شهد العالم العربي وفي دول مختلفة في الأيام العشرة الأخيرة ثلاث جرائم قتل مروعة بحق نساء شابات هزت الرأي العام.
وتتشابه الجرائم بعدة نقاط، حيث أن جميعها تمت بسابق الإصرار والترصد ونفذت في العلن وارتُكبت وفق المعطيات الأولية بـ”دافع الحب”، كما أن جميع منفذي عمليات القتل هذه رجال لم يتقبلوا من الضحايا كلمة “لا“، أي لم يقبلوا أن ترفض هؤلاء الشابات الارتباط بهم أو الاستمرار في العلاقة معهم.
ووقعت أولى هذه الجرائم في 20 يونيو/ حزيران، عندما قام شاب بقتل الطالبة نيرة أشرف أمام جامعتها بدلتا النيل شمال القاهرة، حيث باغتها بسكين طعنها به عدة مرات، وذلك لرفضها الارتباط به. وما أشعل الجدل وردود الفعل الغاضبة أكثر هو أنه وبعد بضعة أيام وقعت جريمة مماثلة في الأردن بحق طالبة تمريض تدعى إيمان رشيد أطلق عليها النار داخل الجامعة من قبل شاب رفضت الارتباط به.
في الإمارات أيضا وقعت جريمة مشابهة، عندما أقدم رجل على توجيه 15 طعنة لزوجته العشرينية من أصول فلسطينية أردنية وتدعى لبنى منصور، داخل سيارتها، وأرداها قتيلة، على خلفية دعوى رفعتها لطلب الطلاق منه.
وأثارت الجرائم صدمة وموجة تعاطف واسعة على مواقع التواصل الاجتماعي مع النساء ضحايا العنف وأعادت الجدل بشأن مكانة المرأة في المجتمعات العربية. وانتشرت عدة هاشتاغات رافقت المنشورات على هذه المواقع أبرزها #عزاء_النساء.
لتسليط الضوء على هذه الجرائم وعلى خلفياتها الاجتماعية والنفسية، حاورت فرانس24 أستاذة علم الاجتماع في الجامعة اللبنانية ومنسقة المؤتمرات في الجمعية العربية لعلم الاجتماع دوللي صراف.
لماذا تحصل هذه الجرائم في العالم العربي؟
الأوضاع الثقافية والاجتماعية والاقتصادية في المجتمعات العربية تتباين من مجتمع لآخر، لكنها تتفق بأن كل مجتمع منها له منظومة عنف طاحنة بأشكال متعددة جعلت من المرأة ضحية دائمة، وذلك لأنها مجتمعات ذكورية ولها مخيال ثقافي موجود في المنظومة القيمية والثقافية العربية.
وما يجري يرتبط بصورة أساسية بالفهم القائم بمسألة النوع الاجتماعي وخلفيات هذا الفهم، هناك تجريم بأدلة أو بغير أدلة للمرأة.
عمليات القتل الأخيرة التي حصلت في الجامعة المصرية أو الأردنية أو غيرها طرح إشكالية عواقب ورواسب التصورات القائمة عند المجتمعات العربية بخصوص المرأة. تصورات تحول المرأة إلى ضحية دون أي تأنيب ضمير تكشف عن مأزق أخلاقي وقيمي وثقافي وإنساني وحضاري يتم من خلاله استباحة كيان المرأة في حين أن سعي المجتمعات العربية للنهوض وتحقيق الأمن والاستقرار والتنمية ورفع تحدياتها المحتملة يتطلب تغيير النظرة جذريا نحو المرأة واعتبارها قوة للاستثمار الإيجابي في النهوض والرقي وليس مخزونا للتضحية.
