منذ الثامن من كانون الثاني 2020 دخلت المعادلات العسكرية والأمنية في منطقة الشرق الأوسط طوراً جديداً من الحسابات الجوهرية، واختلف ما كان قبل هذا التاريخ عمّا بعده في الحسابات الجيوستراتيجية، فقد شكّلت “عملية الشهيد سليماني”، التي نفذها حرس الثورة الإسلامية الإيرانية بتدمير قاعدة “عين الأسد” الجوية الأمريكية في العراق، منعطفاً وضع المنطقة برمّتها أمام توازنات مستجدّة فرضتها الصواريخ الباليستية بعد خمسة أيام على اغتيال قائد لواء القدس الحاج قاسم سليماني بقرار من إدارة دونالد ترامب.
فتحت ضربة “عين الأسد” أفقاً واسعاً في مروحة الصراع ضد الهيمنة الأمريكية – الإسرائيلية وأذرعها في المنطقة، فالتهديد الإيراني كان موجّهاً إلى كلّ “مصادر الأعمال العدوانية” من أي جهة أتت، و”لم تعد القواعد العسكرية الأميركية المنتشرة في أنحاء الشرق الأوسط أكثر عرضة للمخاطر فحسب، بل باتت البنى التحتية الحيويّة لشركاء أمريكا في المنطقة تحت هذا التهديد، وفي طليعتهم “إسرائيل” ومنشآتها النووية”، بحسب تعبير توماس فريدمان، وبذلك أدّت الضربة إلى فشل استراتيجي لسياسة “الضغوط القصوى” التي اتبعتها إدارة ترامب تجاه إيران، وأسقطت معها الضمانات الأمنية التي كانت عنواناً جوهرياً لإبقاء انتشار القواعد الأميركية في المنطقة، ومن جهة ثانية، أطلقت يد إيران في توسيع برنامجها النووي وفرض شروطها في المفاوضات اللاحقة في عهد إدارة جوزف بايدن.
الردّ الحاسم على عملية الاغتيال لا يشكّل وحده معالم هذه التوازنات، فـ”الصفعة القوية على وجه الولايات الأمريكية” بحسب تعبير آية الله العظمى الإمام السيد علي الخامنئي، كانت لها تردّدات شاملة وتأثيرات عميقة في تكوين “معادلة الاشتباك” الكبرى بأركانها التي تجسّدها قوى المحور من اليمن إلى فلسطين بكل اقتدار وقوة، ولهذا لم يأتِ عدم الردّ الأمريكي على الضربة الإيرانية ناتجاً عن إغلاق ملف، بل جاء بفعل تقييم استراتيجي أمريكي خلص إلى أن قواعد المواجهة اختلفت، فيما اعتبرت طهران من جانبها أن “العمل العسكري لا يكفي، والانتقام لسليماني قضية أخرى، وينبغي إنهاء الوجود الفاسد للولايات المتحدة في المنطقة”.
التهديد: مصطلح الإنجاز
تحوّل مصطلح “التهديد” إلى مفتاح صالح لتحقيق أي إنجاز متعلّق بمعادلة المواجهة مع أمريكا و”إسرائيل”، وفعل فعله في “تمريغ أنف أمريكا بالتراب” على الجبهة الإيرانية، وكسر الصلف الصهيوني على الجبهة اللبنانية، منذ انتصار العام 2006 وما قبله من محطات الهزائم الإسرائيلية حتى اليوم، وتمظهر هذا الإنجاز في المواجهة البحرية بعد حسمه في المواجهات البريّة. وللتذكير، فإن فتح هذه الجبهة ليس جديداً بل يعود بشكل أساسي إلى أكثر من عشرة أعوام، حين هدّد الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله في خطابه بالذكرى العاشرة للتحرير، بقصف “كل السفن العسكرية والمدنية والتجارية المتجهة الى الموانىء الاسرائيلية” في البحر المتوسط، في حال إقدام العدو على حصار الشاطىء اللبناني، مؤكداً أنه في “الحرب المقبلة سنواجه وننتصر فيها ونغيّر وجه المنطقة إن شاء الله”.
ومنذ ذلك التاريخ، لجمت تهديدات المقاومة، المترافقة مع فعل ميداني، الإمعان الإسرائيلي في العدوان السياسي والعسكري والأمني ضد لبنان، وصولاً إلى اليوم، حيث أدّت هذه “التهديدات” إلى توحيد الموقف اللبناني المدعوم بالمقاومة وفرضه على مستويات القرار الأمريكي والغربي والإسرائيلي، وبات هذا المصطلح واحداً من الأدبيات السياسية التي يستخدمها المحلّلون والمسؤولون الإسرائيليون في الحديث عن المفاوضات غير المباشرة المتعلّقة بتعيين الحدود البحرية وحقلي قانا وكاريش للطاقة، وقدرة لبنان في استثمار ثرواته البحرية؛ ويكاد يجمع أغلبهم على أن هذا الاتفاق كان “ناجماً عن تهديدات نصر الله”، وأن “لابيد خضع بشكل مخجل لتهديدات نصر الله”، وأنه “بفضل تهديدات حزب الله أبدت إسرائيل ليونة ولولا ذلك لكانت حقوق لبنان في البحر سُلبت”.
