نشرت صحيفة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية، منتصف شهر حزيران/يونيو الحالي، تقريراً مطولاً للكاتب الإسرائيلي رونين برغمان يتحدث فيه عن أسرار حرب لبنان الأولى، وما يقول الكاتب إنه “الانهيار في منظومة صنع القرارات الإسرائيلية، والذي بدل وجه الشرق الأوسط”.
وفيما يلي نص المقال منقولاً إلى العربية:
حديث التمويه الذي أوضحت فيه قيادة “الجيش” الإسرائيلي للكتائب اللبنانية ما عليهم فعله بعد مجزرة صبرا وشاتيلا.. عمليات سرية لم تحصل على الموافقات المطلوبة من الحكومة. هاجس اغتيال ياسر عرفات الذي شقّ قيادة المؤسسة الأمنية، والرافضون الذين فضّلوا الصمت وتركوا الفوضى تسود وتحكم. بعد 40 عاماً من حرب لبنان الأولى، تُكشف شهادات، وثائق وبروتوكولات تظهر كيف انهارت تماماً منظومة صناعة القرارات الإسرائيلية – الإنهيار الذي بدّل وجه الشرق الأوسط وما زال يؤثر عليه حتى اليوم. اسألوا نصر الله.
في التاسع عشر من أيلول/سبتمبر 1982، عند الثانية عشرة ظهراً وصل رئيس الأركان رفائيل ايتان، وقائد المنطقة الشمالية أمير دروري، ومناحيم (نحيك) نافوت، نائب رئيس الموساد، ورئيس “تيفل” ( شعبة العلاقات الخارجية في الموساد)، بصحبة العديد من المرافقين ورجال الحماية، لعقد اجتماع سري في قلب بيروت مع مسؤولي الكتائب.
إيتان، بحسب أحد المشاركين في الاجتماع، كان غاضباً جداً، وكانت لديه أسبابه. الاجتماع انعقد بعد يومين من المجزرة التي ارتكبها حزب الكتائب بحقّ أبناء مخيّمي اللاجئين (صبرا وشاتيلا) انتقاماً لاغتيال قائدهم، رئيس لبنان، بشير الجميّل، على يد المخابرات السورية، قبل 5 أيام من ذلك. العالم اهتزّ من مشاهد مئات الجثث المقطّعة، بينها جثث نساء وأطفال، ووجّه التهمة لـ “إسرائيل”. إيتان ونافوت أيقنا أنّ كلّ خطّتهما تحوّلت إلى ورطة كبرى ووصمة على “إسرائيل”، سيكون من الصعب إزالتها.
الإسرائيليون جاؤوا لتقليص الأضرار. مسألة الأخلاق لم تكن تهمّ “ايتان” كثيراً. وهو لم يرد توبيخ مسؤولي الكتائب على ما فعلوا، بل أن ينسّق معهم صيغةً تُقدّم للعالم. “العالم متأثر مما حصل في شاتيلا وينبغي أن ينبري ممثلهم (الكتائب)، ويشرح لوسائل الإعلام ما حصل هناك لأنّ الجميع يوجّه إصبع الاتهام لإسرائيل والنتيجة التي قد تتشكّل من هذا هي، إجبار الجيش على الخروج من بيروت، ولذا على أحدكم أن يوضح الموضوع وبسرعة”.. إيتان حاول أن يملي على الكتائب ما يقولونه: “الصيغة يجب أن تكون أنّهم شاركوا في المهمة (الحرب على عناصر منظمة التحرير الفلسطينية في مخيمات اللاجئين)، وما حصل كان خارجاً عن سيطرتهم”.
أمير درور يقترح: “في نفس الفرصة ينبغي التذكير بما حصل في الدامور” من أجل التوازن. “كما ينبغي التوضيح بأنّ هذه ليست سياستكم. يمكن التذكير أنّه في أماكن دخلتموها كانت تحصل معارك بين المعسكرات داخل المخيّمات وليس فقط مع الكتائب”.
بعبارة أُخرى- رغم أنّ دروري يعرف جيّداً أنّ حزب الكتائب هو من ارتكب المجزرة، فهو يقترح صيغة أو نصّاً كاذباً – إرجاع جزء من القتلى على الأقل إلى حروب داخلية بين سكّان المخيّمات.
وهكذا استمرّ الإجتماع: نافوت، الذي أيّد بحماسة إشراك الكتائب في الحرب مع الجيش (وتنصّل بعد ذلك من كل شيء)، يتبنّى هذه المرة لهجة تهديدات: “(الكتائب) يجب أن يوضحوا أن هذه حادثة شاذة وبعد مقتل بشير هذا ما حصل. أنا أعتقد أنّ هذا هو الصحيح ولا يمكن أن نقاتل (من أجلكم) في هذه المسألة. لأنّه إذا ما كان علينا أن نوضح فسنوضح ما نريد”.
جوزيف أبو خليل، أحد مسؤولي حزب الكتائب يردّ بغضب: “ما تريدونه تحديدا أنّ نأخذ المسألة على عاتقنا وفي الوضع السياسي الراهن هذا مستحيل…”
إيتان: “ماذا تقترح؟”
أبو خليل: “لا تتّهموننا. أبلغوا كلّ إعلامكم… بعد تحميل الكتائب المسؤولية على الأقل في الأيام المقبلة كي نربح وقتاً سياسياً”.
إيتان: “الحقيقة هي أنّ الجميع يعرفون أنّ حزب الكتائب من فعلها وعليكم أن توضحوا أنّ هذه ليست سياسة، وأنّ ما حصل كان خارج إطار السيطرة، ولذا في لحظة معرفتهم بما حصل أوقفوا المسألة.. وسائل إعلامنا حرّة ويمكنها أن تقول ما تريده”. ايتان مجدداً يحاول أن يقترح على الكتائب توضيحاً كاذباً: “أوضحوا أنّ هذه ليست سياستكم. وما حصل هو انفجار غضب مقاتلين بعد مقتل بشير”.
أبو خليل: “يجب معالجة هذا الأمر بشكل يومي، بشكل ضبابي، وفق ما يحصل في وسائل الإعلام. نحن لا يمكننا أن نقرّ بأنّ حزب الكتائب هو من فعلها”.
ايتان: “كيف تريدون تفسير هذا؟”
أبو خليل: “أن نستمر في الإنكار”.
إيتان: “كيف يمكن؟ في الواقع كلّ المخيمات مليئة بالصحفيين”.
أبو خليل: “قوموا بما تعرفونه ونحن سنفكّر كيف نردّ. لم نتهمّ إسرائيل مرّة، ويوم أمس في التلفزيون نقلوا عن شخصيات إسرائيلية اتّهمت الكتائب”.
