يبدو المشهد العام متشائماً تجاه حكومة ليز تراس وسياساتها الاقتصادية الداخلية في بريطانيا، بعد شهر أوّل من حكم وصفت أكثر من جهة نتائجه بأنها “كارثية”.
بعد حوالى شهر واحد، من تسلم ليز تراس رئاسة الوزراء في المملكة المتحدة من خلفها بوريس جونسون، يبدو أنّ رئيسة الحكومة الجديدة تسلك بسياساتها الداخلية والخارجية، مساراً بدأ البعض يرى أنّ نتائجه لن تكون بعيدة عما حصل مع سلفها، لا بل أسوأ.
فمنذ تسلمها الرئاسة في 6 أيلول/سبتمبر الفائت كـ”رئيسة إنقاذية” يتوقّع منها أن تقدّم نتائج عملية “علاجية” لبلد يعاني من تهديد أزمات سياسية واقتصادية، ولحزبها “المحافظين” الذي يخشى من تبعات مشاكل فترة جونسون وفضائحه، أعلنت ليز تراس خلال شهر عن سلسلة من القرارات والخطط “المفاجئة” المرتبطة بسياساتها الداخلية والخارجية، والتي أدّت إلى موجة اعتراضات شعبية وسياسية رسمية واسعة، حتى ضمن أعضاء حزب المحافظين.
سياسات تراس تقلق المحافظين قبل غيرهم
منذ ترشحها لرئاسة الحزب وخوضها السباق ضد المرشح الآخر ريتشي سوناك، لم تحز تراس على أكثرية أصوات أعضاء البرلمان المحافظين بعكس منافسها، وصولاً إلى الجولة الأخيرة التي انقلبت فيها الأمور بعد أن صبّت الجمعية العامة للحزب من معارضي سوناك أصواتهم لصالحها، فنالت 57% مقابل 43% لسوناك.
وجاء مسار تراس نحو الرئاسة مختلفاً بشكل كبير عن مسار سلفها جونسون، الذي حاز على أغلبية الأصوات خلال الجولات الخمس وبفارق كبير عن منافسه، ونال 67% من أصوات الجمعية العامة، وهو ما وجد فيه محللون مؤشراً على أنّ شخصية تراس وحضورها السياسي “لا يؤهلها لقيادة الحزب بشكل فعال”، كما أنّ رأي السياسيين وأصحاب الخبرة المحافظين فيها “لا يدعو للثقة”.
وبحسب مقال في “سي إن إن” – لندن، ينقسم حزب المحافظين حالياً “بشكل حادّ بسبب تراس، فمنذ وصولها إلى الرئاسة وأرقام استطلاعات الرأي حول شعبية الحزب تتهاوى دون الأرقام التي سجّلتها استطلاعات فترة الفضائح المرتبطة بجونسون وحفلات الحزب التي سبقت استقالته”.
ويخشى أعضاء البرلمان المحافظون المعارضون لتراس من أنّ اجتماع التخفيضات الضريبية إلى جانب الإنفاق العام الضخم لمساعدة الناس على التعامل مع فواتير الطاقة، وارتفاع التضخم، وارتفاع أسعار الفائدة، وانخفاض قيمة الجنيه، هي عوامل قد تجعل الفوز في الانتخابات العامة المقبلة أمراً مستحيلاً.
إقرأ أيضاً: بريطانيا أمام خطر انتكاسة اقتصادية أسوأ من أزمة عام 2008
بينما يخشى أنصارها الذين يدعمون التخفيضات الضريبية من أنّ “الانتقادات الحادة التي تعرّضت لها تراس ووصف بداية فترتها الرئاسية بأنها كارثية قد تكون وصمة لمسيرتها السياسية لن تتعافى منها أبداً”.
خطة اقتصادية “مبهمة” وذات تبعات “كارثية”
وفي مقال في “فايننشال تايمز”، ترى الكاتبة هيلين توماس أنّ “تراس شخّصت بشكل صحيح أنّ المملكة المتحدة لديها مشكلة نموّ اقتصادي”، ولكنّها اعتبرت أنّ “وصفتها لاقتصاد أكبر يبدو أنها تضع “مهووسي الأرباح الفردية” وفريقاً من حزب المحافظين في جهة واحدة ضدّ كلّ المعارضة السياسية ووسائل الإعلام والنقابات المهنية والعمالية، والبيئيين، ومجتمعات الأطراف، وسكان شمال لندن، ومقدمي البودكاست، وأيّ شخص آخر تقريباً”.
