شهدت منطقة الشرق الأوسط، خلال الأشهر القليلة الماضية، سلسلة من التحركات غير العادية. ففي 27 و 28 آذار/مارس الماضي، استضافت “إسرائيل” اجتماعاً غير مسبوق، عقد في صحراء النقب، حضره وزراء خارجية الولايات المتحدة الأميركية ومصر والمغرب والإمارات والبحرين، بالإضافة طبعاً إلى وزير خارجية “إسرائيل”، باعتباره المضيف وصاحب الدعوة، وذلك في سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي.
ومنذ أيام، كشفت صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية عن اجتماع سري لمسؤولين عسكريين، عقد في مدينة شرم الشيخ في آذار/مارس الماضي، وحضره كل من رئيس الأركان الإسرائيلي أفيف كوخافي، واللواء فياض بن حامد الرويلي، رئيس أركان القوات المسلحة السعودية، والفريق الركن سالم بن حمد النابت رئيس الأركان القطري، إلى جانب قادة عسكريين آخرين كبار من الأردن ومصر والبحرين والإمارات، جرى فيه “وضع اللبنات الأساسية لنظام دفاع جوي إقليمي محتمل”.
وفي 9 حزيران/ يونيو الحالي، ذكرت القناة 12 العبرية أن “إسرائيل” قامت بنشر منظومة رادارية في عدة دول في الشرق الأوسط، منها الإمارات والبحرين. ويعتقد على نطاق واسع بأن هذه التحركات تستهدف إنشاء تحالف عسكري لم يتردد البعض في أن يطلق عليه “الناتو الشرق أوسطي”. وترسخ هذا الاعتقاد في ضوء تصريح أدلى به الملك الأردني عبد الله الثاني وعبّر فيه عن دعمه “تشكيل تحالف عسكري في الشرق الأوسط على غرار حلف شمال الأطلسي”، شريطة أن “يتم ذلك مع الدول التي لديها التفكير نفسه”. فهل يستند هذا الاعتقاد إلى أسس صحيحة. وهل المنطقة مهيأة، الآن، فعلاً، لقيام حلف عسكري على غرار “الناتو”؟
قبل أن ندلف إلى جوهر هذا الموضوع، دعونا نتوقف أولاً عند حلف “الناتو” نفسه، باعتباره الإطار المرجعي لتفسير ما يجري الآن في المنطقة. فكلمة NATO باللغة الإنكليزية هي اختصار لعبارة North Atlantic Treaty Organization ومعناها “منظمة معاهدة حلف شمال الأطلسي”، أي أننا إزاء حلف عسكري تم إنشاؤه بموجب معاهدة دولية أبرمت عام 1949 بين عدد من الدول الواقعة على ضفتي المحيط الأطلسي، منها دولتان أميركيتان تقعان على ضفته الشرقية، هما الولايات المتحدة وكندا، وعشر دول أخرى تنتمي جميعها إلى القارة الأوروبية الواقعة على ضفته الغربية، ومن هنا جاءت تسميته بـ”حلف شمال الأطلسي”.
أما السبب في إنشاء هذا الحلف فيعود إلى رغبة الولايات المتحدة في احتواء الاتحاد السوفياتي، حليفها السابق في الحرب العالمية الثانية، بعد أن استشعرت خطره على طموحاتها العالمية في مرحلة ما بعد هذه الحرب، وذلك من خلال نظام أمن جماعي يربطها بحلفائها الأوروبيين، بعيداً عن نظام الأمن الجماعي العالمي الذي تضمنه في ميثاق الأمم المتحدة. ولا شك أن قرار تأسيس هذا الحلف، وبصرف النظر عن الجدل الذي أثير حول مشروعية قيامه من منظور مدى اتساقه مع نصوص ميثاق الأمم المتحدة وروحه، عكس رؤية أميركية استهدفت تمكين الولايات المتحدة من المشاركة في قيادة النظام العالمي، من خلال العمل على احتواء الاتحاد السوفياتي، من ناحية، ووضع أوروبا الغربية تحت هيمنتها المنفردة عسكرياً (من خلال حلف الناتو) واقتصادياً (من خلال مشروع مارشال).
وعندما قرر الاتحاد السوفياتي عام 1955، الرد على هذه الخطوة المعادية، بإنشاء حلف عسكري مضاد يضم دول أوروبا الشرقية، أطلق عليه حلف “وارسو”، انقسم العالم مؤسسياً إلى معسكرين متصارعين تدور بينهما “حرب باردة” استمرت لأربعة عقود متتالية. ومع ذلك، وعندما وضعت الحرب الباردة أوزارها، بسقوط جدار برلين عام 1989، وقيام حلف “وارسو” بحلّ نفسه، لم يقدم حلف “الناتو” على خطوة مماثلة، كما كان متوقعاً، لأن الولايات المتحدة أرادت له أن يصبح أداتها الرئيسية في تمكينها من الهيمنة المنفردة على النظام العالمي.
لم يكتف الحلف بالمحافظة على بقائه واستمراره، وإنما قرر أن يتوسع ويتمدد شرقاً لضم كل ما يستطيع من دول أوروبا الشرقية، ومن جمهوريات الاتحاد السوفياتي سابقاً، وهو ما حدث عبر سلسلة من موجات التوسع، كان أهمها تلك التي جرت عامي 1999 و2004، ما أدى إلى زيادة عضويته من 12 دولة عند التأسيس إلى 30 دولة حالياً.
