يبدو أنّ ما يدور في أوساط الكيان المؤقت شيء والحقيقة شيء آخر، وبينما يعلو صراخ حكومة الاحتلال وتبادل الاتهامات بين لابيد ونتنياهو حول الموقف من ملف الترسيم عبر الوسيط الأميركي ليترجم ذاك الموقف بورقة انتخابية يستخدمها كلاً منهما فالأول يسعى لإرضاء راعيته الأميركية عبر التسريع بإنجاز الملف والثاني يسعى لاستثمار الملف داخلياً لاستحصال أصوات ترجيحية لفوزه غاضاً النظر عن الإرادة الأميركية التي يمتلك باع طويل في تدوير زواياها.. فيما الإسراع بالملف وفق إرادة لابيد الحالية ونتنياهو اللاحقة تتلاقى الإرادتان في إيجاد بديل عن الغاز الروسي والنفط السعودي اللذان باتا يتحكمان بالقارة العجوز الأولى بقراراتها الحازمة التي جاءت رداً على العقوبات الغربية التي فرضت عليها، فكان الرد وفق معادلة الغاز مقابل الروبل، والثانية بتعنتها أمام الإملاءات الأميركية ورفضها تلك الإملاءات ليس محبة بروسيا وإنما سعياً وراء المكاسب وجني الأرباح وفق عقلية بن سلمان التجارية، ناهيك عن النفط الفنزويلي الذي رفضت مالكته الفنزويلية محاولات الغمز الأميركية لها، كما رفضت الجزائر الهمزات الغربية باتجاهها، ورفض التنازل الإيراني للشروط الأميركية وتمسكه بشروطه السيادية أمام عودة الولايات المتحدة للاتفاق النووي، ولو أن حقلي قانا وكاريش لن يكونا بالحجم والوقت المطلوب لسد الحاجة الغربية إنما وفق المثل القائل “بحصة بتسند جرّة” بات الأميركي والغربي متعطشاً لإبرام الاتفاق وإنجاز الترسيم بالسرعة القصوى هذه السرعة التي باتت على توقيت أوكتوبر ونوفمبر وبالأحرى بين التشرينين لأسباب ثلاثة:
الأول: الانتخابات “الإسرائيلية”.
الثاني: الانتخابات النصفية الأميركية.
الثالث: الشتاء الأوروبي.
أولاً، في الإنتخابات “الإسرائيلية” يطفو ملف الترسيم ليأخذ الحيز الأكبر من المنافسة ما بين لابيد ونتنياهو في لومٍ متبادل بينهما على إنجاز هذا الملف وفق الشروط اللبنانية فيما الأخيرة غير معنية بحال الكيان وانتخاباته في حين كانت المسيرات اللبنانية قوة مضافة إلى هذه الشروط فكان ما يتمتع به حزب الله من فائض قوة قيمة لبنانية أرهبت الكيان وأرهقت مسؤوليه الذين بات التشتت واضح بمعالمه التي أرخت بظلالها في الآونة الأخيرة على تصريحاتهم والتي أظهرت عمق الوجع الداخلي والسياسي وسط ضياع بين إعلامهم وقادتهم وموسادهم الذي أوجعه حال وحدة الساحات الفلسطينية من الضفة إلى القطاع مروراً بالقدس حتى باتت المواجهة فردية لا تخشى جيشه المدجج بالأسلحة فباتت المقاومة قول وفعل فلسطيني في الداخل تبشّر باقتراب الصلاة في القدس وبيت لحم وبات الرعب يسيطر على عقول وقلوب المستوطنين ليصبح “حق العودة” لأولئك المستوطنين نحو أوطانهم التي جاؤوا منها هرباً من إرادة وفعل المقاومة بحق الأرض إذ لم يكن حال الكيان على هذه الحالِ منذُ نشأته الغير قانونية، وها هو اليوم يحاول إيجاد مخرجاً أمام مستوطنيه الجلب الذين جلبهم من أصقاع العالم على أرض لها أهلها ظناً منه أن الأجيال ستنسى وكان في ظنه إثمٌ يغرق فيه يوماً بعد يوم ليغرق اليوم بين سطور التعديلات اللبنانية