في هذه المرحلة بدا ايتان منزعجاً، وأنهى الجلسة بقوله: “لقد بيّنا رأينا وليفكّروا هم ويقرروا، لكن الحقائق معروفة”.
البروتوكول السّري الذي يوثّق هذا الحوار المذهل هو العكس التام بروحه ومضمونه لعدد غير متناه من بروتوكولات ومذكّرات اللقاءات التي كُتبت في محافل مشابهة، لكن قبل مدة قصيرة من ذلك.
قبل شهر، حرص رجال الموساد والجيش على نقل أعضاء برلمان لبنانيين، على وقع تهديد السلاح، ليصوّتوا لصالح الجميّل في الانتخابات الرئاسية. وانتخب الجميّل. في هذه الأثناء، كلّ شيء سار وفق خطّته وخطة شارون. كانت أيام فرح كبير في المؤسسة الأمنية. كان يبدو أنّه بعد لحظة ستوضع كلّ الطوب في أماكنها الصحيحة وسيُبنى من جديد واقع المنطقة، تماماً كما خطّط شارون ووعد بحصوله.
في الثامن والعشرين من آب/أغسطس، يكتب نافوت مذكّرة إلى قادة الجيش والأجهزة الأمنية، يعتمد فيها لغة تصويرية. نوع من لورنس العرب. “ثلاثة أيام عند حاجز بشير وعناصره”.. يفيد نافوت من الميدان بعنوان وثيقته. على غرار بشير، نافوت أيضاً كان يودّ رؤية الجيش في لبنان ردحاً طويلاً، “مع التأكيد على أنّ العمل السياسي الداخلي يستند إلى استمرار وجود الجيش (الإسرائيلي). بالنسبة لهم، يمكن أن يكون هذا حضوراً لعدة سنوات. طالما لم يتمّ إجلاء السوريين والمخرّبين”.
“السلام على الباب”، يبشّر نافوت: “بدأ جهد مركّز وموجّه لتثقيف الشعب على ظاهرة التغيير الكبير، على تطوير العلاقات في المجالات الإقتصادية والثقافية بين الظاهرتين الفريدتين- إسرائيل اليهودية ولبنان المسيحي.. حقاً نحن نشهد ظاهرة جديدة في منظومة علاقات إسرائيل وموقعها في المنطقة- ظاهرة تنطوي على إمكانية، طاقة اقتصادية وسياسية، من الدرجة الأولى”.
في الاجتماع الذي جرى في ذلك اليوم بين مسؤولي الموساد ومسؤولي الكتائب، يعلن أحد مسؤولي الكتائب أنّه في كل ما يتعلّق بالمعركة في بيروت،”جهاز إيلي حبيقة (مجموعة صغيرة من المجرمين السفاحين، تولّت بعد ذلك ارتكاب المجزرة في المخيّمات) سيتولّى معالجة المسألة قبلاً”.
ليس لأنّه كان ثمة شكّ بأنّ لدى الكتائب نوايا أخرى، لكن أحد مسؤولي الموساد تدخّل وقال: “أشعر أنّ إزاء الفلسطينيين لا يجب التصرّف بكرم المنتصرين”. جان، أحد مسؤولي الكتائب قال: “من سيحاول المقاومة بالقوة سنهتمّ به”، يضحك الجميع، الإشارة واضحة.
وهكذا، من مخططات عملاقة لطرد منظمة التحرير الفلسطينية والسوريين من لبنان، تنصيب المسيحيين بقيادة بشير وبناء حلف أخوّة بين إسرائيل وبلاد الأرز، مع إغداق المحبة المتبادلة، أصبحت العلاقة بين حزب الكتائب وقادة الجيش والأجهزة الأمنية، متوترة وشكوكية. أيضاً داخل إسرائيل بدأ مسؤولو المؤسسة الأمنية يشعرون بأنّ الأرض تهتزّ.
وفي اليوم الذي حاول فيه رئيس الأركان ايتان أن يوضح للكتائب كيف من الصحيح أن يكذبوا ويموّهوا حقيقة المجزرة، انعقدت جلسة حكومية بمشاركة وزير الأمن، أريئيل شارون، وشخصيات من الجيش والاستخبارات. أحدهم كان اللواء أبراهام (ابراشا) تامير، مسؤول وحدة الأمن القومي في وزارة الأمن، وهو من الأشخاص المقرّبين جداً من شارون. لكنّ الأخير، وكان متوتّراً جداً أيضاً بعد المجزرة وانهيار ما خطط له، هبّ في وجه تامير حين أيّد موقف وزير الخارجية شامير، المتساهل نسبياً إزاء الولايات المتحدة التي طلبت وقف النار، وبدأ يصرخ عليه.
تامير لم يقف صامتاً. “أخذته إلى غرفة مجاورة”، يتذكّر تامير في مقابلة سرية أعطاها لمركز “تراث بيغن”، “وقلت له: أريئيل، أريد أن أقول لك شيئاً. إذا ما صرخت علي صرخة واحدة بعد – فسأفضحك على طاولة الحكومة، مع كلّ أكاذيبك، كل حيلك، كل قصصك”.
يبدو أن لا خلاف: حرب لبنان الأولى، الحرب التي بادرت إسرائيل لها وتمتّعت فيها للمرة الأولى بتقوّق كمّي ونوعي بارز على العدوّ، حرب خطط لها الجيش والأجهزة الأمنية وقتاً طويلاً، وحصلت في بداياتها على شرعية جماهيرية هي الأوسع، سرعان ما تحوّلت إلى إحدى أخطر الكوارث في تاريخ إسرائيل.
في الخفاء، وتحت التصريحات عن 40 كيلومتراً ستنتهي خلال 24 ساعة، خطط شارون ونافوت ودروري لشيء مختلف تماماً، أمل كبير، حلم بإعادة صياغة الشرق الأوسط. الخطّة فاق نجاحها التقديرات – الشرق الأوسط تغيّر بالفعل دراماتيكياً بعد غزو لبنان واحتلاله، ولو بشكل مختلف قليلاً عمّا خطط لها شارون ومرؤوسيه. في ملخّص النصّ الذي قدّمه للجنة كوهين التي تشكّلت للتحقيق في المجزرة، قال أريئيل شارون: “النتيجة المريعة التي حصلت هي بمثابة خلل غير متوقّع ولا تفسير له”.
أيضا أبطال الحرب يوافقون على أنّها كانت فشلاً ذريعاً وكارثة كبرى، لكنّهم يختلفون حول المتّهم بالفشل.