شيفرة سليماني
لم يكن “التهديد” لينجح لولا أنه لم يقترن بفعل، وعلى الرغم من كونه أداة مؤثرة في إطار الحرب النفسية إلا أن تراكم الإنجازات يخرج هذا “التهديد” من دائرة الاستهلاك الإعلامي، ويحوّله إلى أداة فعل يُبنى عليها في تشكيل عناصر المواجهة، وهذا ما يمكن تسميته بـ “شيفرة سليماني”. وعليه فإن ما حقّقته إيران ومقاومة لبنان حققته وتحقّقه المقاومة الفلسطينية في إطار الصراع مع الاحتلال، وهذا ما دفع حركة حماس مؤخراً إلى رفع مستوى المواجهة بالتهديد بأنها لن تسمح للعدو بـ”سرقة ثرواتنا الطبيعية”، في إشارة إلى حقول الغاز الواقعة في البحر الأبيض المتوسط قبالة شاطئ قطاع غزة، وأن “من حق الشعب الفلسطيني العيش بكرامة والاستفادة من ثرواته الطبيعية التي لن يتنازل عنها”.
قد يقال إن المقاومة الفلسطينية انطلقت في موقفها من فعل محاكاة للتهديدات الإيرانية واللبنانية. ولئن كان هذه القول واقعياً في الوصف، إلا أنه يستند أيضاً إلى تاريخ من الفعل والمبادرة والإنجازات، فكما فرضت المقاومة الإسلامية “تهديد” المسيّرات البحرية باستهداف حقول النفط المحتلّة، عملت المقاومة الفلسطينية طوال أعوام على تطوير سلاح المسيّرات منذ ما قبل العام 2014 وتمتلك مجموعة من الطائرات أبرزها: القسّام، أبابيل، شهاب، والزواري (نسبة للمهندس محمد الزواري الذي اغتاله الموساد في تونس عام 2016) وقامت بتنفيذ الكثير من عمليات الاستطلاع وقصف الأهداف الإسرائيلية، يضاف إلى ذلك ما يحكى عن امتلاك حركة حماس غواصات تقاد بالتحكّم عن بعد، وقادرة على حمل متفجرات تصل زنتها إلى 50 كيلوغراماً، مما يشكّل تهديداً فعلياً لاستهداف حقول النفط المحتلة مقابل شاطئ غزة، ويجبر العدو على كسر حصاره للساحل الفلسطيني.
شيفرة سليماني في إطار معادلة “التهديد لكسر الحصار” فعلت فعلها أيضاً في المواجهة مع قوى العدوان على اليمن. ويبدو أن الأيام المقبلة قد تحمل مفاجآت على هذا الصعيد بعد إمعان الرياض في ضرب شروط الهدنة التي بدأت منذ مطلع نيسان الماضي، ومواصلتها الحصار التمويني والاقتصادي على الشعب اليمني. وستلعب المسيّرات دوراً فاعلاً في كسر الحصار السعودي، وهذه المرّة لن يقتصر الردّ على البرّ فقط بل سيطال البحر أيضاً، فقد منحت القوات المسلحة اليمنية، على لسان المتحدث باسمها العميد يحيى سريع، الشركات النفطية العاملة في الإمارات والسعودية فرصةً لترتيب وضعها، والمغادرة ما دامت دول “تحالف العدوان غير ملتزمة بالهدنة التي تمنح الشعب اليمني حقه في استغلال ثروته النفطية”.
التهديد اليمني برفع سقف المواجهة وصل إلى حد وضع “مطارات وموانئ وشركات النفط التابعة لدول العدوان في مرمى نيرانها”. ولا يعدّ هذا الأمر محاكاة للأسلوب الإيراني واللبناني والفلسطيني في رسم معالم مستجدّة لوجهة الصراع، بل ترجمة فعلية لمعادلة الاشتباك استطاع فيها محور المقاومة أن يتحوّل إلى محور اقتدار نجح، من خلال “شيفرة سليماني”، في إرساء وقائع متغيّرة لا تكفل كسر طوق العدوان الأمريكي والإسرائيلي فحسب، بل تضمن استرجاع الحقوق المسلوبة وإفشال أي محاولة في المستقبل للعودة إلى هذا السياق، وتلزم المنظومة الغربية برمّتها بانتهاج سياسة الندّية في التعاطي مع دول المنطقة بدلاً عن سياسة الفرض والقهر والإذعان.
المصدر: موقع العهد الإخباري
Discussion about this post