على المقترحات الاميركية لترسيم الحدود البحرية، وفي محاولة النجاة من الغرق دعا وزير حربه بيني غانتس قواته للتأهب لأي تصعيد في الشمال والتي أراد بها تجربة حرب نفسية على اللبنانيين من جهة وورقة انتخابية في الداخل وإضفاء بعض الطمأنينة على مستوطنيه الذين فقدوا الثقة بكيانهم فقبل أن يرتد صدى صوت تلك الدعوة إلى الأروقة العسكرية للتأهيل كان التأهب بأعلى درجات الخوف والهيستيريا للمستوطنين وبدل من أن تكون حرب نفسية للبنانيين كانت حرب نفسية للمستوطنين وهذا وفق ما نقلته وسائل إعلامهم العبرية فيما عبّر رؤساءُ مجالسِهم المحليةِ عن غضبٍ شديدٍ لارتجالِ غينتس هذه التصريحاتِ دونَ تنسيقٍ مسبقٍ معهم.. ووسط هذا التخبط وما سبقه من محاولات فاشلة لتجنيد عملاء لهم داخل لبنان أثبت الجيش اللبناني وفرع المعلومات والاستخبارات اللبنانية يقظة وفطنة لدرء كل محاولات الفتنة التي حاول الكيان اشعالها في لبنان فكان لأولئك العملاء بالمرصاد فتساقطت خلاياه الواحدة تلو الأخرى كأحجار الدومينو الخلبية..
فيما اللبنانيون غير معنيينَ بكلّ هذا التهويلِ والعويل فقد أودع لبنان ملاحظاته لدى المسؤولِ الاميركي وليس معني بالردّ الاسرائيلي، وفق ما قاله المدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم، ولْيَتحمَّل المبعوثُ الاميركيُ مسؤوليتَه، وعلى المستوى الرسمي الأميركي، جددت وزارة الخارجية الأميركية مساءً التزام الولايات المتحدة “بالتوصل إلى حل في المفاوضات بين لبنان وإسرائيل”، مؤكدةً وجود “إمكانية لتسوية دائمة”.
فيما أكد المتحدث باسم مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض أنّ واشنطن ستبقى على “اتصال وثيق مع الإسرائيليين واللبنانيين” وقال: “نحن في مرحلة حرجة في المفاوضات والوسيط الرئاسي الخاص يواصل مشاركته المكثفة لإنهاء المناقشات حول تحديد الحدود البحرية بين البلدين”.
وفي خيارين لا ثالث لهما إما الاتفاق أو الحرب، ولا غاز لإسرائيل إن لم يكن للبنان غازه أيضاً فثروة لبنان خط أحمر ولا مجال للتلاعب، ومعنى رفض الكيان للإتفاق يجعلهم أمام خيارين إما المماطلة وبالتالي تأجيل التنقيب في كاريش وهو ما لن ترضى به الراعية الأميركية وإلا فالحرب واقعة ولبنان مرحباً بها فليس لديه شيء يخسره، بعد أن خسر كل شيء خلال سنوات من الضغوط القصوى الخارجية، والفساد والنهب الداخلي، بالتالي التهديد الإسرائيلي لا يعني شيئ للبنانيين،
فالاستنزاف الذي يعيشه منذ سنوات تكلفته أكثر من الحرب، ناهيك عن فائض القوة التراكمي لحزب الله والأحزاب المقاومة لسنوات بدءاً من تحرير بيروت في العام 1982 مروراً بتحرير الجنوب في العام 2000 والانتصار في حرب تموز 2006 هذا الفائض بات يأخذه العدو بالحسبان مع تظافر محور المقاومة وارتفاع منسوب تهديداته للكيان حتى باتت القدس أقرب ومهما كانت الترجيحات فإن اللبنانيين عندَ معادلاتِهم، الحصول على كامل حقوقهم وصولاً إلى التنقيب، والنفطُ مقابلَ النفط، ولا بديل أما النقاط التائهة عن حروفها فسيضعها سيد المقاومة سماحة السيد حسن نصر الله في خطابه المنتظر من العدو قبل الصديق.
