حدث ما كان متوقعًا. فشل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في الحصول على الأغلبية البرلمانية في الجولة الثانية من الانتخابات التشريعية التي جرت في 19 حزيران الجاري. وبالتالي فإن ولايته الرئاسية ستكون محكومة بتعقيدات وتشابكات التركيبة النيابية المستجدة وتعدد مشاربها وتوجهاتها السياسية، والتي ستشكل حتمًا عائقًا رئيسيًا لماكرون، كونه سيواجه معها معارضة شرسة ستجعله مكبّل اليدين عند مقاربته لملفات الحكم الداخلية والخارجية.
كيف جاءت نتائج الانتخابات التشريعية الفرنسية؟
احتلّ “التحالف الوسطي” بقيادة ماكرون المركز الأول في التصويت على مستوى البلاد الأحد الفائت بحصوله على 245 مقعدًا، لكنه كان أقل بكثير من الأغلبية المطلقة التي تمتع بها في “الجمعية الوطنية” المكونة من 577 مقعدًا خلال فترة ولايته الأولى.
أتت النتائج بعد شهرين من إعادة انتخاب ماكرون لولاية ثانية، حيث أيده ببساطة العديد من الناخبين خصوصًا من اليسار كوسيلة لمنع زعيمة “التجمع الوطني” اليميني ماري لوبان من الفوز بالسلطة.
لكن المفاجئ أن ماكرون لم يفعل شيئًا يذكر في الأسابيع الأخيرة لاستمالة الناخبين، وبدا غير منخرط في الحملة التشريعية، بل ذهب إلى أوروبا الشرقية قبل أيام فقط من التصويت البرلماني لزيارة القوات الفرنسية والتعبير عن دعمه لأوكرانيا.
ولمن لا يعلم، تقليديًا، يُعطي الناخبون في الانتخابات التشريعية التي تجري بعد فترة وجيزة من الاقتراع الرئاسي، الرئيس المنتخب حديثًا تفويضًا سياسيًا من خلال منحهم أغلبية قوية في الجمعية الوطنية، غير أن الرسالة التي أرسلها الناخبون يوم الأحد كانت أشبه بصفعة لماكرون.
فبدلاً من ذلك، حلّ تحالف يساري بقيادة جان لوك ميلينشون، في المرتبة الثانية بحصوله على 131 مقعدًا. بينما حاز “التجمع الوطني” بزعامة لوبان على عدد قياسي من المقاعد بلغ 89 مقعدًا، على عكس العدد القليل الذي كان يشغله سابقًا.
ما هي خيارات ماكرون بعد فقدانه الأغلبية التشريعية؟
خلال عهده الرئاسي الأول، حاز ماكرون على لقب كوكب المشتري (نسبة الى تغطرسه وتعجرفه) لأسلوبه الحاكم “من أعلى إلى أسفل”، باستخدام السلطات الكاملة للسلطات التنفيذية في فرنسا، مقابل تهميشه البرلمان إلى حد كبير.
أنتجت هذه الانتخابات مشهدًا سياسيًا معقدًا ومشتتًا، إذ انه من المؤكد أن المكاسب الكبيرة التي حققتها جماعات المعارضة في الانتخابات التشريعية، وخسارة أردوغان الأغلبية وضعته أمام خيارات صعبة لا مفر من الأخذ بها.
فمن جهة، يتعين الآن على ماكرون – الذي كان يشار إليه في كثير من الأحيان باسم “الملك الجمهوري” – أن يرضي شركاءه في الائتلاف، ومن جهة ثانية سيُجبر على كسبب تأييد المشرعين المعارضين، والتودد اليهم، خصوصا يمين الوسط، وبالتالي سيسعى إلى التوصل إلى حل وسط معهم في فترة ولايته الثانية.
لكن هذه الأمور، وإن كانت ستسهّل مهمته أحيانًا، غير أنها على المقلب الآخر، ستزيد من صعوبة تحقيق وتنفيذ أجندته الداخلية في البرلمان الجديد الذي استعاد دوره، بعد تغيير المشهد السياسي بعدما كانت تهيمن عليه الرئاسة على مدى العقدين الماضيين.
والأهم من ذلك، من المنتظر أن يواجه الرئيس الفرنسي تحديات كبرى وقاسية من القوى اليسارية واليمينية المتطرفة التي تعهدت بعرقلة أجندته التشريعية مما أثار مخاوف من عرقلة سياسية طويلة الأمد على الطريقة اللبنانية.
وأمام هذه التغيرات بات على ماكرون أن يتعامل مع القيود البرلمانية التي كان في الغالب قادرًا على التحايل عليها خلال فترة ولايته الأولى، وعليه لن يكون حزبه قادرًا على رفض تعديلات المعارضة بسهولة، فقد تكون المناقشات التشريعية أكثر قسوة.
