نشأت في عائلة من الطبقة العاملة، تنتمي سياسياً إلى اليسار الفرنسي، وعُرِفت بتأييدها للقضية الفلسطينية. ماذا تعرفون عن آني إرنو، الفائزة بجائزة “نوبل للأدب” هذا العام.
بسبب “الشجاعة والدقّة في المعالجة، اللتين تكشف من خلالهما الجذور والاغتراب والقيود الجماعية للذاكرة الشخصية”، فازت الروائية الفرنسية آني إرنو بجائزة “نوبل للآداب” هذا العام، وفقاً لبيان الأكاديمية السويدية في ستوكهولم، وهي الجهة المانحة للجائزة.
خلال مسيرتها الأدبية التي بدأتها في العام 1974، كرّست إرنو نفسها للتنقيب في ذاكرتها وحياتها الشخصية من أجل الكتابة، وارتكزت أعمالها على الرواية السيَرية الذاتية، على الرغم من أنّها ترفض وصفها على هذا النحو، وهو نوع من الكتابة السردية يتمركز حول تفاصيل حياة الكاتب، وتجاربه الخاصة والحميمة.
تحلّلت كتابة إرنو إذاً من التخييل الروائي، واستندت إلى الدقة والفحص والتشريح لسيرتها الذاتية، والفصل بين زمان الكتابة ومكانها في الزمن الحاضر، وبين الماضي الشخصي.
تلخّص الناقدة رافاييل ليريس تجربة إرنو، في مقالٍ لها في جريدة “لوموند” الفرنسية، بقولها إنَّ “أعمالها مثيرةٌ للإعجاب من حيث تناسقها، ومن حيث أنّ الكتابة ضرورة ملحّة لا يمكن أن تترك الكاتبة وشأنها، ساعيةً جملةً تلو جملة، وكتاباً بعد كتاب، لمحاولة توضيح الواقع، للوصول إلى فهم طبيعة الوجود والتعبير عنه، وهو ما يتعذّر الوصول إليه بأيّة طريقةٍ أخرى غير الأدب، واجتراح منطقة بين الأدب والسوسيولوجيا والتاريخ”.
رواياتٌ سبق أن حدثت في الواقع
وُلِدت آني إرنو سنة 1940 في بلدةٍ صغيرةٍ تدعى “إيفتو”، تقع ضمن منطقة “نورماندي”، شمالي غربي فرنسا. كان أبواها من الطبقة العاملة، تمكّنا بعد عملهما في المصانع من الإدخار وامتلاك بقالة ومقهى. درست الشابة الطموحة في جامعتَي “رون” و”برويكس”، وعملت كمعلّمة مدرسة، قبل أن تتخصَّص في الأدب الحديث في أوائل السبعينيات، وتنتقل إلى التدريس الجامعي.
تقترن أعمال إرنو كلّها بسيرتها الشخصية، كما أسلفنا، إذ اختارت من تجاربها الذاتية مادّة لعملها الإبداعي. لكنَّ هذا لا يعني أنَّ أعمالها انحصرت في التنقيب أو النظر إلى الداخل، إنما اهتمّت بمقاربة الداخل مع الخارج، إذ استطاعت أن تقدّم رؤيتها أو وجهة نظرها حول العالم، بكلّ تقلّباته وعلى مختلف الأصعدة، عبر التحديق في زمنها الخاص، الذي يُعد بمثابة البطل لأغلب أعمالها.
صرّحت إرنو في أكثر من مقابلةٍ صحفيةٍ بكرهها لمصطلح كتب السيرة الذاتية، الذي تَسِم الصحافة به أعمالها، وتقول إنّ ما يفعله كُتّاب السيرة الذاتية هو تقديم أنفسهم على خلفية أحداث العالم المحيط بهم، على اعتبار أنهم الشخصية الرئيسية، وأنَّ العالم هو مكانهم. فيما ترى أنّها تعمل عكس هذا المفهوم، لا سيّما في روايتها “السنوات” (2008 – لم تترجم بعد إلى العربية)، التي يعدّها النقّاد أهمَّ ما كتبت.
استطاعت إرنو أن تقدّم رؤيتها أو وجهة نظرها حول العالم، بكلّ تقلّباته وعلى مختلف الأصعدة، عبر التحديق في زمنها الخاص، الذي يُعد بمثابة البطل لأغلب أعمالها.
