اعتمدت فيومي ضمن معرضها المقام في صالة تجليات على التجريد التعبيري، بما فيه من توازنات دقيقة بين خطوط رسمها التي تبدو عشوائية لكنها مدروسة باتقان، وتناغماتها اللونية البليغة.
يمنحك التجول بين لوحات معرض “ورق” للفنانة السورية أسماء فيومي فرصة للاطلاع على ملامح تجربتها الفريدة الممتدة منذ أواسط ستينيات القرن الماضي، خاصةً مع خامة رهيفة تفرض على الفنان أن يستنفر أقصى درجات عفويته، وتلقائيته، لتجسيد أفكاره المتصادمة مع صُدَفِها، وترتيب دراميتها في فضاءات الخط واللون.
اعتمدت فيومي (1943) ضمن معرضها المقام في صالة تجليات على التجريد التعبيري، بما فيه من توازنات دقيقة بين خطوط رسمها التي تبدو عشوائية لكنها مدروسة باتقان، وتناغماتها اللونية البليغة. خطوطها وألوانها تُشكِّلان في اندغامها مع فكرة كل عمل سرداً بصرياً حيوياً، لا سيما مع الدفق العاطفي وكثافة المشاعر وطزاجة الأحاسيس التي تسكبها على الورق بأمانة اللاوعي، لكن مع حرصها الشديد على جماليات التكوين، والأبعاد الضوئية بشفافياتها، توهُّجها وتعتيمها، انسيالاتها وسكونها، لنكون أمام تجسيد لأساطير فيومي اليومية بكل ما تحمله من بهاء وعمق وخصوصية.
تكتب الفنانة أسماء بقلم رصاص على ورقة بسيطة أمام مدخل الصالة: “غالباً ما واكبت لوحاتي الحياة، وما يحدث حولي من أحداث واحتجاجات. وغالباً ما رسمت هواجسي وعواطفي وروح الأشياء. رسمت دمشق والأطفال والأمهات بحالات السعادة وغمرة العواطف. الأطفال مخلوقات رائعة.. الطفل المولود هو غاية في العذوبة والرقة، بوقفته الأولى المرتبكة القابلة للسقوط، وارتعاشه أصابعه الصغيرة”.
هذه الكلمات، بقدر ما هي تعريفية بالمعرض، وبسيطة في الظاهر، إلا أنها تتضمن في ثناياها آلية تفكير، ومنهج عمل اعتمدته فيومي في اشتغالاتها الفنية لمدة تزيد عن النصف قرن، فكأنها في حديثها عن الأطفال وارتباكاتهم وارتعاشات أصابعهم تتحدث عن نفسها، وحساسيتها وفطرتها وعفويتها الأخّاذة، وهو ما تدلّ عليه أعمالها المعروضة التي تكثر فيها وجوه الأطفال والنساء والعديد من الطيور والأسماك والحيوانات الأليفة والكائنات الأسطورية.
توليفة من المَشاهد التي يُمكِن وصفها بالـ”حُلمية”، بكل ما تعنيه من أسر للزمن المديد في مساحة صغيرة، مع انشغال بالمعنى وتأصيله تشكيلياً، واهتمام بالرموز، فها هي الأم تُرضع وليدها وعلى رأسها شمس في إحدى اللوحات، وفي عمل آخر أنثى أسطورية بجناحين وقرنين مع سيف مُدمَّى يشبه الوردة. وأيضاً لوحة تتضمن عناق حبيبين تلفُّهما أسماك وطيور وحصان وأغصان نبات، وجميعهم يقفون في مواجهة شمس حائرة، ثم إناث مُسَربلات بالنّوم مع تآلف جميل مع عنزات وحمائم وملامح مدينة ساكنة خلفهم.
عينان واسعتان فائقتا التعبير، وفمٌ دقيق، وأطراف متلاشية استبدلتها فيومي بأسماك لإحدى كائناتها الرهيفات، وفي لوحات أخرى تنطوي يدا الأنثى على بعضهما وتُقَيَّدان بأسلاك شائكة، وتُنذر العينين بحزن وقهر عارم، وكأننا في أسر مُضاعف، موضوع الأسر ثم أسر تصويره في زمن مُقيَّد.
وفي المعرض أيضاً طفلة ترتدي ثياباً بيضاء وتحمل بيدها ثلاث وردات بيضاء على خلفية حمراء، وأطفال يَحْبُون مع حيواناتهم الأليفة، وآخرون يتأملون الأسماك والبطات على حافة النهر، وتحط على أكتافهم الحمامات، وفي عمل آخر هناك حصان يقف على قائمتيه الخلفيتين أمام نافورة ماء وبيديه سيف وترس…
وتستذكر فيومي في 4 لوحات طولانية، اشتغالاتها كمهندسة ديكور في بعض الأعمال الدرامية التلفزيونية، صانعةً تتراتٍ تلك المسلسلات بصبغة تشكيلية خاصةً، تضع فيها اسم مؤلف العمل ومخرجه وفنّييه مع بعض الانطباعات عنهم، من مثل “توفيق العشا أحلى من كلارك جيبل في هوليوود”، “سلوى سعيد وجه حلو حلو متل قرص العسل”، “رضوان عقيلي أبوس روحك”.
في تصريح خاص بــ “الميادين الثقافية” قالت الفيومي عن اشتغالها على خامة الورق: “عند اعتماد تقنية الألوان الزيتية على القماش، بإمكانك أن تعيد الرسم، وأن تصنع طبقات، وتفكر، وربما تعود إلى اللوحة في اليوم الثاني، وقد تذهب الفكرة وتأتي غيرها، أما في التعاطي مع الورق، فتسكب عاطفتك مرة واحدة وانتهى الموضوع، وإما أن تكون اللوحة جميلة، خاصةً إن كانت مفعمة بمشاعرك وأفكارك، أو تكون العكس فترميها بسهولة، لأنها من ورق. وبالنسبة لي، الورق يحبني جداً وأنا أحبه أيضاً”.
وعن الأسطورة والدراما في لوحاتها أوضحت فيومي أنها قارئة وتحب الميثولوجيا جداً، وتقرأها حتى الآن، إلى جانب قراءاتها الحالية عن الصوفية، وبحسب تعبيرها فإن “القراءات دائماً تمد الفنان بأفكار جديدة وأشياء جديدة وبقلب جديد”، مستذكرةً أنها عملت في التلفزيون لــ 34 سنةً، وكانت تخشى أن يأخذها العمل فيه عن شغفها بالرسم، خاصةً أنه “يستهلكك مثل الجريدة اليومية” كما تقول، لذلك كانت تجلس كل مساء إلى طاولتها وأحبارها وألوانها، وتشتغل لوحة قبل أن تنام، ومعظم أعمال هذا المعرض هي من تلك الاشتغالات التي بدأتها منذ ستينيات القرن الماضي.
Discussion about this post