الاحتفال بالذكرى وأبحاث وتحقيقات جديدة صدرت، أظهرت مجدداً تناقل عبء المسؤولية من جهة إلى أخرى. هل عرف بيغن الحقيقة وترك شارون يقوده والحكومة بالمواربة، أم أنّ وزير الأمن خدع الجميع دون أن يرفّ له جفن؟ هل التقدير بأنّ المسيحيين هم حلفاء يمكن الاعتماد عليهم، وُلد في الموساد، أم عند رئيس الأركان؟ جهاز “أمان” رفض أم وافق على دخول القوى المسيحية إلى مخيّمات اللاجئين؟ ومن المسؤول أكثر عن فشل خطة اغتيال عرفات- رافي ايتان أم رفائيل ايتان؟
هذه الأسئلة تلاحق مثل الأشباح تاريخ إسرائيل وحاضرها بهيئة حزب الله، الذي نشأ نتيجة تلك الحرب. أمر آخر مؤكد- خلال الحرب وفي السنوات التي سبقتها فشلت وانهارت تماماً كلّ مسارات اتخاذ القرارات ورقابة الحكومة والمؤسسة الأمنية، وإلى الفراغ الذي نشأ دخل عدد من الأشخاص الذين أرادوا على ما يبدو صالح الدولة، لكنّهم لم يسمحوا لقوانين أو لإجراءات أو لمبادئ نظام سليم، أن توقفهم.
مراجعة مفصّلة لما حصل تظهر أن لبعض الممارسات والظواهر التي كانت في قلب الدوّامة، شهوداً ومشاركين رفضوها، وقد فهموا الدلالات، اكتفوا عموماً بالكلام، إذا ما تكلّموا أصلاً، أو بمحاولة منع عملية تكتيكية، لكنّ أحداً منهم تقريباً لم ينهض ويصرخ أنّه يكفي هذا الجنون.
حكاية الإنهيار هذه، التي بدأت في السنوات التي سبقت الحرب، يمكن أن نرويها من خلال 10 نقاط مركزية.
1 – شرق أوسط جديد
صيغة أو رواية الموساد..
دفيد كمحي، رئيس “تيفل” (شعبة العلاقات الخارجية في الموساد أواخر السبعينات)، دفع باتجاه توطيد العلاقات مع المسيحيين في لبنان في إطار “حلف الضواحي” – وهو تصوّر واسع لتشجيع جهات صديقة تعادي أعداء إسرائيل.
بحسب هذا التصور أو هذه النظرية، مساعدة تلك الجهات عسكرياً ومدنياً في حربها، ستؤدي إلى إشغال العدوّ في جبهة إضافية، وهكذا لن يكون لديه متسّع كثير لضرب إسرائيل، مثل “طعم مدافع”. المسيحيون من بيروت، حسبما تبيّن لاحقاً، فكّروا بهذا الأمر، لكن بالعكس، أن تكون إسرائيل طعم المدافع نيابة عنهم في حرب الهيمنة على لبنان.
رئيس الموساد، حوفي، عارض العلاقة مع المسيحيين. كمحي، مشغّل العملاء المحنّك، توجّه لرافي ايتان، الذي كان حينها مستشار شؤون الإرهاب لدى رئيس الحكومة إسحاق رابين، يطلب منه المساعدة مقابل رئيس الحكومة.
في مقاطع من مذكّراته التي لم تُنشر يسأل إيتان نفسه، ويجيب: “كمحي لا يعوّل على حوفي بأنّه سيحارب من أجل خطته كما ينبغي أن يحارب، لذا عاد إلي”.
رئيس الحكومة رابين تبنّى موقف الموساد بشكل جزئي، ووافق على توفير دعم عسكري محدود للمسيحيين، لمساعدتهم في حماية أنفسهم، لكنّ أوامره كانت حازمة بأنّ إسرائيل لن تجرؤ على التدخّل بنفسها في الحرب الأهلية في لبنان.
كمحي وآخرون في الموساد تجاهلوا طبائع وخصائص إشكالية جداً لدى المسيحيين تكشّفت خلال فترة وجيزة، ولم يحترسوا من التعاون معهم. عوزي ديان، الذي كان حينها قائد “سييرت متكال” (وحدة هيئة الأركان العامة) وصل إلى بيروت في جولة نظّمها الموساد قبيل العملية التي نفّذتها السييرت. روى قائلاً: “كانو ضعفاء جداً من ناحية عسكرية.. وأكثر ضعفاً أخلاقياً، شرقيين بالمعنى السيّئ للكلمة. فاسدون تماماً ومجموعة قتلة ذكّرتني بقطيع كلاب مفترسة”.
عدد من رجال الموساد الذين لم يجتذبهم التعاون مع المسيحيين، تملّكهم الخوف حين رأوا عناصر الكتائب المسيحيين يسيرون في الشوارع وآذان ضحاياهم معلّقة على أحزمتهم، بهدف الترهيب. المسيحيون لم يبذلوا جهداً في إخفاء طموحهم لأن يفرضوا بالقوة الهيمنة المسيحية على لبنان، وتفاخروا بالمجزرة التي ارتكبوها بحقّ الفلسطينيين في تل الزعتر، مخيّم اللاجئين في إحدى ضواحي بيروت، وكانوا يسألون بابتسامة عريضة، “هل تريد منقوشة زعتر؟”
“في بداية العلاقة معهم تلقّيت طلقة مضادة في البداية وتابعت”، يقول رؤفين مرحاف، كان حينها رئيس قسم الشرق الأوسط في “تيفل”، وفيما بعد مسؤولاً في الموساد ومدير عام وزارة الخارجية، ويتابع “لأنّ عدوّ عدوّي صديقي وهم فعلاً ساعدونا ضدّ منظمة التحرير الفلسطينية، لكن كلّما مرّت الأيام توصّلت إلى نتيجة بأنّ الإرتباط بأشخاص من هذا النوع قد يوصل إلى كارثة فقط… بدلاً من أن نؤثر على منطقتنا، على لبنان، ليكون دولة سلام وديموقراطية، شيء ما من السمّ اللبناني تسرّب داخلنا”.
في كتابه “ماكوم بمرحاف” (مكان في المجال.. مرحاف تعني مجال وهي الوقت نفسه اسم عائلة مؤلف الكتاب- المترجم) الذي صدر هذا العام (من إصدار يديعوت أحرونوت) يكشف مرحاف “أنّه رغم أن توجيهات رئيس الموساد كانت واضحة، عملياً، الأمور بدأت تحصل بطريقة مغايرة”.
في الثاني عشر من تموز/يوليو في اجتماع سري في فندق دان في حيفا، طلب ممثل الكتائب من كمحي ومن مرحاف مساعدته، ورئيسه بشير، في قتل زعيم مسيحي آخر، طوني فرنجية، “كمحي قال إنّهم بحاجة للتفكير في هذا الكلام، لكنّه لم يرفض الفكرة رفضاً مطلقاً. حتى أنّه أعطى اسما لـمشروع اغتيال فرنجية: (سبيدو)؟ لأنّ هذا ما كان مكتوباً على الملّف الذي وصل به المندوب للإجتماع. سمعت ما قال واقشعرّ بدني، اعتذرت من الضيوف وسرت مع دايف إلى الحمام”. مرحاف ذكّر كمحي بسلسلة جرائم كان حزب الكتائب متورّطاً فيها، وحذّره من “تدخّل ما في صراع داخلي في الطائفة المارونية قد يلحق بهم ضرراً لا يقدّر”.
