أولًا: الشعر العربيّ في الأندلُس:
قام عُلماء التاريخ العربيّ بتقسيم الأدب والعلوم الإنسانية في الأندلُس -إسبانيا حاليًا- إلى قسمين أو فترتين؛ فترة سُميَّت بفترة المد: وهي تلك الفترة التي بدأت بالفتح ، واستمرّت حتى عصر ملوك الطوائف، وهم الحُكَّام أو الأمراء الذين حكموا الأندلُس، وكانوا من المشرق أو ربما من الأندلُس نفسِها..
وفترة الجَزر؛ وهي تلك الفترة التي قامت فيها الأندلُس بحُكم دول أخرى من شمال أفريقيا، وتعتبر هذه الفترة أكثر تميُّزًا عن الأولى، وبدأ في ذلك الوقت يظهر العديد من الأدباء والشُعراء في الأندلُس.
فنون الشعر الأندلسي:
ولقد نظَّم الأندلسيون الشعر في الأغراض التقليدية، كالغزل، والمجون، والتصوّف، والزُهد، والمدح، والهِجاء، والرثاء، وقد قاموا بتطوير موضوع الرثاء؛ حيثُ أوجدوا « رثاء المدن والممالك الزائلة»، وتأثّروا بأحداث العصر السياسية؛ فنظموا «شعر الاستغاثة»، وتوسعوا في وصف البيئة الأندلسية، واستحدثوا فن الموشحات والأزجال.
وصف الطبيعة
ألهبت طبيعة الأندلس الجميلة قرائح الشعراء، فرسموا لوحات شعرية متنوعة أودعوها أخيلتهم وعواطفهم..
ولقد رأى «عبد الرحمن الداخل» نخلة بالرصافة (شمالي قرطبة)، فلم يصفها في طولها ولا في التفافها ولا في ثمرها، وإنما عقد بينه وبينها شبهًا في النوى والبعد عن الأهل. ووصف «ابن عبد ربه» الطبيعة بمعناها العام المتمثل في الرياض وأزهارها مما جعلها مصورة البيئة الأندلسية في أدق تصوير.
وقد ردد «ابن حمديس» (ت527هـ) أصوات القدماء في الطبيعة كما ردد أصوات المحدثين، ووصف الخيل والإبل والغيث والبرق، وأقحم عبارات «امرئ القيس»، ثم حاكى «أبي نواس» في الدعوة إلى نبذ الوقوف على الأطلال، ودعا إلى الشراب، وكثيرًا ما وصف ترحاله وتغربه عن صقلية التي أُبعِد عنها، وقد حدث ذلك في (471هـ)، لما غزاها النورمان.
الغَزَل
وقد كان الغَزَل من أبرز الفنون التقليدية، يستهلّ ويبدأ به الشعراء قصائدهم، أو يأتون به مستقلًا، وبحكم الجوار أولًا، ولكثرة السبايا ثانيًا، شاع التغزُّل بالنصرانيّات، وكثر ذِكر الصلبان والرهبان والنُسَّاك، كذلك شاع التشبيب -أي التغزُّل- بالشَعر الأشقر بدلًا من الشَعر الفاحم، وكما أن الشعراء جعلوا المرأة صورة من محاسن الطبيعة. قال المقَّري: «إنهم إذا تغزلوا صاغوا من الورد خدودًا، ومن النرجس عيونًا، ومن الآس أصداغًا، ومن السفرجل نهودًا، ومن قصب السكر قدودًا، ومن قلوب اللوز وسرر التفاح مباسم، ومن ابنة العنبِ رضابًا»
(والآس هو شجر دائم الخضرة، والسفرجل فاكهة ورديّة، والرضاب فُتات السكّر).
ولم يظهر المجون الذي يخلط فيه الجد بالهزل في عهد الدولة الأموية في الأندلس؛ بسبب انشغال الناس بالفتوح من جهة، ولأن الوازع الديني كان قويًا في النفوس من جهة ثانية..
لكن منذ عصر ملوك الطوائف حتى نهاية حكم العرب في الأندلس، اتّخذ بعضهم المجون مادة شعرهم، وأفرطوا فيه إلى حد الاستهتار بالفرائض، مع أنه ظهر في القرن الخامس الهجري في ظل دول الطوائف عدد كبير من الشعراء الذين نظموا في الزهد، كـ «أبي إسحق الإلبيري» (ت460هـ)، و«عليّ بن إسماعيل القرشي» (المُلقَّب بالطليطل)، والذي كان أهل زمانه (المئة السادسة) يشبهونه بأبي العتاهية.
ولئن كان الزُهد دعوة إلى الانصراف عن ترف الحياة، فإن التصوُّف شظف وخشونة وانعزال عن الخلق في الخلوة إلى العبادة، ويتّخذ الشعر الصوفي الرمز أداة للتعبير عن مضمونه وحقائقه، ومن متصوفة الأندلس «ابن عربي» (ت638هـ) وقد لقب بـ «محيي الدين» وبـ «الشيخ الأكبر» و«ابن سبعين» (ت669هـ) وكان يلقب بـ «قطب الدين».
