كُل الاتّهامات المُوجّهة لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة قد تكون في كفّة، وهو بطبيعة الحال ينفيها، والمشهد الأخير الذي رافق خُروجه من منصبه الذي دام لثلاثة عُقود (30 عاماً)، قد يكون في كفّةٍ أخرى، هذا على الأقل بالنسبة لطيفٍ عريضٍ من اللبنانيين، الذين عبّروا عن امتعاضهم، من طريقة الاحتفاء بسلامة خلال مُغادرته منصبه، وبعد نهاية ولايته.
وعلى وقع الزفّة المصحوبة بالطبل والزمز التي جرى إحضارها إلى أمام مبنى المصرف المركزي مع انتهاء ولايته، غادر حاكم المصرف منصبه مُبتسماً، وظهر وهو مُحاط بالعديد من مُوظّفي المصرف، وحشد من المواطنين اللبنانيين، حيث ألقي عليه كلمة قصيرة بلسان موظفي المصرف، قال فيها المُتحدّث بأنه على مدى ثلاثين عاماً عاش اللبنانيون الاستقرار الاجتماعي، والحياة اللائقة، وأضاف المُتحدث الذي كان محل انتقادات حادّة، أنه بفضل “شجاعة، ومُثابرة، وإخلاص رياض سلامة لوطنه”، عمل بكل جهد لتأمين ما يحتاجه اللبنانيون، ورغم كل الظروف الحاليّة التي يمر بها لبنان.
هذا المشهد التكريمي الذي حظي به رياض سلامة، استغربه اللبنانيون، فبحسبهم كان يجب أن يخرج رياض سلامة من منصبه مُعتقلاً، وتقديمه للمُحاكمة، ومن ثم سجنه، ولكنّ النظام السياسي الحاكم هو من سمح بخُروج هذا المشهد الذي وصفه نشطاء بالمُثير للغثيان، ويترافق معه سؤال برسم مُعظم اللبنانيين وباللهجة المحليّة: “عنجد جايبين زفّة تودّع رياض سلامة؟”.
ولا يعتقد بعض اللبنانيين بأن مُغادرة رياض سلامة لمنصبه كحاكم مصرف لبنان، سيُغيّر من حالهم الاقتصادي المُتراجع، وانهيار الليرة اللبنانيّة أمام الدولار، أو سيُنهي حالة الفساد العامّة المُستشرية، وضعف القضاء، حيث علّق اللواء جميل السيّد تعبيرًا عن ذلك عبر حسابه في موقع (X) قائلاً: “مُحاطاً بثلاثين موَدِّعاً، ومصحوباً بطبل وزمْر على وقْع أغنية “فلّوا حبابنا فلّوا”، غادر رياض سلامة نهائياً اليوم موقعه كحاكم لمصرف لبنان… وأضاف لبنانيان على الرصيف كانا يتابعان المشهد، قال أحدهما: ” لبنان أصبح بلا رياض سلامة، هل شعَرْتَ بالفرق” ؟! أجابه الآخَر: ” لا أبداً، ما في فرْق، راح المحاسب وبقيَتْ المافيا، وهي تبحث اليوم عن تعيين محاسب جديد لتنْهبَ معه ما تبقّى”.
أما الإعلامي اللبناني سامي كليب فكتب على حسابه على موقع (X): “انتصر على الجميع، بفضل طبقة سياسيّة أفادت منه بمئات الملايين، وبفضل تهليل معظم الإعلام المستفيد، ودعمٍ خارجي وتخاذل القضاء. قال اليوم ” صمدنا، وأنا متفائل” رغم وفاة الليرة وانهيار الاقتصاد.
غادر بعد 30 عامًا باحتفال وابتسامات، في لُبنان كل شيء مُمكن إلا المُحاكمات.
وبانتهاء رياض سلامة من منصبه، سيتولّى النائب الأوّل لحاكم مصرف لبنان وسيم منصوري بموجب القانون، بدءاً من يوم الثلاثاء، السلطة التنفيذيّة في المصرف المركزي، وسيكون التوقيع مناطاً به، وهو الذي أكّد أنه “لا بد من الانتقال إلى سياسة أخرى وهي وقف سياسة تمويل الدولة بالكامل ولن يتم التوقيع على أي صرف لتمويل الحكومة إطلاقاً خارج قناعاتي وخارج الإطار القانوني”.
وقال سلامة بعد خروجه من حرم “المركزي”: “بودّعكن، بسّ قلبي باقي مَعكن، مصرف لبنان صمد وسيبقى صامداً”، ولا يعرف اللبنانيون من جهتهم ما هو شكل الصمود والبقاء الذي يتحدّث عنه سلامة، حيث البلاد تشهد انهيارًا اقتصاديّاً على جميع الصّعد ويُنهي سلامة ولايته بخسارة الليرة 98 بالمئة من قيمتها مُنذ خريف 2019، الأمر الذي دفع حتى الشباب الجامعيين إلى افتراش الطرقات، وبيع الخضار والفاكهة، وكل ما يُمكن بيعه، ليجدوا قوت يومهم وفق تقارير محليّة.