لا بد من الأخذ بعين الاعتبار التغيرات التي أصابت العالم الرقمي والتغيرات التي جعلت جميع دول العالم تعاني من مآزق كثيرة ومن ظواهر متشعبة وعديدة، لعل أبرزها ما يرتبط بالموضوع الذي يجري نقاشه الآن وهو نقاش العنف. هناك ارتباط أساسي بما يعرف بتغيرات وتبدلات الهوية الإنسانية حيث أصبح الفرد في هذا العالم الرقمي يعيش نوعا من فوضى الهويات، وأنا أسميه الهوية الهلامية، بمعنى أن هويته أصبحت غير واضحة المعالم لا يمكن تأطيرها ضمن إطار محدد. وهذا الأمر يجعل العديد من الأشخاص يعيشون ازدواجية سلوكية ومعيارية، بمعنى أن الإنسان يتصرف في مجتمعه المحلي مع عائلته والمجموعات التي ينتسب إليها بطريقة معينة ضمن هوية اجتماعية يتطلبها المجتمع المحلي، ولكن في العالم الافتراضي يعيش هوية أخرى قد تكون مناقضة بشكل كامل ومختلفة بشكل كامل عن هذه الاجتماعية في الواقع. هذا الأمر مما لا شك فيه له تداعياته النفسية والانعكاسية والسلوكية والقيمية والأخلاقية على الأفراد. لأنه عمليا، خفف من درجة انتماء الفرد إلى الجماعة وإلى المجتمع فأصبح يعيش أكثر نوعا من التفلت الهوياتي، وبالتالي فهو لا يشعر أنه خاضع لمعايير وقيم المجتمع الأخلاقية والاجتماعية والقيمية ولا حتى الدينية. إذا هذا أحد الأسباب التي لا بد من أن نشير إليها، يضاف إلى ذلك أنه هناك ثقافة عنف منتشرة وتمثلات هذه الثقافة تظهر في الألعاب الإلكترونية العنيفة التي يدمن عليها أطفال وشباب العالم العربي، حسب الدراسات والإحصاءات الأخيرة بنسب مرتفعة هي الأعلى في العالم. إذا هناك ثقافة عنف تنتشر، في هذه الألعاب طبعا وهناك استباحة كاملة لسلوكيات العنف. يضاف إلى هذه الأسباب، الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية السيئة والبطالة التي يعاني منها سكان العالم العربي والتي قد تدفع بهم لارتكاب الجرائم بشكل عام.
والعنف دائما يمارسه قوي على ضعيف وبما أن المرأة العربية في المخيال الثقافي الذكوري هي دائما الأضعف فينظر إليها دوما كضحية، ككائن ضعيف، يمكن توجيه العنف نحوه، يمكن قتله، يمكن استباحة موقعه واستباحته ككيان وطبعا هذا ما يفسر استمرار وتنامي جرائم العنف الموجهة من الرجال ضد النساء.
ما الذي جعل الجرائم الأخيرة تلقى كل هذا الصدى؟
صدى الجرائم الأخيرة يرتبط بالجذر الأساسي للمشكلة وهو الوعي الجندري السائد في المجتمعات العربية والذي غالبا ما يهمش المرأة ولصالح الذكور لأن المجتمع ذكوري. ولكن هناك عنصران مهمان أعطيا للجرائم الأخيرة التي انتشرت صدى من نوع خاص، العنصر الأول شكل الجريمة، حيث أتت عمليات القتل علنية سواء بالسكاكين أو بإطلاق الرصاص، على مرأى ومشهد من كل الناس، هذا العامل الأول الهام.
والعامل الثاني هو أن الذين ارتكبوا هذه الجرائم يقولون إن دافعهم للجريمة هو “الحب” وهذا الأمر يطرح أسئلة كثيرة وصعبة، فإذا كانت قوة الحب تبيح القتل فإن ذلك يدل على وجود بعد مرضي، فهي حتما جرائم مرضية، حتما، والبعد المرضي الأخطر هو الموجود في التصور الثقافي للمرأة وهو ما يجب الوقوف عليه ومعالجته.