وبحسب مقال نشره موقع “ذا كونفرسيشن”، تؤمن ليز تراس في عقيدتها الاقتصادية بأهمية تحقيق مزيد من النمو للاقتصاد البريطاني، وبضرورة هذا النمو لرفع مستوى المعيشة والرواتب وتخفيض الديون وجذب الاستثمارات وانقاذ الاقتصاد من الركود، لكنّ النموّ الإضافي يحمل معه دائماً مخاطر أبرزها مزيد من التضخم ما سيفاقم مشاكل السكان، ويحتاج إلى فترة زمنية متوسطة ليقوم السوق بتعديل نفسه بشكل طبيعي في حال كان النمو ثابتاً والتضخم في مستوياته المقبولة.
إقرأ أيضاً: لندن تسعى لتهدئة الأسواق المضطربة على خلفية مشروع الموازنة
وبعد عرض تراس خطتها الاقتصادية في آخر أسبوع من أيلول/الفائت، والتي تقوم على ثلاثة عناصر أبرزها تخفيض الضرائب بشكل كبير وغير متناسب مع حجم الدخل السنوي، ورفع الفوائد على القروض، كان ردّ فعل الأسواق المالية سيئاً على ما بات يعرف بـ”الميزانية المصغرة” للمستشار المالي لتراس كواسي كوارتنج.
وتفاقمت المشكلة بشكل أكبر مع إحجام تراس وكوارتنج عن تقديم تفاصيل حول كيفية التعويض عن أموال الضرائب التي ستفقد، مما أدخل أسواق البلاد المالية في دوامة من التكهنات والمخاوف أدّت إلى تسجيل الجنيه انهياراً تاريخياً مقابل الدولار الأميركي.
إقرأ أيضاً: تراس: كان علينا الإعداد للخطة الاقتصادية بشكل أفضل
وبحسب موقع “بوليتيكو”، فقد جاءت “الميزانية المصغرة المزعومة في وقت هشّ بشكل خاص للاقتصاد البريطاني، بسبب ارتفاع التضخم ومحاولات بنك إنكلترا إنهاء سياسة شراء كميات هائلة من الدين الحكومي، والتي هدفت في الأصل لمحاولة تحقيق الاستقرار في الاقتصاد في في أعقاب الأزمة المالية لعام 2008”.
وتريد تراس تعويض نحو 50 مليار جنيه إسترليني من الخسائر المتوقعة بحلول عام 2027 بسبب خطتها الاقتصادية عبر الاقتراض بكميات كبيرة، على أمل أن يؤدي ذلك إلى تحريك الدورة الاقتصادية في البلاد بشكل علاجيّ يؤدي إلى مواجهة الركود المتوقع.
فيما أكّدت دراسة أعدّها موقع “بي بي سي” أنّ أثر هذه الخطة على المدى القريب على جيوب الأشخاص والأسر الأقل دخلاً، كمن يتقاضى 20 ألف جنيه سنوياً، سيكون توفير نحو 160 جنيه سنوياً، بينما سيوفّر أصحاب الدخل المرتفع كمن يتقاضى 200 ألف جنيه سنوياً، نحو 5200 جنيه سنوياً، وهذا ما شكّل سبباً للغضب الشعبي والنقابي الكبير على سياسات تراس الضريبية.
وحتى الآن، يبدو المشهد العام متشائماً تجاه حكومة تراس وسياساتها الاقتصادية الداخلية، التي يصفها محللون بأنها “كارثية”، وتتصدر صحيفة “ذا غارديان” البريطانية مشهد التشاؤم، فيسأل مقال: “كم سيمهل المحافظون ليز تراس؟”، بينما يشير مقال آخر إلى أنّ تراس “تقود حزباً لا يثق بها، بدون أن تقدّم أيّ خطوات رابحة أو إنجازات، نحو نهاية اللعبة”، وتتحدث شيلا كروس في مقال أنّ الشعب البريطاني “لا يعقد آمالاً كبيرة على تراس أصلاً”، فيما رأى مقال على موقع “سي إن إن” أنّ بريطانيا “تدخل بسبب تراس في أزمة اقتصادية صنعتها بنفسها”.