رياض سلامة نجح في أن يكون أطول حاكم مصرف مركزي يبقى في موقعه، وقد يكون تعريف الصّمود والبقاء للمصرف الذي أشار إليه خلال وداعه، ومن وجهة نظره بأنه بقي في منصبه حتى نهاية ولايته، ورغم مُحاولات تحميله مسؤوليّة الانهيار مُنذ العام 2019.
وسيم منصوري الذي يتولّى “السلطة التنفيذيّة” الآن بموجب القانون، هو وفق القانون القائم بأعمال حاكم المصرف، وذلك حتى تعيين حاكم جديد للمصرف، ووفقاً للنظام السياسي القائم على المُحاصصة الطائفيّة والسياسيّة في لبنان يحتاج تعيين حاكم المصرف الجديد إلى توافق سياسي، وهو ما يبدو أنه لن يكون قريباً، وعلى وقع تزايد رقعة الخلاف بين الفرقاء السياسيين في البلاد، ومُعاناة لبنان من فراغ رئاسي مُنذ 9 أشهر، ما يطرح تساؤلات حول تلك الشخصيّة التوافقيّة التي يُمكن أن تشغل منصب حاكم المصرف، وتحظى بإجماعٍ سياسيٍّ أوّلاً، ويكون لها القدرة على إنقاذ اللبنانيين ثانياً، فيما يجب أن يكون محافظ المصرف مارونيّاً كاثوليكيّاً، وولايته من 6 سنوات (جرى تمديد ولاية سلامة 4 مرّات).
وكان يُتوقّع أن يتجه وسيم منصوري (من الطائفة الشيعيّة) نحو الاستقالة، بعد تهديده بها مُؤخّراً، ولكن تصريحاته أظهرت بأن جهات سياسيّة أظهرت الرغبة في دعمه (محسوب على حزب الله وحركة أمل)، للاستمرار في منصبه، بدلاً من الفراغ، حيث أمهل منصوري الحكومة ومجلس النواب لإقرار عدد من التشريعات الضروريّة خلال 6 أشهر وهي مشروعات قوانين الكابيتال كونترول وإصلاح المصارف والتوازن النقدي، معتبرا أن البلد أمام فرصة أخيرة للتعافي داعيا الجميع للتعالي عن أيّ خلافات سياسية، والالتزام بالقوانين، معتبرا ان المصرف بتصرف المجلس النيابي للانتهاء من دراسة القوانين ضمن المهل.
ومن غير المعلوم إذا كان يُمكن مُقاضاة رياض سلامة، ومدى جديّة مُلاحقته، حيث اتهامات مُوجّهة له، وشقيقه، ومُساعدته في لبنان، بغسل الأموال، والاختلاس، والإثراء غير المشروع، فلذلك أسباب عديدة تضع عدم مُقاضاته هو الخيار، فالقضاء اللبناني يبدو عاجزًا أمام السياسيين، وتدخّلاتهم، فيما ينفي سلامة تحويل أو غسل أي أموال عامّة أساساً، كما يحظى سلامة بحماية بعض النخبة الحاكمة في لبنان، الأمر الذي قد يدفعه للبقاء في بلده، وعدم السّفر تجنّباً لمُلاحقات في الخارج.
وأصدرت السلطات الفرنسيّة والألمانيّة مُذكّرتي توقيف بحق سلامة في أيّار/ مايو الماضي، كما أشارت نشرتان باللون الأحمر صادرة عن الإنتربول إلى أنه مطلوبٌ في كلا البلدين، لكن سلامة قال لوكالة لرويترز إن المحامين طعنوا في مذكرتي التوقيف التي أصدرتها كل من فرنسا وألمانيا.
بكُل الأحوال، عهد سلامة انتهى، ومُحاكمته ستبقى هاجساً للكثير من اللبنانيين، ولكن الأهم بالنسبة لهم هو إنهاء آثار ولاية رياض سلامة التي امتدّت لثلاثين عاماً، وأن يحظى مصرفهم المركزي بحاكم جديد نزيه وخبير يستطيع رفع راية الإصلاح المصرفي، ووضع نهج جديد للمصرف المركزي، يُنهي مُعاناتهم الاقتصاديّة، رغم أن هذه المُعاناة ليست بمعزل عن السياسة ورجالها وتدخّلاتهم، فمن المُبالغ فيه أيضاً يقول لبنانيون تحميل رياض سلامة وحده المسؤوليّة الكاملة عن الانهيار، حتّى وإن كان ثمّة شِبه إجماع لبناني على فساده.
Discussion about this post