتصادية والجيوسياسية بالنسبة إلى إيران والصين، وستفتح الباب أمام روسيا للتغلب على مشكلة تردي بنيتها التحتية الحالية في منطقة الفولغا، وتعزز أيضاً قدرة موسكو على معالجتها.
أما الأهمّ من كلّ ذلك، فهو أن عملية التجريف هذه ستعزز وتقوي محور موسكو – طهران الناشئ، وستدمج إيران في التحالف الروسي – الصيني القديم الجديد، لا سيما على الصعيدين العسكري والاقتصادي.
ليس هذا فحسب، فإن هذا الحلف سيؤدي دوراً مهماً في التصدي للنفوذ التركي والغربي في المنطقة، إضافةً إلى أنه يعتبر عامل ردع سيحدّ من تهديدات أوكرانيا العسكرية، نظراً إلى الموقع الجيو-إستراتيجي للقناة.
في المقابل، ما يجدر التوقف عنده وقراءة دلالاته أنّ قرار الكرملين إشراك إيران في مشروع التجريف صدر منذ أسبوعين، وهو يأتي في أعقاب قرارين آخرين، أحدهما سمح لشركات التجريف الصينية بالمشاركة في هذه العملية، فيما الآخر أعطى الإذن لطهران باستخدام سفنها الخاصة في قناة الفولغا التي توفر أقصر اتصال صالح للملاحة بين بحر قزوين والبحر الأبيض المتوسط عبر بحر آزوف والبحر الأسود.
وفي هذه السياق، تقول الوكالتان الحكوميتان الروسيتان المعنيتان: هيئة أسطول البحار والأنهار، وهيئة الموانئ الروسية، إن تدخّل إيران سيسمح للسلطات في موسكو بتعميق القناة إلى 4.5 أمتار، إذ إنَّ عمقها في الوقت الحاضر يبلغ بحسب المسؤولين الروس نحو 3.5 أمتار. زد على ذلك أن الطمي أدى في العديد من الأماكن إلى تقليل العمق بشكل أكبر.
ونتيجة لذلك، لم يكن ممكناً استخدام السفن التي يمكنها اجتياز القناة عند هذا العمق (أي 3.5) خلال فترات العام التي تنخفض فيها المياه القادمة إلى القناة. لهذا، قلّلت هذه العوامل من أهميتها الاقتصادية والعسكرية في فترات متقطعة.
من هنا، وفي حال نجحت الجهود الحالية في تعميق القناة إلى 4.5 أمتار على طول مسارها بالكامل، فستتمكّن كل فئات السفن في بحر قزوين تقريباً من الانتقال إلى بحر آزوف والبحر الأسود، وهو أمر لطالما أرادته موسكو.
ما علاقة توسيع القناة بالعقوبات الغربية على موسكو؟
بعيداً من الاعتبارات التقنية، يبدي المخططون والإستراتيجيون الروس حماستهم الشديدة بشأن نمو بحر قزوين وتوسعه كطريق تجاري بين روسيا وإيران، ويحثون بلادهم على التوجه نحو الشرق أكثر فأكثر وترسيخ علاقاتها مع إيران والهند والصين لمواجهة العقوبات الغربية المفروضة على موسكو.
والمثير أنَّ بعض المعلّقين الروس الذين يصفون مثل هذا التطور بأنَّه مسار محتمل نحو إعادة ترتيب التجارة الدولية، يتحدثون في المقابل عن السبل التي يمكن من خلالها للتجارة بين روسيا وإيران عبر بحر قزوين التغلّب على بعض المصاعب الناجمة عن عدم الاستقرار في جنوب القوقاز وتخطي القيود المفروضة على السكك الحديدية في آسيا الوسطى.
كيف تستفيد موسكو من توسيع القناة على الصعيد العسكري؟
إن الأسباب الكامنة وراء السّماح لطهران وبكين بالمشاركة في ما ينبغي أن يكون جهداً محلياً للبنية التحتية لفتح الطريق أمام المزيد من سفن أسطول بحر قزوين للتحرك غرباً هو إشراك القطع البحرية الروسية بفعالية أكبر في المعارك الدائرة في أوكرانيا، وربما تخفيف الضغط عن القوات البرية للجيش الروسي على مختلف الجبهات.
بناءً على ذلك، تدور غالبية التحليلات الغربية حول الآثار العسكرية الإيجابية لمثل هذا القرار، ومدى استغلال الكرملين هذا الأمر في الميدان الحربي. وبصرف النظر عن العوائد التجارية والاقتصادية لعملية التجريف التي قد تجنيها كلّ من بكين وطهران، وهذا أمر طبيعي في حسابات موسكو، فإنَّ تعميق قناة الفولغا سيعطي روسيا القدرة المتقدمة على إبراز القوة غرباً بسرعة أكبر.
وقد يعني هذا بدوره أن المزيد من السفن من أسطول بحر قزوين ستتوجه في غضون بضعة أشهر نحو الشواطئ الأوكرانية، وهو أمر يمكن أن يحرر القوات البرية على طول ساحل البحر الأسود لاستخدامها ضد الجيش الأوكراني في الداخل.
في المحصلة، بالنسبة إلى موسكو، هذه الأعمال تذكير جريء بأنَّ الطرق النهرية – حتى في القرن الحادي والعشرين – يمكنها أن تغير الجغرافيا السياسية للمنطقة، تماماً مثل السكك الحديدية والطرق السريعة، وأن تكون بديلاً فعالاً وعملياً لمواجهة الحصار الغربي وتوسيع حركة التجارة مع العالم الخارجي.
من وجهة نظر الغرب، وتحديداً الولايات المتحدة، فإن هذا الجهد يشكل مصدر قلق وخوف كبيرين، نظراً إلى عواقبه العسكرية والإستراتيجية الفائقة الخطورة على مصالحهم، وفي مقدمتها تخفيف الضغط الاقتصادي على موسكو وسهولة تزويدها بالسلاح في حال اتخذ حلفاؤها القرار بذلك.
Discussion about this post