*سماهر الخطيب
شهدت منطقة شرق المتوسِّط في السنوات الأخيرة تطوُّراتٍ مهمَّة، ترافقت مع تصاعد التنافس الإقليمي والدولي فيها، بشكل خاص مع تصدّر الحديث عن اكتشافات الغاز الطبيعي وإمكانيات استثمار هذه الإكتشافات كأجندات جديدة أضيفت إلى أجندة الأهتمام بالمنطقة، وهذا الاهتمام المتصاعد لا يعبِّر عن دوافع جيوسياسية فحسب، بل يترافق مع صعود البعد (الجيواقتصادي) على أجندة الفاعلين الإقليميين والدوليين، وتحوُّله إلى عامل مهمٍّ في تشكيل التقاربات والاصطفافات أو شرعنتها.
وقد اتضحت الدوافع الجيوسياسية للفاعلين الإقليميين وكذا الدوليين في منطقة شرق المتوسط خاصة مع بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا وعواقب تلك العملية التي انعكست على أوروبا واحتياجاته للغاز ومحاولات البحث عن بدائل للغاز الروسي الذي يغطي 40% من احتياجات الدول الأوروبية وسعي الولايات المتحدة الأميركية لسد تلك الفجوة وإيجاد البدائل من غازها المسال والذي يشكل عبئاً وليس بديلاً لأوروبا بسبب تكلفة نقله الباهظة ما دفع الجميع إلى تركيز أنظارهم وسياساتهم نحو منطقة شرق المتوسط سواء من خلال مكامن الطاقة “الغاز” والتي أثبتت الإكتشافات وجود العديد من الحقول الحاوية على مخزون مهم من الغاز أو من خلال طرق الإمداد والتي تختصر الكثير من الوقت والكلفة عبر المتوسط إلى أوروبا.
وليس حقل “كاريش” الذي تتحضر حكومة الاحتلال للبدء بالتنقيب فيه ببعيد عن تلك الدوافع الجيوسياسية الموجودة على رأس أجندة الفاعلين الدوليين وكذا الإقليميين ومن لديهم بعد جيواقتصادي ومصالح تجارية ترجمت بزيارة أميركية إلى المنطقة ، قابلتها زيارة روسية ليبدو أنّ ما بين قمة جدة وقمة طهران يتربع حقل كاريش بكل أهميته التي تنعكس على أوروبا بشكل عام وليس فقط عل كيان الاحتلال وما بعد بعد كاريش يسجل نقلة استراتيجية في صلب الصراعات الدولية والتي أخذت منحى الصراع على الطاقة.
بايدن وأجندته الخائبة
تؤشر زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن الأولى إلى المنطقة منذ توليه سدة الإدارة، إلى رغبة البيت الأبيض بحسم ثلاثة أمور، الأول هو حسم القضية النووية الإيرانية والثاني وضع نفط الخليج وغازه في خدمة السياسة الأميركية الهادفة لإلحاق الهزيمة بروسيا، والثالث أمن “إسرائيل” وإيجاد آلية لترسيم الحدود البحرية مع لبنان لوضع الغاز “الإسرائيلي” كبديل عن الروسي في أوروبا “مؤقتاً” ولا شك بأنّ هذه الدوافع هي في العقلية الأميركية تحقق بقاء الولايات المتحدة القوة الوحيدة المهيمنة على مقدرات العالم وشؤونه “الداخلية”.
بالتالي يتضح جلياً من جولة جو بايدن للمنطقة بأنه ووفق الأجندة التي كان يحملها في جعبته فإنه أراد إطلاق ثلاث طلقات “أخيرة” الأولى تتمثل بالجهود الديبلوماسية الرامية لإحياء الإتفاق النووي وهذا ما يوحي به “إعلان القدس” و”بيان جدّة” مع تفسيراتهما التي اعتبرها البعض تهديد غير مباشر لإيران وطمأنة لـ”إسرائيل” باعتبارهما نصّا على أن “الولايات المتحدة ستستخدم كل قوتها الوطنية لمنع إيران من إمتلاك سلاح نووي”.
ورغم تشديد اللهجة في البيانين السابقي الذكر إلا أنّ بايدن لم ينع المفاوضات، على اعتبار أنّ “شعرة معاوية” لم تقطع بعد والأمل بإحتمال التوصل إلى إتفاق ما يزال موجوداً رغم سخونة الأجواء وحدّتها السائدة إذ لا تزال قنوات الاتصال الخلفية ناشطة بين الجانبين والتي تشمل قطر وسلطنة عمان والوسيط الأوروبي أيضاً.