تتنقّل إرنو في رواية “السنوات” بين صورٍ لها التُقطت بين عامَي 1941 و2006، وتمزج عبر هذه الرواية 60 سنةً من التاريخ الشخصي والجماعي في آنٍ واحدٍ. وبيّنت إرنو أنَّ هدفها من كتابة هذه الرواية، ومن الكتابة بشكلٍ عامٍّ، يتمثل بـ”محاولة إنقاذ شيء ما من الزمن الذي لن نكون فيه حين تختفي السنوات”.
تمزج إرنو إذاً بين السيرة الذاتية والسيرة الجماعية، عبر تقديم صورة للعالم وما يتغير فيه، واضعةً ذاتها موضع اختبار في هذه التغيرات، وهي تعتبر أنّ الزمن هو الشخصية الرئيسية في أعمالها، وليس الذات.
البُعد السياسي والخيانة الطبقية
تتميّز كتب إرنو، المترجَم عددٌ جيّدٌ نسبياً منها إلى اللغة العربية، كـ”الحدث” و”مذكرات فتاة” و”امرأة”، وأخيراً رواية “العار”، التي صدرت عن “منشورات الجمل” قبل أيام قليلة، بأنّها صغيرة الحجم وبسيطة السرد وبعيدة عن البلاغة والإنشاء.
تعاملت الكاتبة مع الكتابة منذ البداية باعتبارها أداةً سياسيةً، وقد عبّرت عن ذلك بالقول: “عندما كنت أتخيّل الكتابة في العشرين من عمري، كنت أتحدّث عن الكتابة الكفيلة بإنقاذ “العِرق” الذي أنتمي إليه. لقد كانت بالفعل شيئاً سياسياً، ولكن تمَّ إساءة فهمه، ونُظِرَ إليه نظرةً ساذجةً جداً”. وأضافت: “اعتقدتُ أنّه بمجرّد أن تكتب ابنة العمّال روايةً، مهما كانت، فسيُعتبَر الأمر فعلاً سياسياً. لم أكن أرى على الإطلاق أنَّ ذلك يعزّز التسلسل الهرمي الثقافي بطريقةٍ معينةٍ. بعد 10 سنوات، من خلال كتابة رواية “الخزائن الفارغة”، اتّخذت كتابتي وجهةً معاكسةً لتكشف عن كيفية مشاركة المؤسسة التعليمية في آليات الهيمنة”.
شعرت إرنو دائماً بالخيانة تجاه الطبقة الاجتماعية التي نشأت فيها، وعبّرت عن ذلك في روايتها “المكان” (1983)، التي صدرت ترجمتها العربية عن دار “شرقيات” المصرية، عن طريق أمينة رشيد وسيّد البحراوي، وهي تُعَدُّ تشريحاً لهذه “الخيانة الطبقية”، كما سمّتها إرنو.
تسير إرنو في هذا العمل بين قوّتي الذنب والعار، الناتجتين من ابتعادها عن طبقتها وانحرافها عن عالمها الأصلي، من خلال انتمائها لمثقفي الطبقة البرجوازية.
شعرت إرنو دائماً بالخيانة تجاه الطبقة الاجتماعية التي نشأت فيها، وعبّرت عن ذلك في روايتها “المكان”، التي كتبتها بعد موت أبيها.
خصَّصت الكاتبة مقدمةً للترجمة العربية لروايتها التي فازت بجائزة “رونودو”، اختتمتها بالقول إنّه “إذا كان ثمة تحررٌ عبر الكتابة فهو ليس في الكتابة ذاتها، بل في هذه مشاركتها مع أناسٍ مجهولين”. وتابعت أنّه “ليست وظيفة الكتابة، أو نتاجها، طمس جرحٍ أو علاجه، وإنّما إعطاؤه معنى وقيمة، وجعله لا يُنسى في النهاية”.
تحررت إرنو إذاً عبر الكتابة من “عار الخيانة” الذي عاشته لسنوات، إذ استعادت أباها في رواية “المكان”، وفعلت الأمر ذاته مع أمّها في كتابيها “لم أخرج من ليلي” و”امرأة”.