ثانياً، في ما يتعلق في الإنتخابات النصفية الأميركية وسط تنافس ترامب وبايدن وتبادل الاتهامات حول الكثير من الملفات الداخلية
خاصة في ما يتعلق بالعنصرية والمهاجرين والبطالة وملفات طبية والتمويل العسكري والكثير من الملفات الداخلية الشائكة والخارجية حيث يكون ملف الترسيم كالملف النووي الإيراني وملف الطاقة العالمي ككل أحد الملفات التي يسعى كل منهما لاستثمارها في حملته الانتخابية وسط زعزعة الثقة بالديمقراطيين ورئيسهم بايدن يبدو أن حظوظ الجمهوريين ورئيسهم ترامب أكبر في اكتساح مجلس النواب الأميركي ووسط ارتفاع التأثير اليهودي في الانتخابات رغم أنه لا يتعدى ال 2 بالمئة إلا أنه يؤثر على حوالي 60 بالمئة فهم يُعدّون الممولين الكبار لحملات الرئاسة الأميركية حيث يقومون بتمويل 60% من تكاليفها وخصوصاً في الحزب الديمقراطي، وهذا يوازي 30 ضعف حجمهم السكاني. وبالتالي لا بد من مراعاة المصالح اليهودية في الانتخابات النصفية..
إنما هذه المصالح باتت مبعثرة ما بين أوكرانيا “إسرائيل الكبرى” وفق ما سماها زيلينسكي وكيان الاحتلال “إسرائيل” وما بين الاستحصال على الغاز لإغراق السوق الأوروبية وجني الأموال (فهم خبراء بالمراباة وجني الأموال) وول ستريت مثال على جشعهم، وبين الحفاظ على الهيبة الأميركية والعلاقة الوثيقة مع روسيا الاتحادية، كل تلك المصالح المبعثرة المترامية الأطراف جعلت الأميركي مرتبك من الموقف والمصلحة اليهودية المتشعبة والتائهة رغم امتلاك القرار أميركيا إنما المنفذ إسرائيلي وهو ما يجعل الإدارة الأميركية تمسك العصا من منتصفها لإرضاء الإسرائيلي والأوروبي معاً ..
ثالثاً، في الشتاء الأوروبي مخاوف وهواجس وتظاهرات وتضارب بالسياسات وتوجه نحو الهاوية التي أعادتهم إليها روسيا وسط العقوبات المفروضة عليها وبتوجه ألمانيا نحو الفحم الحجري عودة نحو ما قبل التكنولوجيا وتجاوز لاتفاق المناخ وخلق تيار جديد لن يتظاهر بسبب الضرائب الباهظة أو البرد القارس بل بسبب البيئة وهو ما قد ينذر بتفكك أوصال الاتحاد وبداية عهد القرصنة وتفضيل الذات الأحادية وفي الاتفاق النووي الإيراني أو ترسيم الحدود اللبناني فرصة للجم الغضب الأوروبي وتبنيج الأصوات المتصاعدة لو للشتاء القادم والحال نفسه ينطبق على البيت الأبيض..
في المحصلة العملية العسكرية الروسية الخاصة في دونباس فعلت فعلتها في إثارة بروكسل وواشنطن والطائرات المسيرة لحزب الله فعلت فعلتها في إثارة تل أبيب فبات ثلاثي بروكسل وواشنطن وتل أبيب متعطشاً لاتفاق لإسكات الأصوات الغاضبة داخل كياناتهم..