سريعاً جداً فهم مرحاف أنّ كمحي الذي كان أحد رجال التجسس المجرّبين والمحنّكين والممتازين في تاريخ الموساد فهو “ببساطة وقع في شرك حزب الكتائب وقادته… وهو لم يفهم أنّ كثيرين من رجال الجميّل، يديرون في ساعات الليل أعمالهم العادية، تجارة وصيرفة، وهم لا يترددون أبداً في تصدير المخدرات ولعب القمار في الكازينو، وفي الصباح يعودون ويرتدون الملابس المرقّطة ويطمحون لأن نتطلّع إليهم كأشخاص مصرّين وعازمين على محاربة الفلسطينيين حتى آخر نقطة دم- لكن هذا لم يكن حالهم”.
“كمحي” وفّر لحزب الكتائب السلاح من دون موافقة “حوفي”، إلى أنّ ثارت ثائرة الأخير، وفي موقف مذلّ أمام كلّ عناصر كادر القيادة الرفيعة في الموساد، أقصى كمحي.
“من سخرية القدر”، يكتب مرحاف “أنّ الرجل الذي حلّ مكان كمحي، ناحوم (نحيك) نافوت، الرجل المثابر والأخلاقي، واصل سياسته تجاه المسيحيين، بل سار أبعد منه في العلاقات معهم”. في كانون الأول 1980، ادّعى حزب الكتائب أنّ السوريين يقصفون مدينة زحلة المسيحية، وطلبوا أن تهبّ إسرائيل للمساعدة.
مرحاف درس الأمر وتوصّل إلى نتيجة بأنّ الحديث يدور عن استفزاز غايته توريط إسرائيل. وهو حاول أن يقنع نافوت، لكن دون فائدة، سلاح الجوّ أُرسل ليسقط مروحيات سوريا كعقاب. حين رأى أنّ إسرائيل انجرّت إلى الهاوية، استقال من منصبه. واحد من القلائل الذين كانوا مستعدّين لدفع ثمن شخصي باهظ جداً في محاولة وقف الحرب العدمية.
2 – الأخيار والأشرار
رواية رئيس الحكومة بيغن:
بعد انقلاب العام 1977، بيغن الرسمي فاجأ الجميع ولم يستبدل مسؤولي المؤسسة الأمنية. في الواقع لقد منحهم ثقة مطلقة من دون تحفّظات. بيغن قلّل من استغلال صلاحياته والتدخّل في قضايا أمن واستخبارات. تعاطي بيغن، الذي خدم في جيش التحرير البولندي أثناء الحرب العالمية الثانية، مع رجال الجيش والأمن كان رومانسياً. يتذكّر رئيس الموساد حوفي “كان غريباً جداً بالنسبة لنا.. كان انطباعي أنّه جال (بين رجال الجيش والاستخبارات) كما في الحلم. الجيش كان أمراً مقدّساً لبيغن.. إنّه لامع فعلاً”.
بيغن كان على تماس هو الأضعف مع أجهزة الاستخبارات، وكان هناك حاجة لتعليمه مادة وافرة، لكن أيضاً حين تعرّف إلى التفاصيل أبدى اهتماماً، ووجه انتقاداً بشكل سطحي جداً، و”كان هذا وكأنّه يحوم فوقنا بعلو 80 ألف قدم”، بحسب كلام ناحوم أدموني، نائب حوفي، “الموساد حصل من بيغن على كارت بلانش (بطاقة بيضاء) لفعل ما يشاء”.
بيغن أصرّ أيضاً على المراسم المتّبعة في اللقاءات بين رئيس الموساد ورئيس الحكومة من أجل المصادقة على عمليات تخريب واغتيالات، التي يحضرها (الآلة) مسجّلة الحديث، والسكرتير العسكري لدى رئيس الحكومة، وكان يوقّع من دون أي مشاكل على “الأوراق الحمراء”، أوامر الاغتيال، التي أحضرها له رجال الأجهزة الأمنية.
النقطة الوحيدة التي أصرّ فيها بيغن كانت تحديد الأقل أهمية من ناحية “حوفي” – إعادة محاولة قتل مجرمي حرب نازيين. حوفي قال لبيغن إنّ لديه أموراً أكثر إلحاحاً ترتبط بالحاضر وليس بأشباح من الماضي.
الانشغال بموضوع النازيين بالنسبة لبيغن كان له انعكاس واضح على الحاضر، والمقارنة واضحة بين هتلر وعرفات. لقد آمن من كلّ قلبه أنّ “العقيدة الفلسطينية التي تنادي بتدمير دولة إسرائيل” بحسب وصف بيغن، ليست إلا “ماين كامبف (كتاب كفاحي) رقم 2، في القرن العشرين.. سنفعل ما نستطيع وبعون الله سنستطيع العمل أيضاً لمنع تحقق الكارثة”.
بيغن لم يكن يكره فقط كلّ ما يمثّله عرفات، بل كان يمقته شخصياً وكان يطلق عليه “حيوان ذو رجلين” و “رجل ذو شعر على الوجه”.
“السؤال المهم هنا ليس عن نوايا عرفات ومخططاته”، يقول رجل موساد في تلك الفترة، والذي أصبح في ما بعد مسؤولاً في المنظمة، “بل الطريقة التي ينتج فيها بيغن خطاً موازياً ومقارناً بينه وبين هتلر. هذا جيد للخطابات، لكنّه سيّئ جداً لاتخاذ القرارات. لأنّ عرفات، مع كلّ عدم الاحترام، لا يقترب ولم يقترب أبداً بمستوى خطره على الشعب اليهودي، من هتلر. لكن في اللحظة التي تتعاطى معه هكذا، بمعنى كتهديد وجودي مباشر، عندها تصبح كلّ الاعتبارات أقلّ أهمية. طريقة تفكير كهذه، كرئيس حكومة، تشوّشك وكل عملية اتخاذ القرارات التي تجرّها خلفك، بالكامل. للأسف، لم يكن أحد إلى جانبه، لا الموساد ولا أمان، كانوا أقوياء بما يكفي ليوازنوا هذه الترّهات، وفي المقابل كانوا هناك عدد غير قليل من الأشخاص ليستغلّوا هذا بشكل سيء”.