شعر الاستغاثة
ويقوم على استنهاض عزائم ملوك المغرب والمسلمين لنجدة إخوانهم في الأندلس أو التصدي للاجتياح الإسباني. وقد أورد المقّري في نفح الطيب قصيدة «ابن الأبَّار» (ت658هـ) التي استغاث فيها بسلطان تونس «أبي زكريا الحفصي» سنة 636هـ ومطلعها:
«أَدْرِكْ بِـخَـيْـلِـكَ خَــيْــلِ الــلَّـهِ أنـدلُـسَـاً .. إنَّ الـسَّـبِـيـلَ إلَـــى مَـنْـجـاتِها دَرَسَـــا»
وَهَـبْ لهَا مِنْ عَزيزِ النَّصْرِ مَا الْتَمسَت ..فَـلَـمْ يَــزَلْ مِـنْـكَ عــزُّ الـنَّصْر مُـلْتَمَسا»
فاستوعبت معظم الاتجاهات والمعاني التي أتى بها شعراء الاستغاثة.
المدح
وقد حافظ الشعراء في المدح على الأسلوب القديم، فاعتنوا بالاستهلال وحُسن التخلُّص، وربما بدأوا قصائدهم بوصف الخمر أو الطبيعة، أو بلوم الزوجة لزوجها لسفره للقاء الممدوح -المُثنى عليه- كما في شعر «ابن درَّاج القسطلي» (ت421هـ)، وكذلك لم يغرقوا في استعمال الغريب من اللفظ.. ما عدا «ابن هانئ» (ت362هـ) الذي حاول تقليد المتنبي.
الرثاء
لم يختلف رثاء الأندلسيين كثيرًا عن رثاء المشارقة، فكانوا يتفجّعون على الميت، ويُعظّمون المصيبة، وكثيراً ما كانوا يبدؤون بالحكمة صنيع الشاعر الأندلسيّ «ابن عبد ربه» (ت328م).
أبرز شعراء العصر الأندلسي
وأبرز شعراء العصر الأندلسي الذين ألّفوا العديد من القصائد هم: «ابن جبير»، «أمية الداني»، «عبّاس بن فرناس»، «يوسف الثالث»، «أبو حيان الأندلسي»، «أبو اسحاق الألبيري»، «ابن الزقاق البلنسي»، «ابن خفاجة»، «ابن دارج القسطلي»، «ابن نباتة المصري»، «ابن هانئ الأندلسي» -وكان الوحيد الذي استخدم ألفاظ غريبة في شعره متأثّرًا بـ «المُتنبّي»-، «الحداد القيسي»، «ابن حمديس»، «ابن خاتمة الأندلسي»، «علي الحصري القيرواني»، «ابن شرف القيرواني»، «ابن زمرك»، «ابن زيدون»، «ابن سهل الأندلسي»، «ابن شهاب»، «ابن شهيد»، «ابن عبد ربه»، «ابن معتوق».. وغيرهم الكثير.
ثانيًا: النثر العربيّ في الأندلُس
فنون النثر الأندلسي
تعددت فنون النثر العربي في الأندلس، فتناول الأندلسيون ما كان معروفًا في المشرق من خطب ورسائل ومناظرات ومقامات، وزادوا عليها بعض ما أملَته ظروف حياتهم وبيئاتهم، وقد شاع فيهم تصنيف كتب برامج العلماء، التي تضمنت ذكر شيوخهم ومروياتهم وإجازاتهم. وكان للكتاب مزية الجمع بين الشعر والنثر والإجادة فيهما.
الخطابة:
كانت الخطابة وليدة الفتح، فقد استدعت الغزوات التي قام بها العرب المسلمون قيام الخطباء باستنهاض الهمم، وإذكاء روح الحماسة للجهاد في سبيل الله.. ولما تمزقت البلاد، واستحالت إلى دويلات كثيرة، واستعان بعض أصحابها بالأعداء، كان الخطباء يقفون في المحافل العامة للدعوة إلى لم الشمل وترك التناحر.
ومنذ عصر المرابطين، حتى آخر أيام المسلمين في الأندلس، ظهرت الخطب المنمقة، ومنها التي تتضمن التورية بأسماء القرآن الكريم كما في خطبة لـ «لقاضي عياض» (544هـ) التي يقول فيها: «الحمد لله الذي افتتح بالحمد كلامه، وبين في سورة البقرة أحكامه، ومد في آل عمران والنساء مائدة الأنعام ليتم إنعامه».
الرسالة:
كانت الرسالة في القرن الأول من الفتح ذات أغراض محددة أملتها ظروف العصر، وكان لا يلتزم فيها سجع ولا تورية. ثم حظيت كتابة الرسائل بكتاب معظمهم من فرسان الشعر استطاعوا بما أوتوا من موهبة شعرية وذوق أدبي أن يرتقوا بأساليب التعبير وأن يعالجوا شتى الموضوعات، فظهرت الرسائل المتنوعة ومنها الديوانية والإخوانية.