صدرت رواية “امرأة” في ترجمتين، الأولى في العام 1997 عن دار “شرقيات” بترجمة هدى حسين، والثانية في العام 2019 عن “منشورات الجمل”، بترجمة سحر ستالة، وتتناول إرنو فيها حياة والدتها، التي ماتت بعد إصابتها بمرض “الزهايمر”، وتعتمد في ذلك على جملٍ قصيرةٍ تخلو من التكلّف، قدّمت من خلالها “الحياة كما هي”، لا كما ينبغي أن تكون، وهو الأسلوب الجريء ذاته الذي اعتمدته في “المكان”.
فضّلت إرنو الكتابة المحايدة، الموضوعية، التي تبدو أشبه باستحضار، كما أنّها اعتمدت في أحيانٍ أخرى الكتابة التشريحية، كما هو الحال في روايتها “احتلال” (صدرت في العام 2011 عن “منشورات الجمل” بترجمة إسكندر حبش)، وهي رواية أقرب ما تكون إلى نمط دراسة الشخصية، والشخصية المدروسة هنا هي المرأة المجهولة التي دخلت بينها وبين حبيبها، فاستحوذت عليه، لتسيطر بذلك على تفكير الراوية في الليل والنهار، من دون انقطاع، كأنّها بذلك احتلّتها احتلالاً مزدوجاً، فقد أخذت منها حبيبها واحتلّت تفكيرها في محاولة منها لمعرفة هويتها.
فضّلت إرنو الكتابة المحايدة، الموضوعية، التي تبدو أشبه باستحضار، كما أنّها اعتمدت في أحيانٍ أخرى الكتابة التشريحية، التي تهتم فيها بدراسة الشخصية المعنية.
عبر 20 كتاباً إذاً، عملت إرنو الملتزمة بقضايا اليسار الفرنسي على هدم ثوابت المنظومة الأدبية في بلادها، وقواعد الكتابة الروائية وآلياتها، وفق عدّة رؤى اعتنقتها، من جملتها “أن نرى لكي نكتب يعني أن نرى بشكل مختلف”، أو “لطالما أردتُ أن تكون الكلمات كالحجارة، لكي يكون لها قوة الواقع”.
في كتابه “آني إرنو، الزمن والذاكرة”، (صادر عن منشورات “ستوك” في العام 2014)، يقول الناقد دومينيك فيارت: “في صميم اهتماماتها في العقود الأخيرة، نراها مهتمة بكل القضايا الاجتماعية الرئيسية، من الاختلاف الطبقي، مروراً بالتمييز الاجتماعي والثقافي، والمطالبات النسائية، والفئات والتيارات التي أبرزها الفن أو الفكر وجعلها تتصدر المشهد أخيراً، وحفرها في أسئلة الذاكرة والحياة اليومية، والميراث والبنوة”
السعي إلى العدالة في العالم
بعد فوزها بجائزة “نوبل”، هاجمت الصحافة الإسرائيلية إرنو لأنّها “من أشد المؤيدين لحركة مقاطعة إسرائيل، وسحب الاستثمارات منها وفرض عقوبات عليها”، وهو الأمر ذاته الذي قامت به شخصيات ومؤسسات داعمة لـ”إسرائيل”.
ثمة مواقف كثيرة اتخذتها إرنو دفاعاً عن القضايا العادلة، لا سيما القضية الفلسطينية، من جملتها توقيعها رسالةً في العام 2018 تعارض فيها التعاون الثقافي بين فرنسا و”إسرائيل”، ورسالةً أخرى تطالب فيها سلطات بلادها بالإفراج عن المناضل اللبناني جورج عبد الله، المعتقل في فرنسا منذ العام 1984، كما وقّعت إرنو كذلك دعوةً نُشِرت في مجلة “ميديا بارت” لمقاطعة مسابقة “الأغنية الأوروبية” التي أجريت في “تل أبيب”، وفي العام الماضي وقّعت رسالةً بعنوان “خطابٌ ضد الفصل العنصري”.
توجز آني إرنو مواقفها السياسية في مقابلة لها مع التلفزيون السويدي، بعد فوزها بـ”نوبل”، وصفت فيها فوزها بأنه “شرف عظيم جداً ومسؤولية كبيرة” أعطيت لها من أجل مواصلة الشهادة على “شكل من أشكال الإنصاف والعدالة في ما يتعلق بالعالم”.
Discussion about this post