أفكار بيغن الرومانسية إزاء الشر المطلق (عرفات) تجلّت أيضاً في نظرته إلى الـ “الأخيار” المطلقين، مسيحيو لبنان عموماً وحزب الكتائب خصوصاً. “الكتائب فهم بيغن سريعاً”، يقول مرحاف، ويضيف”لقد رأوا فيه نبيلاً بولندياً يريد أن يظهر لكل العالم ما يفعله اليهودي الملاحق من قبل الكاثوليك المعادين للسامية في أوروبا، لإخوانهم الكاثوليك في لبنان في وقت يصمت فيه سائر الرأي العام الدولي”.
بيغن عدّ نفسه مخلّص البؤساء” يقول مردخاي تسيبوري، صديق بيغن المقرّب من أيام ايتسل، الذي كان ضابطاً رفيعاً في الجيش، وأصبح من ثم نائب وزير الأمن في حكومة بيغن. “لم يكن خبيراً بتاريخ وسير الشرق الأوسط واقتنع بأنّ حزب الكتائب هو أقلية مسيحية- غربية، تريد منظمة التحرير الفلسطينية تدميره. تماماً مثلما تطلّع إلينا، نحن اليهود في إسرائيل”.
“بيغن اقتنع أنّ الكتائب هم طلائعيون شباب ومقاتلون من أجل الحرية يعملون لبناء دولة”، يروي أفنار أزولاي الذي كان خليفة مرحاف بعد استقالته. “الكتائب عرفوا كيف يستغلّون جيداً فكرته تلك، وبشير الجميل عرف أيضاً كيف يقتبس من كتاب بيغن (الثائر)، ما شكّل من دون شك تزلّفاً لرئيس الحكومة”.
3- فوضى قيادية
العمليات التي لم يصادق عليها
الواقع الذي واجهته المؤسسة الأمنية الإسرائيلية لم يكن سهلاً؛ منظمة التحرير الفلسطينية سيطرت على أجزاء من جنوب لبنان ومارست إرهاباً وقصفت مدن الشمال. من بين الحلول المركزية التي وجدها قائد الأركان إيتان لتلك الأحداث، كان تشغيل إطار سري، من خارج تشكيلات الجيش العادية، مع حجب هذه الأنشطة بالكامل عن كل من أمان والموساد وسائر وحدات الجيش. إيتان كان يلتقي قائد المنطقة الشمالية، افيغدور (يانوش) بن غال، ويصادق له، أو يبادر، على عمليات تخريب واغتيالات داخل لبنان. تلك العمليات كانت تنفّذها وحدة سرية بقيادة مائير دغان.
“رفول وأنا، كنا نصادق على العمليات بطرفة عين”، روى بن غال، وأضاف” كنت أقول له: رفول يجب أن ننفذ عملية، وهو كان يقول أجل لكن لن يصدر شيء مكتوب في هذا الشأن. هذا بيني وبينك. لم نعمل وفق البيروقراطية العسكرية لأنّ تلك العمليات (بمثابة) نفّذنا ولم ننفّذ”.
لقد بدأوا معركة سرية، غير مصادق عليها، على أرض بلد أجنبي. قيادة الشمال كان يفترض بها أن تبلغ أمان، التي كان يفترض بها أن تكون مشاركة في أمور من هذا النوع، وكذا أيضاً شعبة العمليات في الأركان العامة، التي كان يفترض بها أن توافق عليها. لكن فعلياً “أبقينا الجميع خارج العدسة”، يقول بن غال.
ليس فقط رئيس الأركان لم يعلم، بل أيضاً رئيس الحكومة. يكتب رافي ايتان في مذكرات شخصية لم تنشر “عيزر ورفول أشارا علي حينها بأن لا أبلغ بيغن بشأن هذه العمليات.. قبلت الحكم، لم أبلغ رئيس الحكومة، ولم أطلب منه الإذن، وأبقيت واجب إبلاغ الجيش ووزير الأمن الذين لم يتم إبلاغهما هما أيضاً. شارون علم بشأن عمليات دغان قبل أن يتولّى منصب وزير الأمن في آب/أغسططس 1981 وأمر بزيادتها منذ تسلّمه.
قبل عامين تقريباً كشفنا هنا المرحلة الأخيرة من المشروع غير الشرعي هذا؛ مجموعة سيارات انتحارية انفجرت في أنحاء لبنان وقتلت مئات الأشخاص. والعمليات استمرّت، لكنّ الفلسطينيين لم يتحرّشوا للردّ وانتهاك وقف النار، فتتخذ ذريعة لاجتياح الجيش. في التشكيل السري قرّروا زيادة السرعة والانتقال إلى عملية “أوليمبيا”، تفجير المدينة الرياضية في بيروت في الذكرى السنوية على تأسيسي حركة فتح، بهدف قتل كلّ قيادة المنظمة وعلى رأسهم عرفات.
حين تبلّغ بخطة قصف المدينة الرياضية، وفي ضوء تقدير بأن دبلوماسيين أجانب سيكونون بين الحضور، أمر بيغن بإلغاء العملية.
4- الاحتجاج الصامت
رفض رؤساء أمان والموساد
محاولة منظمة إرهابية معادية تابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية اغتيال السفير الإسرائيلي في لندن، وفّرت ذريعة لاجتياح لبنان في نهاية المطاف. الحكومة صادقت على خطة هدفها الوحيد إزالة التهديد عن مستوطنات الشمال. الجيش سيتقدّم داخل لبنان بما لا يزيد عن 40 كيلومتراً، وهو المدى الذي تصله أفضل مدافع منظّمة التحرير في تلك الفترة.
“مردخاي تسيبوري” شكّ بأنّ نوايا شارون أكبر بكثير. وفهم أيضاً أنّ عملية عميقة تطوّق الجيش السوري في لبنان، ستؤدّي حتماً إلى صدام عسكري بين الدولتين. مسؤولو أمان والموساد رفضوا الفكرة برمّتها. في شهادته في مركز بيغن قال حوفي: “حين خرجنا من الجلسة قال لي دان مريدور، الذي كان سكرتير الحكومة، وأوري بورت، الذي كان المستشار الإعلامي لرئيس الحكومة: والآن، أنتَ راضٍ؟. قلت: أنا راضٍ، لأنّ هذا يُعنى بالمخرّبين ليس أكثر.. مع هذا، قلت لهم بأنّ الأمر إذا لم ينته بهذا- بما أنّني أعرف النفسيات الموجودة في المؤسسة الأمنية- حينها سيكون يوم غفران الليكود أيضاً. استخدمت هذه العبارات”.
لكن أيضاً من اعتقد أنّ إسرائيل تسير نحو كارثة، تكلّموا بصوت خافت. سنوات تولّي شارون وزارة الأمن كانت حافلة بالمشاكل ليس فقط بسبب ما فعله شارون، بل بشكل أساسي لأنّ أحداً لم يجرؤ تقريباً على اعتراض طريقه.