من حيث الشكل القانوني، يبدو حلف “الناتو” وكأنه مجرد منظمة دولية للدفاع الجماعي عن النفس، تماشياً مع نص المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، وهو ما توحي به المادة الخامسة من ميثاق الحلف نفسه، ونصها كالتالي: “يتفق الأطراف، على أن أي هجوم، أو عدوان مسلح، ضد طرف منهم، أو عدة أطراف، في أوروبا أو أميركا الشمالية، يعتبر عدواناً عليهم جميعاً. وبناءً عليه، فإنهم متفقون على أنه، في حالة وقوع مثل هذا العدوان المسلح، فإن على كل طرف منهم، تنفيذاً لما جاء في المادة “51” من ميثاق الأمم المتحدة، عن حق الدفاع الذاتي عن أنفسهم، بشكل فردي أو جماعي، تقديم المساندة والعون للطرف، أو الأطراف، التي تتعرض للهجوم، باتخاذ الإجراءات الذاتية، بالتعاون مع الأطراف الأخرى، من دون تأخير، بما في ذلك استخدام قوة السلاح، التي يرى أنها لازمة لإعادة الأمن، إلى منطقة شمال الأطلسي، وتأكيده. ويتم إبلاغ مجلس الأمن، من دون تأخير، بكل هجوم وعدوان مسلح، وكل الإجراءات المضادة المتخذة تجاهه. ويتم وقف الإجراءات، بمجرد اتخاذ مجلس الأمن الخطوات الضرورية، لإعادة السلام والأمن الدوليين واستقرارهما”.
غير أنه لم يعد كذلك في واقع الأمر، وإنما بات بمنزلة الذراع العسكرية للسياسة الخارجية الأميركية، بدليل:
1- رفض الولايات المتحدة حلّه، رغم انتهاء الحرب الباردة، وقيام حلف “وارسو” بحلّ نفسه.
2- الإصرار على التوسع والتمدد شرقاً، رغم انتفاء الضرورة العسكرية لذلك.
3- استخدامه خلال العقود الثلاثة الماضية في عمليات عسكرية لا يمكن اعتبارها من قبيل الدفاع عن النفس، بتدخله في الصراعات التي اندلعت في البوسنة والهرسك، وفي كوسوفو، وفي أفغانستان، وفي العراق، وفي خليج عدن، وفي ليبيا..إلخ، وبدون إذن أو تفويض من الأمم المتحدة في كثير من الأحيان.
كيف نفهم، في سياق ما تقدم، مغزى ما يتردد حالياً من أحاديث حول إنشاء ناتو عربي أو شرق أوسطي؟
لا شك أن الولايات المتحدة تحرص على مواصلة هيمنتها المنفردة على العالم، ولها مصالح كبيرة في منطقة الشرق الأوسط تتطلب الحماية، خاصة وأن الحرب في أوكرانيا تعيد أجواء الحرب الباردة من جديد، لكن الأرجح أنها لم ولن تقترح على الدول العربية والشرق أوسطية إبرام معاهدة دولية للدفاع الجماعي تنطوي على ضمانات متبادلة لكل أطرافها. فهي تدرك أن هذه المنطقة من العالم تعج بالعديد من التناقضات والصراعات ولا تستقر فيها أي تحالفات، ومن هنا تفضيلها لآلية العلاقات الثنائية كأداة للدفاع عن مصالحها في هذه المنطقة المضطربة من العالم، خاصة في ضوء ما جرى في خمسينيات القرن الماضي، إبان تجربة حلف بغداد، الذي سقط رغم أنها لم تنضم إليه، وفضلت قيادته من الخلف عبر بريطانيا.
لذا، لا أعتقد مطلقاً أنها ستقبل تقديم ضمانات تعاقدية لأي دولة عربية، وأستبعد كلياً أن يكون الهدف من التحركات الجارية حالياً في المنطقة هو إبرام معاهدة دولية لإنشاء حلف عسكري مع دول المنطقة، على غرار المعاهدة المنشئة لحلف “الناتو” مع الدول الأوروبية. كل ما في الأمر أن الولايات المتحدة تريد توظيف الزخم الناجم عما يسمى “اتفاق أبراهام” للمساعدة على دمج “إسرائيل” بشكل كامل في المنطقة، من خلال مد نطاق التطبيع مع الدول العربية إلى الجوانب العسكرية، وهو -في تقديري- أمر بالغ الخطورة في حد ذاته، بل وربما يكون أخطر بكثير على المصالح العربية من إقامة تحالف عسكري تعاقدي تشارك فيه الولايات المتحدة. ولا جدال عندي في أن نقل “إسرائيل” من منطقة القيادة الأميركية في أوروبا إلى منطقة القيادة الوسطى المسؤولة عن الشرق الأوسط يشكل خطوة في الاتجاه نفسه.
من المفيد أن نتذكر أن الأهداف الأميركية في منطقة الشرق الأوسط تنحصر في:
1- المحافظة على أمن “إسرائيل”، من خلال ضمان تفوقها العسكري على دول المنطقة مجتمعة.
2- المحافظة على أمن الطاقة وإمداداتها وأسعارها، بما يضمن المصالح الاقتصادية لها ولحلفائها.
3- التعاون مع النظم العربية الحاكمة في المنطقة، ولكن بما يتناسب مع مستوى الدعم الذي تقدمه لتحقيق الهدفين السابقين. وفيما عدا ذلك، لا يوجد ما يشير من قريب أو بعيد إلى أن الولايات المتحدة باتت مستعدة لتقديم ضمانات أمن تعاقدية جماعية لدول المنطقة، خاصة للدول العربية.
هذا هو درس التاريخ، فمتى تستوعبه النظم الحاكمة في الدول العربية؟ أظن أنه حان الوقت. أليس كذلك؟
- حسن نافعة – أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة
Discussion about this post