شهدت العاصمة السعودية الرياض خلال العام ٢٠٢٢م انعقاد عدد من مؤتمرات القمة، ففي وقت سابق من العام كانت القمة العربية ـ الأميركية، وبنهايته عقدت القمة العربية ـ الصينية وذلك خلال الأسبوع الفائت. ولن نتحدث عن باقي القمم المنعقدة؛ لأن ما يهمنا هنا هاتان القمتان تحديدا؛ باعتبار أن القمة الأولى كانت مع القوة الدولية الأولى في العالم (الولايات المتحدة) والثانية مع القوة الثانية. ويرى الخبراء أن القرن الحادي والعشرين سوف يشهد تبادل المراكز بينهما؛ أي بين الولايات المتحدة وجمهورية الصين، وتبرز هنا أهمية الوطن العربي لدى هاتين القوتين، ومن الأهمية بمكان تحديد الموقف العربي والحفاظ على المصالح العربية أمام هذه القوى الدولية وتشكيل رؤية عربية موحدة تأخذ بالاعتبار مختلف جوانب هذه الشراكة، أو بالأحرى تحديد ضوابط لهذه العلاقات الاقتصادية الدولية؛ بحيث لا تميل إلى إحداث تفوق وخلل في الميزان التجاري لحساب الأطراف الدولية الأخرى على حساب المنطقة، وتجنب إغراق اقتصادات المنطقة أو تكريس نفوذ سياسي آخر على شكل هيمنة كاملة تضع المنطقة في حالة تبعية سياسية اقتصادية بين هاتين القوتين .
القمة العربية ـ الأميركية جاءت لتعزيز العلاقات مع الدول العربية بعدما تعرضت للفتور خلال الفترة الماضية لأسباب متعددة، وتثبيت التحالف معها إدراكا لِما تُمثِّله المنطقة العربية من أهمية قصوى لدى الولايات المتحدة في مجال الطاقة وصفقات السلاح والاقتصاد بشكلٍ عام، واعتبارات سياسية لا تقل أهمية على رأسها الكيان الصهيوني. وقد حاولت بالفعل توسيع دائرة التطبيع العربية وما زالت في أولوية أجندتها السياسية، مع الإشارة إلى أهم أدوات الولايات المتحدة في المنطقة وهي سياسة (العصا والجزرة) التي استخدمتها في أحيان كثيرة وهي أبرز السمات السياسية الأميركية. كما أن تلك العلاقات أخذت طابعا ثنائيا ولم تكن على شكل تكتلات دولية، خصوصا مع الدول العربية، فكانت مؤطرة باتفاقيات ومعاهدات وإنشاء قواعد عسكرية وصفقات تجارية وهيمنة على أسواق الطاقة وزادها توحشا حالة القطبية الأحادية الأميركية.
البروز الصيني في المنطقة العربية ظهر مؤخرا بقوة اقتصادية هائلة شملت تبادلا تجاريا يناهز ٢٠٠ مليار دولار، وتعوِّل الصين على معطيات مهمة في العلاقات مع الدول العربية أبرزها مصادر الطاقة النفط والغاز والموقع الجيواستراتيجي للمنطقة العربية التي تتوسط قارات العالم القديم وتربط بينها، إضافة إلى القوة البشرية التي تتجاوز ٤٣٠ مليون نسمة؛ أي ما يُمثِّل ٥% من سكان العالم، وهذه القوة الشرائية توفر ميزة مهمة لازدهار العلاقات التجارية مع دول المنطقة. وتأتي مبادرة الحزام والطريق الصينية لتتصدر أولويات الرؤية الصينية تجاه المنطقة العربية، وقد وقَّعت الصين اتفاقيات استراتيجية مع عدد من دول المنطقة كل على حدة، فهناك اتفاقيات كبرى مع الجزائر والكويت والسعودية وإيران وعدد كبير من الدول العربية، كما ينشط التبادل التجاري العربي بشكلٍ متسارع مع هذه القوة العالمية.