“سريعاً جداً رأيت أن خطة الأربعين كيلومتراً آخذة بالتبخّر والجيش يعمّق تغلغله داخل لبنان”، يقول السكرتير العسكري لدى بيغن، العميد عزرئيل نبو. “شارون كذب على بيغن والحكومة وخدعهما. بما يتناقض مع الخطط والوعود، بدأت أيضاً معارك مع السوريين”.
عزرائيل نبو حصل على معلومات من الجيش بأنّ شارون يكذب على بيغن وحاول التحدّث مع رئيس الحكومة. نجل بيغن، بنيامين، الذي تجنّد في الاحتياط، وصل إلى مكتب والده ليحذّره من تصرّفات وزير الأمن، لكن في تلك المرحلة، بيغن كان ما زال يغطي ويدعم شارون.
يصف نبو كيف نجح شارون بمهارة وحرفية بالإستخفاف بالوزراء، ولم يخبرهم لماذا لم يكن ممكناً إلا التقدّم قليلاً في الليل. هكذا، على سبيل المثال، بأمر من شارون سارت قوات الجيش وزحفت باتجاه بيروت. حين سئل عن هذا بغضب من قبل أحد الوزراء في الثاني عشر من آب 1982، اعترف جزئياً: “مثلاً اضطررنا هذه الليلة لفعل شيء خارج قرارات الحكومة. احتلّينا منزلين قرب المدينة الرياضية، حيث كان المخرّبون يطلقون النيران من هناك على قوّاتنا دون انقطاع. ببساطة كان لا بد من ذلك. لا يمكن عقد جلسة حكومية في منتصف الليل، حينها كان الوضع وكأننا نكبّل أيدي القادة في المكان، أحياناً عبر حركة بسيطة يستطيعون تحسين الوضع على الأرض، لكن يوجد قرار حكومة نحترمه. إذا تم تدمير هذين المنزلين.. برأيي لا يمكن أن تنشغل الحكومة بكلّ بيت”.
أيضاً رافي ايتان، المقرّب من شارون ومستشاره في تلك الأيام يؤكّد أنّ وزير الأمن أخفى نواياه الحقيقية عن الحكومة. وفق كلامه، “طوال أسبوعين تقريباً من بداية الحرب، لم يعرف كلّ الوزراء حول طاولة الحكومة، أو فهموا مسار الحرب حتى النهاية، أي حتى طرد منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت، ما لم يكن ممكناً تنفيذه من دون محاصرة بيروت، قطع طريق بيروت – دمشق والدخول إلى غرب المدينة، معقل عرفات وأذرعه”.
هل فهم بيغن ما يحصل حوله؟ ماذا عرف؟ شارون خسر في دعوى الافتراء التي قدّمها ضدّ عوزي بنيامين الذي كتب أنّ شارون كذب على بيغن، وخلا بعض الحالات، لا دليل على أنّ بيغن عرف من شارون أكثر ممّا عرفته الحكومة كلّها، التي كانت تغرق بالضبابية.
مردخاي تسيبوري، رغم أنّه كان حاضراً بنفسه في مناسبات كان واضحاً فيها أن بيغن يفضّل أن ينقل بهدوء تذمّره وامتعاضاته، يعتقد أنّ رجال الجيش وشارون استغلّوا مرة بعد أخرى تعاطيه الرومانسي مع الجنرالات. آخرون يعتقدون أنّ بيغن، الذي كان سياسياً سريع البديهة، فهم جيّداً الوضع، لكنّه فضّل أن يبقى في وضع يستطيع فيها أن ينكر لاحقاً أنّه عرف بشأن الممارسات القاسية.
حتى لو لم يكن بيغن يعلم، فقد توضّحت الصورة لديه شيئاً فشيئاً وهو كان يستطيع تنحية شارون. رئيس الحكومة تسلّم من الرئيس ريغن مطلباً بالتوقف فوراً عن قصف بيروت، لكنّ شارون تصرّف خلافاً للتوجيه وأمر سلاح الجوّ بالإستمرار. يقول رافي ايتان مستذكراً: “حينها حصلت مشادّة كلامية حادة بين بيغن وشارون، الذي قال لبيغن: “أنا مسؤول عن الجيش”، فردّ عليه: “أنت مسؤول عن الجيش؟ الحكومة كلّها مسؤولة عن الجيش، والحكومة كلّها تطلب منك التوقّف عن القصف فوراً، والآن”. ورغم هذا أبقاه بيغن في منصبه إلى أن صدرت نتائج لجنة كوهين.
5- الكذب الواعي
مقدّمات احتلال بيروت
بشكل سري جداً، خطط شارون وايتان وحزب الكتائب لكيفية احتلال المدينة في عملية مشتركة تحت اسم”الشرارة”، وفي المقابل كان شارون يعد الحكومة والشعب الإسرائيلي مراراً وتكراراً بأنّ الجيش لن يدخل بيروت أبداً، ويؤكّد “أنا لا أقترح هنا أي هجوم على بيروت، أي تحرّك إلى داخل بيروت”. توجيهاته للجيش كانت واضحة ومعاكسة: “الجزء الجنوبي (من المدينة حيث توجد مخيّمات اللاجئين ورجال منظمة التحرير) يجب أن ننهيه”، قال شارون في جلسة في مكتبه في 11 تموز/يوليو “يجب تدمير كلّ ما يمكن تدميره.. وتخريب كلّ شيء”.
تسيبوري لم يتنازل وطالب بدعوة هيئة الأركان والضباط إلى جلسة المجلس الوزاري المصغّر، وطرح عليهم أسئلة عميقة ودقيقة. “وعندها ينظر إليهم شارون بعينيه”، يقول السكرتير العسكري نبو، “حين يصبح واضحاً أن يتوقّع أن يردوا بجواب محدد جداً وتراهم ببساطة يهمدون أمام نظرته”.
6- وثائق المجزرة
التعاطي المتناقض
بعد مجزرة صبرا وشاتيلا، سيدّعي شارون ورجاله أنّه لم يحصل رفض حقيقي للتعاون مع حزب الكتائب، لكن من مراجعة الوثائق السرية الخاصة بأمان تظهر صورة مغايرة. هكذا على سبيل المثال، في 23 نيسان/أبريل 1982، تصدر أمان تسجيلاً خاصاً تحذّر فيه أن تقاريرهم وبلاغاتهم الاستخبارية للجيش تتضمّن أنّ “المسيحيين يميلون إلى إخفاء الحقائق، إلى الكذب، إلى التمويه وأنّ التقارير يشوبها عدم تطابق مع الواقع”.