ماذا عن امكانية التحالف بين اليسار واليمين المتطرف؟
عمليًا، لا يشترك اليسار واليمين المتطرف إلا في القليل من القواسم المشتركة، مما يجعل من المستحيل إنشاء جبهة مستدامة وموحدة مناهضة لماكرون. فهناك تصدعات عميقة حتى بين الأحزاب اليسارية التي تشكل تحالف ميلينشون، حول قضايا مثل سياسة فرنسا النووية، أو مكانتها في الاتحاد الأوروبي، والتي يمكن أن تمنع التحركات المنسقة.
ظهرت هذه التوترات بالفعل الاثنين الفائت 20 حزيران، بعد أن رفضت الأحزاب الأخرى في التحالف – الاشتراكيون والخضر والشيوعيون – دعوة ميلينشون للجلوس كمجموعة واحدة في مجلس النواب.
ما هي الخيارات المتاحة امام ماكرون؟
ابان ولاية ماكرون الأولى، كان مجلس النواب في البرلمان يُعتبر على نطاق واسع بمثابة ختم مطاطي للرئاسة، حيث قاد الرئيس ودائرة صغيرة من المستشارين الأجندة السياسية الفرنسية.
أما حاليًا، فالمشهد مختلف، إذ لدى كل من “الائتلاف اليساري” و”التجمع الوطني” عدد كافٍ من المشرعين لجلب تصويت بحجب الثقة، لكنهما سيحتاجان إلى حشد الأغلبية المطلقة لإسقاط الحكومة، وهو ما يبدو غير مرجح. لذلك، فإن احتمال حدوث جمود في الجمعية الوطنية قد يدفع ماكرون إلى حل المجلس والدعوة إلى انتخابات برلمانية جديدة العام المقبل.
في الواقع، يمكن لرؤساء فرنسا أن يحكموا عن طريق المراسيم في بعض القضايا، ولديهم حرية نسبية في إدارة السياسة الخارجية. لكن الإصلاحات الداخلية الرئيسية التي وعد بها ماكرون خلال حملته لإعادة انتخابه تتطلب موافقة البرلمان، مثل خططه المثيرة للجدل لرفع السن القانونية للتقاعد من 62 إلى 65 عامًا.
ومع أن ماكرون سيضطر للسعي من أجل بناء تحالفات قصيرة الأمد مع قوى المعارضة، لكن لا يظهر أن أيًا منهم يميل إلى مساعدته. وفي هذه الحالة قد يلجأ ماكرون الى حزب اليمين المحافظ التقليدي “الجمهوريين” للحصول على دعمهم، وهؤلاء يمكن ان يصبحوا صانعي الملوك لتمرير مشاريع القوانين. وعلى الرغم من تراجعه الكبير مقارنةً بنتائج الانتخابات السابقة (74 مقعداً في 2022 مقابل 112 مقعداً في 2017)، فإن الحزب تمكن من تجاوز الإخفاق الذي أصابه في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية لعام 2022.
اللافت أن قادة حزب المحافظين، وبعضهم قلق من أن ائتلافا طويل الأمد مع ماكرون، يمكن أن يغضب قاعدتهم، استبعدوا بالفعل إقامة شراكة. وتعقيبًا على ذلك قال كريستيان جاكوب رئيس الحزب للصحفيين “نحن في المعارضة”، مضيفًا أنه “لا يوجد شك في اتفاق أو ائتلاف أو اتفاق من أي نوع”.
الآن، من المتوقع أن تشغل قوى المعارضة مناصب استراتيجية في مجلس النواب وأن تسيطر على اللجان الرئيسية، مثل اللجنة المالية القوية التي تشرف على ميزانية الدولة. ومع ذلك، لم يتضح ما الذي سيفعله ماكرون، الذي لم يقل أي شيء علنا عن النتائج. إذ يمكن للرئيس، الذي فقد حلفاءه الرئيسيين في الجمعية الوطنية، أن يقرر أيضًا معالجة إحباطات الناخبين من خلال إعادة تشكيل حكومته على نطاق أوسع.
ماذا عن تداعيات مفاجأة لوبان؟
لم تشكل نتائج اليمين المتطرف برئاسة لوبان صدمة كاملة، بالنظر إلى أدائها القوي في الانتخابات الرئاسية، وقدرتها على جذب الناخبين المناهضين لماكرون.
تمت إعادة انتخاب لوبان بسهولة وفازت بمقعدها الخاص جنبًا إلى جنب مع عدد قياسي من المشرعين اليمينيين المتطرفين، والذين يبلغ عددهم الآن حوالي 11 ضعف عددهم خلال فترة ماكرون السابقة.
وبعد فوزها قالت لوبان للصحفيين يوم الاثنين “نعم نحن نطلب كل ما يحق لجماعة معارضة، اللجنة المالية بالطبع، ونائب الرئيس بالطبع”. واضافت “هل سيتمكن ماكرون من فعل ما يريد؟ لا، وهذا أفضل بكثير”.
تتيح هذه النتيجة للتجمع الوطني تشكيل ما يعرف باسم المجموعة البرلمانية، وستحقق مكاسب مالية غير متوقعة لحزب كان مثقلًا بالديون منذ فترة طويلة، وذلك بفضل زيادة التمويل العام بناء على نتائج انتخاباته
Discussion about this post