وفي ظلّ هذا المشهد الداخلي المأزوم اقتصادياً، تواجه تراس كذلك أزمات مرتقبة أخرى على لائحة المشاكل، أبرزها رغبة سكان اسكتلندا بإجراء استفتاء عام للاستقلال عن بريطانيا، ورغبة أيرلندا الشمالية بالاحتفاظ بتمايز عن بريطانيا في علاقاتها بالاتحاد الأوروبي، تابعةً في ذلك سياسات جمهورية أيرلندا، والتي سبق أن أعلنت تراس أنها “لا تنوي السماح باستمرارها”.
وكذلك التخلص من تبعات “بريكست” وتحقيق انفصال تام عن الاتحاد الأوروبي تطمح إليه تراس، يثير مخاوف لدى العديد من النخب البريطانية من اتجاه البلاد نحو الانعزال الثقافي والمجتمعي التام عن محيطها الأوروبي.
سياسات خارجية أكثر فوضوية
بطبيعة الحال، فإنّ الشؤون الخارجية للملكة المتحدة هي ما يفترض أن يكون ساحة تراس المفضّلة للعب أوراقها القوية، فالأخيرة تأتي من خلفية تملك أكثر من عقد من الزمن في العمل كوزيرة لشؤون التجارة الدولية، ثمّ عملت في حكومة بوريس جونسون الأخيرة منذ عام 2021 كوزيرة للخارجية البريطانية، لكنّ يرى محللون أنّ “عملها مع بوريس جونسون، الذي يعشق خطف الأضواء، جعلها عاجزة خلال الفترة الماضية عن استغلال أي فرصة للعب دور قيادي أو الظهور بمظهر بارز في موازاة جونسون”.
وبحسب مقال في “فورين بوليسي”، تتجه تراس نحو التعويض عن الفوضى التي سببتها سياساتها على المستوى الداخلي باعتماد سياسات خارجية “لاستعراض عضلات بريطانيا دولياً”، وللفت الأنظار عن المشاكل الداخلية التي تعاني منها البلاد على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، التي لا يبدو أنّ حلّها سيكون بيد تراس في أيّ وقت قريب.
الصين “تهديد”
ويرى مقال أعدّته “مؤسسة لوي للدراسات”، أنّه يمكن من هنا تتبع منشأ سياسات تراس الخارجية باعتبارها استمراراً لسياسات جونسون، أو على الأقل تدور في فلكها، لا سيما وأنها لجأت لتعيين شخصية تعتبر “خفيفة الوزن” نسبياً في السياسة الخارجية هي جيمس كليفرلي كوزيرة للخارجية، مما قد يشير إلى أنّ تراس تريد أن تعطي لنفسها المزيد من الحرية للعمل في مجال الشؤون الخارجية للملكة والتحكم بها.
وبحسب ما يمكن تتبعه من وثيقة الصيف التي أصدرها حزب المحافظين، والتي تعبّر بشكل كبير عن توجهات الحزب الذي تقوده الآن تراس في ما يخصّ السياسات الخارجية لبريطانيا، تأمل رئيسة الوزراء الجديدة في اتخاذ مواقف “أكثر حزماً وتشدداً بشأن الصين”، وبدا ذلك واضحاً اليوم الأربعاء من خلال تصريحات تراس حول اتجاهها لتصنيف الصين كتهديد للأمن القومي للمملكة المتحدة.
ويظهر من هذا الموقف المتشدّد تجاه بكين والمتقدّم حتى على مواقف واشنطن الحادة الأخيرة، بالرغم من أنّ الصين لا تشكّل منافساً استرتيجياً فعلياً لبريطانيا كما قد تكون بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية، أنّ تراس، التي يصفها مقال “فورين بوليسي” بأنها “أميركية أكثر من الاميركيين أنفسهم”، ترغب في مكان ما بالتماهي مع سياسات الولايات المتحدة على المستوى الدولي، لتثبيت نفسها على الساحة الدولية ضمن سياسة تضمن لها أن تبقى دائماً خلف البيت الأبيض في تحمّل تبعات أي خيار سياسي خارجي، وأمامه في قطف الثمار على مستوى إثبات قوتها وأدائها على المستوى الدولي.