في 30 تموز/يوليو أعدّت “أمان” تحقيقاً: “مقاتلو الكتائب بدأوا يستغلّون وجود قوّاتنا للدخول إلى مناطق لم تكن تحت سيطرتهم… يريدون استعراض وتثبيت حضورهم وتطهير تلك المناطق من جهات معادية.. السكّان المحليون يخشون أن هذا الأمر سيصل إلى تصفية حسابات مؤلمة”.
في الخامس عشر من أيلول/سبتمبر، بعد قتل بشير الجميّل، ورد في تحقيق “أمان”: “الجريمة أوجدت ظروفاً فاقمت الإنقسام والقطبية بين جهات القوة اللبنانية، تقود إلى تصفية حسابات متبادلة وإلى تدهور قد يتطور، بغياب جهة تمثيلية، إلى حرب أهلية”.
بعد مقتل بشير الجميل وشعوره وكأنّ الإنجاز العسكري والسياسي قد انسلّ من بين يديه على ما يبدو، داس شارون على كل ما قاله قبلاً وحصل على موافقة بيغن على اجتياح بيروت. هي المرّة الأولى والأخيرة التي يحتلّ فيها الجيش الإسرائيلي عاصمة دولة عربية سيادية.
الحكومة تبلّغت بشأن الاجتياح بعد حصوله. ورغم كلام رئيس الأركان قبل أسبوع بأنّه لم يبق سوى مكتب وبضع عناصر من فتح، فجأة قال شارون ورجاله إنّ الحديث يدور عن آلاف. شارون سمح لعناصر الكتائب بدخول مخيمات اللاجئين من أجل “تطهيرها” من “آلاف المخرّبين” أولئك.
7 – الهدف: عرفات
تداعيات عملية “سمك الرنكة”
ضمن خطة شارون العملاقة كان أساس حاسم: قتل ياسر عرفات. قوة المهمة للعملية، وأطلق عليها اسم “سمكة الرنكة”، التي شكّلها مائير دغان ورافي ايتان، واصلت العمل خارج دائرة قيادة الجيش الأوسع، بقيادة المقدّم عوزي ديان، القائد السابق لسييرت متكال، وبتبعية مباشرة لإيتان وشارون. مهمّة ديان أصبحت معقّدة بسبب الواقع اليومي للمعارك في بيروت، قال ديان: “مهمّتنا المركزية كانت كيف نوصّف (سمك رنكة) ونضع عليه إشارة صليب لصالح سلاح الجوّ من جهة ثانية، وكيف لا يلحقون الضرر الكبير من جهة ثانية”.
كلّما مرّت الأيام، تعقّدت الحرب والواقع رفض أن يسير وفق مخطط إعادة صياغة الشرق الأوسط، هكذا زاد شارون وإيتان الضغط على سلاح الجو وعلى فريق “سمك رنكة” لقتل عرفات.
عوديد شامير، الذي كان سكرتيراً عسكرياً فعلياً لشارون، قال إنّ قصف بيروت في تلك الحرب من قبل سلاح الجو الإسرائيلي كان بهدف قتل عرفات، ولم يكن موجّهاً ضدّ أهداف أخرى. القصف لم يستهدف قتل المدنيين و”نحاول تجنّب المسّ بالمدنيين” لكن “سلاح الجو لا يمكنه إطلاق قنبلة تصيب عرفات فقط” و”هذا ما يحصل”. وقد أكّد أنّهم “قصفوا بيروت لضرب عرفات وخلال ذلك أصيب مدنيون”.
قائد سلاح الجو اللواء دافيد عفري حاول ضبط الأمور. بحسب كلامه، “كانت لدى وزير الأمن رغبة قوية باستهداف عرفات، كنا نشعر وكأنّ الحديث يدور عن مسألة شخصية بالنسبة له. في كلّ جلسة، في كلّ نقاش كان يطرح مجدداً ومجدداً هذه المسألة. في كلّ مرة كانوا يصلون بسرعة إلى كنريت (سرداب قيادة سلاح الجو) رجال الموساد وأمان، ويروون لنا أنّ عرفات هنا أو هناك، كان يفترض بشارون ورفول قصف تلك الأماكن فوراً. فكّرت أنّ لدينا فوضى هنا وخطر المسّ بمدنيين. لم أكن مستعدّا للموافقة على غارة قصف من هذا النوع من دون تلقّي أمر مكتوب من شعبة العمليات. كنت آمل أنّ إدخال هذا الأمر في منظومة منظّمة من نقل المعلومات واتخاذ القرارات، سيؤدي إلى فحص ومراجعة أفضل وفي الحقيقة- قسم كبير من الأوامر التي أعطيت شفاهيا لم تصل كتابيا بل تبخّرت في الطريق”.
عوزي ديان لم يكن أقل تردداً وحيرة: “أنقذ عرفات أمران- حظّه الدائم- وأنا، إذ فكّرت أنّ عرفات هدف مشروع، لكنّه ليس هدفاً يكرّس كل الوسائل. رفول كان ينفجر من الغضب، اتصل بي وقال: “أفهم أنّ لديكم معلومات. لماذا لا توجد طائرات في الجوّ؟” أجبته أنّه لا يمكن، هناك الكثير من الناس. رفول أجاب “دعك من ذلك- أنا أتحمل المسؤولية”. لم أكن مستعداً لهذا. رفول لن يعلّمني ما هي أخلاق الحرب”.
في مرحلة ما قرّر ايتان أخذ زمام المبادرة وأمر آفيام سيلع، رئيس قسم العمليات في سلاح الجو بأنّ يرافقه في طلعة جوية، وكان هو الملاح، والذهاب لقصف المكان الذي ظنّوا أنّ عرفات موجود فيه. عرفات مجدداً نجا بأعجوبة والقصف دمّر جزءاً من المبنى قبل قليل من وصوله إليه.
شارون كان فخوراً جداً بقائد أركانه الذي توجّه بنفسه لقصف بيروت إلى درجة أنّه أخبر الوزراء في الجلسة الحكومية التي انعقدت تلك الليلة. شارون تحدّث عن ضرورة تشديد الحصار على بيروت من أجل اعتقال أو قتل عرفات ورجاله، وقال: “أريد أن أطرح المشكلة وأنا سأطلب من رئيس الأركان، ليكمل، بعد أن يرتاح – لقد شارك هذا الصباح في غارة، من أجل أن يتأكد بنفسه وهو أيضاً ضرب.. إنّه طيار أيضاً”. شارون قال ممازحاً لإيتان:” أنا نادم فقط، رفول، لأنّني نقلتك”.
بيغن قرّر وضع حد لهذا العرض الغريب وقطع الابتسامات بصوت حاد: “رئيس الأركان، بموجب صلاحياتي أنا أمنعك من القيام بأمر كهذا ثانية. يوجد طيارون في إسرائيل. رئيس الأركان لا يستطيع القيام بأمور غير ضرورية فيها مخاطرة بالنفس”.