فمن الرسائل الديوانية رسالة «أبي حفص أحمد بن برد» (ت428هـ) (المعروف بالأصغر تمييزاً له من جده الأكبر) من كتاب ديوان الإنشاء في دولة العامريين، وقد وجهها لقوم طلبوا الأمان من مولاه. واستخدم فيها الأسلوب الذي يخيف بالكلمة المشبعة بالوعيد.
ومن الرسائل الإخوانية رسالتا «ابن زيدون» الهزلية والجدية، ورسالة «لسان الدين بن الخطيب» إلى صديقه «ابن خلدون» في الشوق إليه.
وقد شاع استعمال لفظ «كتاب» عوضًا عن الرسالة، كما ورد في رسالة جوابية كتبها «ابن عبد البر» (ت458هـ) إلى أحد إخوانه يعبر فيها عن مدى إعجابه بأدبه.
المناظرة:
وهي فن يهدف الكاتب فيه إلى إظهار مقدرته البيانية وبراعته الأسلوبية، وهي نوعان خيالية وغير خيالية.
فمن المناظرات الخيالية مناظرة بين السيف والقلم لـ «ابن برد» الأصغر، وقد رمز بالسيف لرجال الجيش، وبالقلم لأرباب الفكر، ثم أجرى الحوار بينهما، وانتهى فيه إلى ضرورة العدل في المعاملة بين الطائفتين.
ومن المناظرات غير الخيالية ما تجري فيه المناظرة بين مدن الأندلس ومدن المغرب كمفاخرات مالقة وسلا لـ «لسان الدين بن الخطيب»، وكانت مالقة أيام الدولة الإسلامية من أعظم الثغور الأندلسية، أما سلا فهي مدينة رومانية قديمة في أقصى المغرب، وقد فضل الكاتب مالقة. (1)
المقامة:
وهي نوع من النثر الفني نشأ في المشرق على يد «بديع الزمان الهمذاني»، ثم حذا حذوه «الحريري». وفي الأندلس «عارض أبو طاهر محمد التميمي السرقسطي» (توفي بقرطبة سنة 538هـ) مقامات «الحريري» الخمسين بكتاب الخمسين مقامة اللزومية، وهي المعروفة بالمقامات السرقسطية. وقد كتب «أبو محمد عبد الله بن إبراهيم الأزدي» (ت750هـ) «مقامة العيد» التي استجدى فيها أضحية العيد من حاكم مالقة الرئيس «أبي سعيد فرج بن نصر».
كما ألَّف «لسان الدين بن الخطيب» مقامات كثيرة منها مقامته في السياسة، وقد بناها على حوار بين بطلين هما «الخليفة هارون الرشيد» وحكيم فارسي الأصل عربي اللسان، وقد تضمّنت آراؤه وتجاربه الشخصية فيما ينبغي أن تكون عليه سياسة الحكم. (1)
أعلام الكتّاب:
«أبو عبد الله محمد بن الحسن الطوبي كاتب الإنشاء»:
كان له شعر في الغزل والزهد، لكن النثر غلب عليه. وصفه «العماد الأصبهاني» بقوله: «إمام البلغاء في زمانه»
«أبو حفص عمر بن حسن النحوي»
كان إمامًا من أئمة النحو، استشهد به وبآرائه ابن منظور (ت711هـ) صاحب معجم لسان العرب.
«ابن البر، محمد بن علي بن الحسن التميمي»
من أعلام القرن الخامس، ولد في صقلية، وارتحل في طلب العلم إلى المشرق فنزل مصر وأفاد من «الهروي» (ت433هـ) و«ابن بابشاذ النحوي» (ت454هـ) وصار إمامًا في علوم اللغة والآداب. لما عاد إلى صقلية، استقر ب «مازر»، ثم في «بالرموز».
«أبو حفص عمر بن خلف، ابن مكي الصقلي المتوفى سنة 501هـ»
ولد في صقلية، ثم هاجر إلى تونس فولي القضاء بها سنة 460هـ. كان شاعرًا مجوّدًا نظم في أدب المجالس والصداقة، وتغلب على أشعاره معاني الوعظ والإرشاد والحكمة. وكان كاتبًا بليغًا اشتهر بتبحره في اللغة، صنّف «تثقيف اللسان وتلقيح الجنان»، وجعله في خمسين بابًا، جمع فيه ما يصحف الناس من ألفاظهم وما يغلط فيه أهل الفقه والحديث، وأضاف أبوابًا مستطرفة، ونتفًا مستملحة، وقد نقد المغنين لأنهم كانوا يحرصون على آداء النغم ويحرفون النص. ومقصد الكتاب في أعماقه رد اللغة العربية إلى الفصحى. وعدم إقرار المحلية، وقد كانت صقلية ملتقى شعوب، وليست وطنًا لشعب .
Discussion about this post