وفي التاريخ الكثير من التجارب والعبر منها “عملية القبية” والتي حصلت في 25 تشرين الثاني من عام 1987 والتي أسفرت عن مقتل وجرح 36 جندياً من قوات النخبة في جيش الاحتلال الإسرائيلي هذه العملية أعادت التوجه العربي والعالمي نحو القضية الفلسطينية، وكان لهذه العملية الدور الرئيسي بإشعال الانتفاضة الأولى في الأراضي الفلسطينية المحتلة حينها، كما كان في التاريخ التشريني حرب عام 1973 مع “إسرائيل” والتي صادف ذكراها بالأمس فكانت النتيجة الأساس كشف وهم وزيف مقولة “الجيش الذي لا يقهر” ولولا الدعم الأميركي والجسر الجوي المفتوح بالمال والسلاح لإسرائيل وخيانة أنور السادات لما كان الكيان قائماً إلى الآن وكأنه بات ملعوناً بلعنة التشرينين وكأننا سنشهد عملية بطولية للمقاومة اللبنانية وأبطالها في حزب الله تعيد القضية اللبنانية لمسرح الأحداث لتفرض واقعاً يغير خارطة الترسيم البحري ويغير خارطة الترسيم البري فتترجم الأقوال لأفعال والصبر الإستراتيجي لحزب الله يتحول لغضب استراتيجي لطالما حذرت الولايات المتحدة الاميركية عبر اجهزتها الامنية العدو الإسرائيلي من العملية التي ستنفذ بين دقيقة وأخرى وكانت قد أطلعت العدو الإسرائيلي على المعلومات وسارعت لتخفيف سقف شروطها وأرسلت الوسيط ليأتي لبحث سبل وقف الإنهيار المالي والتفاوضي..
وكيف الحال إذا نفذت المقاومة اللبنانية بقيادة حزب الله العملية وكان أبطالها 4000 آلاف مقاتل أو أكثر، بل كم سيكون عدد المستوطنين الذين سيهربون إلى البحر، وكم عدد المراكز والقواعد العسكرية الإسرائيلية التي ستدمر! وماذا عن مفاعل “ديمونة” أليس من الممكن أن يكون ضمن بنك أهداف صواريخ المقاومة! ومنشآت الطاقة ومنها منظومات إنتاج الكهرباء ومحطات تحلية المياه وضخها، ومنشآت تخزين الوقود أليست ضمن البنك إن لم نقل السفن الراسية في كاريش منتظرة لحظة التنقيب! وماذا عن الجليل أليس بمقدور المقاومة خرق حدود العدو والوصول بسهولة إلى الجليل، خاصة وأنّ تقديرات الخبراء العسكريين عن سيناريو المواجهة المتوقعة فمن يستطيع السيطرة على الجليل يتمكن تلقائياً من التحكم بجنوب لبنان وبالمناطق السهلية المحيطة ببحيرة طبريا، والعكس صحيح، إذ أن تحرير أي جزء من الجليل عبر الأراضي اللبنانية سيوقع ويدبّ الرعب الكامل في “إسرائيل” نظراً لأن الكثير من المستعمرات قريب من الحدود اللبنانية.
وفي حال أخذنا سيناريو المعركة البرية وتقدّمت قوات حزب الله نحو الجليل فلنا في العام 2006 مثال يحتذى حين حوصر مقاتلو المقاومة في بنت جبيل بعد أن فتح الجنود الصهاينة ثغرة في محاولة لخداعهم والضغط عليهم حتى ينسحبوا منها إلى خارج الطوق، لكنّ مقاتلي حزب الله قلبوا المعادلة وعززوا وجودههم في بنت جبيل واستقدموا مقاومين إضافيين إلى البلدة ووضعوا العدو تحت الحصار وفي مأزق صعب حينها، وهنا تكمن الخشية الإسرائيلية من قدرة رجال حزب الله على التكيّف مع أي واقع جديد قد تفرضه المعارك العسكرية وأكثر من ذلك قلب المعادلة لصالحهم وسط ما ذكرناه أعلاه عن فائض القوة التراكمي وتفوّق المقاومة في الحفاظ على ترسانتها الصاروخية وتدعيمها بتكنولوجيا الطائرات المسيرة، باتت المعركة وشيكة نعم، بل قاب قوسين أو أدنى، ورهن إشارة من إصبع السيد فالقوة تحكم ومن يملك القوة يملك استرداد حقه..
سماهر عبدو الخطيب- كاتبة صحافية وباحثة في العلاقات الدولية والدبلوماسية
Discussion about this post