8 – التستّر والقطيعة
معضلة بيغن
تزايد القصف والاحتجاج الشعبي المتزايد أصاب مقتلاً من رئيس الحكومة، الذي غرق في كآبة خطيرة، فقد تدريجياً أي تواصل مع من يجولون حوله وقطع نفسه تقريباً عن كلّ أجهزة السيطرة والرقابة الخاصة برئيس الحكومة، لما يحصل في بلاده. “شيئاً فشيئاً، رأيت بيغن يصاب بالوهن، ينكمش على نفسه”، يقول نبو ويضيف: “أنا لا أستطيع القيام بتشخيصات طبية لكن بدا ملفتاً لديه أنّ الوضع يصبح أصعب من يوم إلى آخر. لقد أيقن أنّ شارون خدعه، وأنه وقع في الوحل. كان شخصاً حساساً جداً، ربّما حساساً أكثر من اللزوم”.
“للأسف، أنا أيضاً رأيته في فترة خموده”، يقول ناحوم ادموني، الذي تسلّم منصب رئيس الموساد في أيلول/سبتمبر 1982، ويضيف: “بدأت أقدّم له التقرير ورأيت أنّ عينيه مغمضتان ولم أعرف ما إذا كان يسمع ما أقوله أو أنه لا يسمع، هل هو نائم، هل هو صاحٍ. وضع مربك جداً. سألت السكرتير العسكري: برأيك هل يجب أن أتابع الحديث أو أتوقف؟. لم ننقل المشكلة لجهات أخرى لكن الجميع عرف أنّ هذا هو الوضع”.
ومع هذا، رغم أنّ الجميع تقريباً في محيط بيغن عرفوا أنّه يقوم بما عليه بمشقة، ناهيك عن أنّه لم يكن مؤهلاً لإدارة دولة في حالة حرب، بدلاً من السير في إجراء إيجاد بديل له، قرّروا التستّر عليه ومساعدوه عملوا لإخفاء حالته الحقيقية عن الجمهور الإسرائيلي. “أدار الدولة ثلاثة أشخاص، وثلاثتهم ليسوا منتخبين من الجمهور: دان مريدور، يحيئيل كديشاي وأنا”، قال نبو. إنّه يعتقد أنّه بنفسه وباقي أعضاء المكتب “كنّا مجرمين وارتكبنا مخالفة خطيرة. أنت لا يمكن أن تخفي حقيقة أنّ رئيس الحكومة غير سوّي وتمثّل وكأنه سوي. هذا يذكّر بالدول الظلامية”.
دان مريدور قال هذا الأسبوع معلّقا: “لقد رأيت بيغن فعلاً ينطوي على نفسه، يتألّم من الحرب التي أسماها تراجيديا أو مأساة، يتألّم خصوصاً على القتلى، رأيت الحزن في وجهه. كان واضحاً أنه أقل فعالية لكن أبداً لم أر تراجعاً في إدراكه أو بالطريقة التي يقرأ فيها ويكتسب الخبرة بالمادة الإستخبارية. أنا لم أشعر أنّه غير مناسب لتأدية دور رئيس الحكومة”.
9 – من سمك الرنكة إلى السمك الذهبي
على شفا كارثة
فيما كان بيغن بمثابة حاضر- غائب، أصبح شارون حرّاً الآن في فعل ما يريده بالجيش. يروي أفيام سيلع: “لقد قاد الجيش عملياً، فوق رئيس الأركان ايتان. لم يكن أحد يستطيع أن يقف في وجهه”. ويتذكّر ناحوم ادموني أنّ “شارون كان مسيطراً في تلك الجلسات (جلسات الحكومة)، في بعض المرّات كان شارون يطرح موضوعاً، الحكومة تناقش، تتخذ قراراً، وشارون كان يدعونا خارجاً، في نهاية الجلسة، رئيس الأركان، أنا والضباط ويخبرنا بما قرّروا. الآن أنا أقول لكم أنتم افعلوا كذا وكذا وهو ما لم يكن تماماً ما تقرر”.
في تلك الفترة، تلقّى قائد سلاح الجو، عفري، إحداثيات، لكن بلاغ عناصر الموساد الذين رأوا عرفات، بدا له غير حقيقي، وهو حاول كسب الوقت. رئيس الأركان ايتان، الذي تلقّى هو أيضاً البلاغ، اتصل بـعفري، وأمره بإسقاط الطائرة، لكنّ كانت لدى عفري شكوك وهو وجد أعذاراً للتأجيل أكثر. في نهاية المطاف، تبيّن حجم الحظ. في طائرة البافلو كان عرفات فعلاً، لكن فتحي عرفات، الشقيق الأصغر لياسر، كان طبيباً وهو مؤسس الهلال الأحمر الفلسطيني، كان معه في الطائرة وبرفقته 30 طفلاً فلسطينياً جريحاً، ضحايا مجزرة صبرا وشاتيلا. فتحي عرفات رافقهم إلى القاهرة لتلقي العلاج هناك.
حتى شبه كارثة- كانت على مسافة إصبع واحد يفصل الطيار عن قتل طبيب وثلاثين طفلاً جريحاً – لم تهزّ شارون ولم تمل عقله عن فكرة اغتيال عرفات في إحدى سفراته. تحت ضغط شارون استمر تعقّب عرفات في أرجاء الشرق الأوسط وأوروبا من دون هوادة، وأربع مقاتلات وضعت في حالّ تأهّب مستمر في قاعدة سلاح الجو في رمات دان.
نتيجة رفضهم الضرر الشامل، مجموعة قادة، بينهم القيادة العليا في سلاح الجو، أوجدوا منظومة تضليل وتمويه وتشويش كي لا تحصل العملية. يقول سيلع: “لم يجرؤ أحد على الوقوف في وجه شارون.. عندها نحن ببساطة سنجعل الأمر غير ممكن من ناحية تقنية”.
10- من حينه وحتى اليوم
تأسيس حزب الله
الواقع في الشرق الأوسط تغيّر فعلاً بعد الحرب. لعبة الروليت التاريخية لكلّ من شارون، ايتان، نافوت ورفاقهم، فاق نجاحها التوقّعات: لقد أسسّوا في لبنان ذراع إيران الطولى للإرهاب ولنشر الثورة الإسلامية، حزب الله. وحين تحوّل أرز البلدات والقرى الذي انهال على قوات الجيش حين دخلت لبنان، إلى وابل نيران من القنابل اليدوية والعبوات الجانبية، قال سمحا أرليخ، نائب رئيس الحكومة في فترة الحرب، ممتعضاً: “لم يخبرونا أنّه يوجد هناك الكثير جداً من الشيعة”.
إن الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي بانوراما برس وإنما تعبّر عن رأي الصحيفة حصراً
Discussion about this post