إذا حوادث القتل الأخيرة والسياق العام لوضع المرأة في المجتمعات العربية تشير إلى وضع مرضي عميق، حيث هناك وضع لا أخلاقي في هذه المجتمعات يجب معالجته على نحو عميق وشامل. غالبا ما ينظر إلى المرأة كإنسانة من درجة ثانية، لهذا نشهد العديد من جرائم الشرف في هذه المجتمعات التي تهمش وجود المرأة وتهمش أمنها الإنساني وتجعلها من دون أدنى شك تعيش شكلا من أشكال المواطنة المخطوفة، أقول مخطوفة من هذه الأنظمة الفكرية التي مازالت سائدة في مجتمعاتنا العربية.
ما هو تأثير هذه الجرائم على باقي النساء في العالم العربي؟
من المؤكد أن مثل هذه الحوادث تهز المشاعر الإنسانية لأي إنسان –لأي كان- إن كان رجلا أو امرأة، لكن لدى النساء يكون تأثيرها بالغا وأكثر عمقا، ومما لا شك فيه أنها تطرح لديهن مسألة الأمان الاجتماعي والأمان النفسي وسلام الحياة، وهذا الأمر يكون بطبيعة الحال للنساء ولغيرهن، ولكن في ذروة الانفعال بما يجري أو متابعة تداعياته وأسئلته عند النساء تحديدا وعند عموم المجتمعات العربية، علينا أن نسأل أيضا، إثر ما حدث لهؤلاء الضحايا اللاتي ضجت بهن وسائل الإعلام في الفترة الماضية، عن أولئك الضحايا غير المرئيات، (اللاتي لم نسمع بقصصهن)، اللاتي لم يصورهن أحد ولم يسمع بهن أحد، بل تتواطأ الكثير من المجتمعات والجماعات على طمس الجرائم المتعلقة بهن طبعا بحجة ما يعرف بثقافة العيب أو بشرف العائلة وغيرها من القيم المتوارثة التي تجعل هناك العديد من الضحايا لجرائم غير مرئية.
وضع المرأة في المجتمعات العربية وصورتها وكيفية التعامل معها، مما لا شك فيه، يطرح إشكاليات معقدة تعرقل أي نهوض للمجتمعات العربية، أي إمكانية للرقي، لربما المعضلة الأساس أن لا أحدا يستخلص العبرة والدروس من كل هذه الحوادث، ولذلك فهي تتراكم ومن هنا تأتي أهمية الوعي، الوعي بالتكامل بين الجنسين بين الرجل والمرأة في المجتمعات العربية.
لا أستطيع القول أنه سيكون تأثير هذه الحادثة متشابه لدى جميع النساء في العالم العربي، فهناك بعض النساء هن أصلا يتعرضن إلى أشكال من العنف وإلى أشكال من الممارسة الاستعلائية والممارسة التهميشية، إذا لربما سيكن أكثر ضعفا وأكثر رضوخا وأكثر استسلاما لمن يمارس عليهن هذه السلوكيات. في حين أنه في المقابل وعلى مستوى الحركات النسوية في العالم العربي والنساء الرائدات والنساء المناضلات في مواضيع حقوق المرأة لابد أن هذه الجرائم ستشكل لهن دافعا كي يتحركن أكثر لتحصيل الحقوق المخطوفة للمرأة العربية التي لا تعترف بها القوانين العربية أيضا، على أمل أن تتمكن من تأمين الحد المقبول لشروط مواطنة النساء، وعلى أمل أيضا أن تتغير المجتمعات العربية باتجاه الإيمان أكثر بالعدالة الجندرية بين الجنسين.
لابد من عملية تغيير ثقافي كاملة وشاملة وهذا الأمر نعلم جيدا أنه يتطلب سنوات طويلة ولكنه أمر لا بد منه لأننا لا يمكن أن نستمر في هذا الوضع المتفلت إلى حد كبير والذي يؤدي إلى تنامي الجرائم. وكما ذكرت هذه الجرائم هي فقط الجرائم المرئية لكن هناك مئات وربما آلاف الجرائم غير المرئية التي تجري في العالم الرقمي أو في العالم الواقعي والتي تحول النساء العربيات إلى ضحايا.
Discussion about this post