وفي هذا السياق، وبعد إعلان تراس، وفي توقيت مستغرب، عزمها على تصنيف الصين رسمياً كـ”تهديد لبريطانيا”، أعلن البيت الأبيض في وقت لاحق اليوم الأربعاء عن اعتماده استراتيجية واشنطن الجديدة للأمن القومي، والتي ترى أنّ “الصين هي التحدي الجيوسياسي الأكبر”، ولكنه أكّد أنّ “الاستراتيجية الأميركية الجديدة تسعى للحفاظ على السلام والأمن عبر مضيق تايوان ولا تزال ملتزمة بسياسة الصين واحدة”.
القطيعة مع موسكو
كما عبّرت تراس أكثر من مرة أنّها ترغب، متماهية مع إرادة واشنطن، في الحفاظ على الدعم العسكري المباشر لأوكرانيا وتعزيزه، لا سيما بعدما تعهّدت بزيادة الإنفاق الدفاعي من مستواه الحالي البالغ 2.1% من الناتج المحلي الإجمالي إلى 3% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2030.
كما تعمّدت الحكومة البريطانية اعتماد موقف حادّ في القطيعة مع موسكو، وهو موقف لم تتخذه دول أخرى كفرنسا وحتى ألمانيا حتى الآن، ويصف بعض الناقدين البريطانيين هذا التشدد بأن منطلقاته “دوغمائية، لأنّه من غير المنطقي عدم الحفاظ على خطّ رجعة مع موسكو”، كما يؤكّد البعض أنّ التماهي مع الموقف الأميركي يأتي على حساب الاستقرار الاقتصادي في بريطانيا، التي تعاني أكثر بكثير من واشنطن من تبعات العقوبات على موسكو.
وشكّل موقف تراس بكونها تعارض حفاظ منطقة أيرلندا الشمالية (التابعة لبريطانيا) والتي تربط جمهورية أيرلندا بالاتحاد الأوروبي، على سياسات متمايزة عن لندن في ما يخص بريكست، تصعيداً غير بسيط تجاه الاتحاد الأوروبي،لا سيما عندما أعلنت أنها تفكر في تفعيل “المادة 16” التي يرى البعض انها ستشعل حرباً تجارية مع الاتحاد الأوروبي، لا يمكن أن تكون منطقية في ظلّ الضغط الاقتصادي الكبير الذي تعاني منه القارة اليوم، لا سيما عقب احتدام النزاع مع موسكو.
تراس: أنا صهيونية كبيرة
كذلك، شكّل تصريح تراس بأنّها “صهيونية كبيرة” وأنّ “المملكة المتحدة ستدافع عن “إسرائيل” ولن تسمح لإيران بالحصول على أسلحة نووية”، وأنّ “إسرائيل وبريطانيا تواجهان تهديدات من أنظمة استبدادية لا تؤمن بالحرية أو الديمقراطية”، تصعيداً تجاه المنطقة العربية، لا سيما بلحاظ مواقف أكثر براغماتية اعتمدتها الحكومات السابقة تجاه القضية الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي، فحتى بوريس جونسون عارض أنشطة “إسرائيل” الاستيطانية في الضفة والقدس حين كان وزير خارجية بريطانيا، وشدّد على “ضرورة ضبط النفس وأهمية اعتماد حلّ الدولتين” في فلسطين حين كان رئيس حكومة.
وفي الواقع، تشكّل جميع هذه المؤشرات تأييداً كبيراً لمن يتّهم تراس بأنها تسعى، عبر اعتماد “سياسة الصقور” في الشأن الدولي، لتصدير أزماتها الداخلية إلى الخارج، وإشغال البلاد بقضايا خارج حدودها، في محاولة للحفاظ على تأييد شعبي يسمح بإعادة فوز الحزب المحافظ في انتخابات العام 2025، والتي أعلنت اليوم فقط رئيسة الوزراء الجديدة أنّه “لا حاجة لتقريب موعدها”، بعدما تصاعدت أصوات داخل البلاد تدعو لانتخابات مبكّرة بعد “النتائج الكارثية” للأسابيع الأولى لتولي تراس منصبها.
Discussion about this post