بالتالي فإنّ المصلحة الأميركية التي تقول بضرورة مواجهة روسيا فإنها تُعنى بتهدئة المنطقة وسط إمكانية العودة للمفاوضات وإقناع “إسرائيل” بعدم الذهاب إلى عمل عسكري ضد إيران.
أما سعي أميركا لتحقيق مصلحتها تلك فيتجلى بإغراءات دمج “إسرائيل” في المنطقة وتعزيز إتفاقات أبراهام “التطبيعية” والتي تُرجمت بإعلان السعودية فتح مجالها الجوي أمام كل الرحلات الجوية المدنية “الإسرائيلية” وكذا ترحيب “إسرائيل” بسيادة السعودية على جزيرتي تيران وصنافير، وتجدر الإشارة هنا إلى اعتبار هذه الأفق في العلاقات السعودية – “الإسرائيلية” تطور لافت على طاولة التطبيع “المقيتة” لتأكيد المصلحة الأميركية بالتهدئة في المنطقة بعد أن وجدت بأنّ “ناتو” عربي يضم “إسرائيل” هو إشعال للمنطقة خاصة بعد إعلان الإمارات رفض ذلك “الناتو”.
أما الملف الثاني الذي كان في جعبة بايدن يتلخص بإقناع دول الخليج بزيادة إنتاج النفط بهدف تخفيف أعباء الشتاء المقبل على حلفائه الأوروبيين، بعد أن أصبحت “الوحدة” عبر الأطلسي مهدّدة بالتجمّد في الصقيع الأوروبي دون الغاز الروسي والذي لم يهدد غيابه “الوحدة الناتوية” فحسب إنما إنقسام أوروبي داخل الإتحاد وانعكاسه على انقسام شعبي داخل دول الاتحاد وزعزعة لاستقرار حكومات الاتحاد بدأت تلوح مع استقالات رؤساء حكومات بريطانيا وإيطاليا وغيرها، إضافة لزعزعة الإستقرار داخل الولايات الأميركية نفسها، لتشكل زيارته إلى السعودية ممراً إلزامياً لإستقرار أسواق الطاقة الذي سينعكس على استقرار مستهلكيها وكبح جماح موجات التضخم غير المسبوقة في الولايات المتحدة وأوروبا.
ولإنّ النفط الخليجي غير كافٍ لتعويض الطاقة الروسية لأوروبا إضافة إلى أنه يحتاج إلى سنوات طويلة فإنّ الغاز “الإسرائيلي” يعتبر مكمّلاً لذاك الخليجي في سد الحاجة الأوروبية للطاقة، وهذا ما كان أيضاً ضمن أجندة بايدن والتي يترأس حقل “كاريش” قائمتها والتنقيب فيه يسهّل على الولايات المتحدة مهمة إيجاد بدائل للغاز الروسي. وهذا ما يفسّر تسريع الولايات المتحدة لملف ترسيم الحدود مع الدولة اللبنانية التي رفضت بفريقها التفاوضي تلك النقاط التفاوضية وبفريقها المقاوم أكدت بأن ثروتها خط أحمر.. ما يؤشر على أن حقيبة بايدن عادت فارغة وما حمله في جعبته عاد خالي الوفاض وسط تذمر “إسرائيلي” وتعنت “خليجي” وثبات “إيراني”..
بوتين وأجندته الواعدة
وما أن انتهت جولة بايدن بقمتيها حتى بدأت زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والتي توجت بقمة طهران الثلاثية وحملت عنوان سوريا للبحث في تطورات الوضع في هذا البلد بُعيد التهديدات التركية بعملية عسكرية في ريف حلب.
إنما يبدو توقيت القمة غير بعيد عن ارتباطها بالحرب الباردة القائمة ما بين روسيا وأميركا وبالتالي إقامة توازن مع جولة بايدن، ووأد الهدف الرابع من زيارة بايدن الذي أسلفت ذكره سابقاً المتمثل بـ”تحقق بقاء الولايات المتحدة القوة الوحيدة المهيمنة”.