القمة العربية ـ الصينية التي عقدت نهاية الأسبوع المنصرم ترتكز على ركيزة وثيقة السياسة الصينية مع البلدان العربية التي قدمتها الصين قبل سنوات وأبرز محاورها مبادرة الحزام والطريق. وهذه السياسة الناعمة النشطة استطاعت خلالها جمهورية الصين الشعبية الولوج بقوة في عالم الاقتصادات العربية، وما يميِّز الحالة الصينية هنا التوجُّه إلى التعامل الاقتصادي بالعملات المحلية وارتكاز العلاقات على خلفية تاريخية (طريق الحرير) الذي يجد رغبة قوية لإحيائه مجددا بين الطرفين العربي والصيني.
في الحالتين الصينية والأميركية يتحتم على الدول العربية أن تعي جيدا أن هذه العلاقات الاقتصادية مع القوى الاقتصادية الدولية تقوم على حسابات المصلحة المادية التي لا يهمها أن تبتلع المنطقة وتحكم قبضتها الاقتصادية عليها من خلال إغراق السوق العربية بالسلع الاستهلاكية والكماليات والهيمنة الاقتصادية الكاملة، وبالتالي يجب ضبط هذه العلاقات الاقتصادية من خلال رؤية اقتصادية عربية موحدة تقوم على المشاركة في الإنتاج والتصنيع والزراعة والتنمية البشرية، وليس على التبادل بالمواد الأولية والطاقة فقط من قبل الدول العربية ثم استيراد المواد الاستهلاكية، فهذا لا يُمثِّل تبادلا تجاريا حقيقيا، بل يجب توفير بيئة اقتصادية قوية لتبادل تجاري تحكمه ضوابط دقيقة وتفعيل الاستثمار الذي يعتمد على التكافؤ في المصلحة لإقامة مشاريع صناعية مشتركة، وتفعيل الموارد والثروات المتاحة بالوطن العربي، وخصوصا الزراعة وتربية المواشي والثروة السمكية وغيرها من الثروات الاقتصادية الأصيلة.
اليوم ـ بلا شك ـ هناك متغيرات استراتيجية في صراع القوى العظمى، وهناك محاور صاعدة وحالة تعددية قطبية بدأت ملامحها تتشكل، وليست بخافية على أي متابع لحركة التاريخ والمحاور والأقطاب الدولية، وقد بدت عناوينها تبرز في العلاقات الاقتصادية وتحاول هذه الأقطاب البحث عن بدائل دولية تعزز اقتصاداتها وأسواقها العالمية، وخصوصا أسواق الطاقة التي تتركز هنا في المنطقة العربية، وتزداد أهميتها من حيث الثقل السكاني والأهمية الجغرافية وموارد الطاقة، لذلك فالسباق على كسب ود المنطقة يشكِّل أولوية قصوى في العلاقات الدولية وصراع النفوذ بين القوى الدولية.
ولا شك أن الشعوب العربية تتابع المشهد وتعوِّل كثيرا على التنسيق والرؤية العربية المشتركة في اعتماد استراتيجية موحدة واضحة الأهداف والمعالم، والآمال معقودة على بناء علاقات دولية تقوم على الاحترام المتبادل واحترام السيادة الوطنية، واحترام لغة المصالح مع الأخذ بالاعتبار أهمية التوازن في العلاقات الدولية في ظل وجود تنافس دولي وصعود أقطاب دولية أخرى تمنح الدول العربية حرية مناورة أكثر في العلاقات الدولية. ولا شك أن تقديم رؤية واحدة واثقة متوازنة تُمثِّل ورقة قوة مهمة يضاف إليها أوراق أخرى مثل عناصر الطاقة (النفط والغاز) وحاجة العالم إليهما في ظل المتغيرات الدولية التي تشكِّل التوازن العالمي في خريطة العلاقات الدولية. ومن هنا نترقب أن تسجل المنطقة العربية نجاحات لافتة على الصعيد السياسي والاقتصادي في إطار العلاقات مع هذه القوى الدولية، وعلى دولنا العربية الحذر قبل أن تجد نفسها في نهاية المطاف تعمل لخدمة مصالح قوى دولية أخرى ونظل نحن العرب نسير على هوامش التاريخ.
خميس بن عبيد القطيطي
khamisalqutaiti@gmail.com
Discussion about this post