ولإنّ الملفات الدولية باتت متشابكة مع بعضها البعض في العالم بأسره من شرقه حتى غربه وبالتالي لا يمكن فصل قمة جدة عن قمة طهران، حيث أرسلت الأخيرة رسالة مفادها أن هناك توازناً جديداً فرض في العالم على حساب الأحادية القطبية، وإذا ما كان هذا التوازن هو تعددية قطبية فإنّ طهران باتت جزءاً منها، أما الرسالة الأبرز فهي اصطفاف ضمن محورين الشرق والغرب، وبروز ظاهر لميلان ميزان القوى من الغرب باتجاه الشرق تجلى مع بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، والتهديدات الصينية للولايات المتحدة في تايوان، وارتفاع الأسهم الاقتصادية والسياسية لمنظمة “بريكس”، والرفض الخليجي للإملاءات الأميركية، واللجوء الهندي للصفقات التجارية مع روسيا، وإيجاد حلول للمشاكل الحدودية بين الهند والصين، ووقوف باكستان في وجه الإملاءات الأميركية “سبب إثارة ثورة مفتعلة ضدّ رئيس الوزراء الباكستاني” وغيرها الكثير من التجليات الدولية.
وفي لبنان تعلو درجة حرارة الحدود البحرية مع رفع سقف التهديدات اللبنانية التي ترجمتها قوى المقاومة وعلى لسان السيد حسن نصر الله بعدم المس بحقوقه من ثرواته، وأي محاولة للمس بحقوقه فإنه سيؤدي إلى حرب، فارضاً بذلك معادلة رعب استراتيجية عنوانها “ما بعد بعد كاريش”..
ما يمكن اعتباره مؤشراً واضحاً على العقبات التي ستعترض الخطط الاميركية “المصلحية” إذ أنّ أي حريق في المنطقة لن يصب في مصلحتها الرامية إلى خلق فرص تعويض مصادر الطاقة الروسية.
وبالتالي فإنّ الأميركي بات أمام خيارين أحلاهما مر، إما الرضوخ للشروط اللبنانية في مسعى لعدم تشتيت الإنتباه عن الجبهة الأوكرانية، وهذا ما يمكن أن يؤدي إلى غضب “إسرائيل” وبالتالي تحريك اللوبي اليهودي ضدّه في الولايات المتحدة، وهو بأمس الحاجة إليه الآن مع اقتراب الانتخابات النصفية ليبدو أنّ محاولة بايدن لضبط عقارب الساعة الأميركية “منتهية الصلاحية” وسط خياراته وسياساته المصلحية.
وليس مصادفة أن تأتي قمة طهران، في هذا التوقيت لتكون دليلاً على تشابك جديد في المصالح الروسية – الإيرانية في عالم ما بعد الحرب الروسية – الأوكرانية، ليسجل بوتين ضربة في المرمى الأميركي الناتوي مع خطواته المدروسة مسبقاً وتحالفاته المحددة الهدف والمعنونة بتبادل للمصالح وليس فرض المصلحة الفردية كنظيره الأميركي.. وهو ما يفسر اللقاء التركي الروسي في الملف السوري، ومن الممكن أن تكون ورقة “الأمن الغذائي في العالم” التي أعطاها بوتين لأردوغان عبر رعايته لتوقيع اتفاق تصدير الحبوب في اسطنبول مقابل صرف النظر عن العملية العسكرية في ريف حلب على أن تمتد هذه الصفقة لتشمل إنتشاراً للجيش السوري والقوات الروسية في المنطقة، إلا أنّه بإمكان واشنطن إفساد هذه الصفقة إذا أوعزت لحلفائها الأكراد السوريين بعدم التعاون مع دمشق وموسكو، ليبقى الخيار العسكري التركي قائماً إلى حين إيجاد آليات أكثر فعالية في هذه الصفقة تعوّض تركيا عما تريد تحصيله من سورية.
في المحصلة فإنّ قمة طهران أسقطت مفاعيل قمة جدة وسخونة “كاريش”، ورفع سقف المقاومة وفرضها لمعادلات جديدة مؤشر واضح على العقبات التي يمكن أن تعترض الخطط الاميركية – الإسرائيلية، وأيّ حرب في المنطقة لن تصب في المصلحة الأميركية، وسيزيد من خسارتها لمكانتها العالمية، لأنه سيهدد فرص تعويض مصادر الطاقة الروسية وبالتالي قلب السحر على الساحر، والعودة على بدء في الاستراتيجية الأميركية..
* سماهر الخطيب – كاتبة صحافية وباحثة في العلاقات الدولية والدبلوماسية
Discussion about this post