كما في لبنان، كذلك في العراق. ثمة خيطُ “خفيٌّ” يربط البلدين بالقدر ذاته؛ فبعد الاحتلال الأميركي للعراق، في نيسان/ أبريل عام 2003، وسقوط العاصمة بغداد بإيديهم، تصاعدت النداءات الداعية إلى ضرورة استنساخ التجربة اللبنانية، حتى قيل “دعونا نلبنن العراق”.
واليوم، وفي العام 2022، ومع استفحال الانهيار الاقتصادي في لبنان، ثمة من يقول -وللمفارقة- “دعونا نعرقن لبنان”. والمشلكة هنا، ليست بحثاً عن حلول جذرية، أو العمل على النهوض بالواقع المُعاش، بل هو حديث وبحث عن حلول ترقيعيّة، تراعي التوازنات الموجودة، وبذلك يبقى المواطن ضحيّة سوء التخطيط وعدم اتضاح الرؤية، والتي جاءت نتيجة الفساد المستفحل في إدارة كِلا البلدين، ولعلّ ملف الطاقة عموماً، والكهرباء خصوصاً، واحد من مخرجات “طبيعيّة” لهذه الظروف التي أرادها البعض أن لا تكون “استثنائيّة”، بل أمراً لا بد منه، يوجب التعامل معه.
يُنقل عن الرئيس اللبناني الراحل كميل شمعون، قوله -في سبعينيات القرن الماضي- “إذا أردتم أن تعرفوا ماذا سيحلّ في لبنان، عليكم أن تراقبوا ماذا يجري في العراق”. هذه المقولة يمكن “استثمارها” في هذا النص، وتحديداً عند مقاربة ملف الكهرباء، أكان في لبنان أو في العراق.
فمنذ العام 1990 وحتى العام 2019، والوعود تُغدق على اللبنانيين بأن هناك خططاً لتأمين التيّار الكهربائي على مدار الساعات الـ 24. في العراق، ومنذ العام 2003، والوعود تُغدق أيضاً؛ حتى أن أحد وزراء الكهرباء، قال يوماً إن “العراق سيبدأ بتصدير الكهرباء مع حلول العام 2013”.
المشترك في التصريحات الصادرة عن رؤساء ووزراء البلدين، هي الوعود المبنيّة على أحلام وخيال واسع، أولاً، سوء الإدارة والتخطيط في بناء المعامل أو توزيع الإنتاج، ثانياً، استثمار موارد الوزارة لملئ الجيوب، ثالثاً، إذ نلاحظ صفقاتٍ وسرقات بأرقامٍ فلكيّة. لبنان صرف على “بناء وتطوير” القطاع الكهربائي طوال الأعوام الماضية حوالى 40 مليار دولار، أما العراق فحوالي 100 مليار دولار. هذه المبالغ -إن جُمعت- مقارنةً بحاجة البلدين للطاقة الكهربائية، والتي لا تتجاوز الـ 50 ألف ميغاواط، في أحسن الأحوال، لا تُكلّف خزينة الدولتين -وجيوب المواطنين- كل هذه المبالغ.
هذه المقدمة ضرورية، للدخول إلى ملخصٍّ يساعد على فهم بعض المسارات المتبعة والخيارات المتاحة في بلاد الرافدين. الأكيد، أنه ما من أحد من ساسة العراق يحمل حلاً جذرياً لهذه الأزمة؛ يُضاف إلى عوامل الإفشال الثلاث المشتركة بين العراق ولبنان، عوامل الاحتلال الأميركي والإرهاب ورفض الشرائح الاجتماعية سداد الفواتير المتوجّبة والمتراكمة عليها للوزارة (تبلغ قيمة هذه الفواتير 10 مليار دولار تقريباً)، والتضاعف غير المنطقي، لكميّات أحمال الصرف على شبكات التوزيع، نتيجة التجاوزات والعشوائيات في مختلف المحافظات. يضاف إلى ذلك، الصراع بين كُبرى الشركات العالمية للاستثمار في هذا المجال، وهي بذلك تعكس “التموضعات السياسيّة” لحكّام البلاد (صراع “سيمنز” الألمانية و”جنرال إليكترك” الأميركية”، إضافةً إلى الشركات الصينية وحالياً آمال شركة “توتال” المعلّقة على استعادة الاستقرار السياسي-الأمني للبلاد)، والفوز بصفقةٍ أو استثمارٍ مع الوزارة بمستوى أقل، وهذا يُترجم حدّة الصراع السياسي بين الأحزاب والقوى، وغياب التدقيق والمحاسبة لكل الصفقات، خصوصاً أن هناك “موعداً سنويّاً” لحريقٍ يضرب الطابق الخاص بالعقود في وزارة الكهرباء والطاقة المتجددة، بسبب “صدفةٍ” وقعت فجأة.
أمام هذا المشهد، تحاول اليوم حكومة تصريف الأعمال، متابعة “مشروعها” في إيجاد حلولٍ ليست جذرية، بقدر ما هي تأسيسية يُمكن خلال الأعوام المقبلة أن تساهم في تأمين التيار الكهربائي على مدار الساعات الـ 24؛ علماً، أن وزارة الكهرباء والطاقة المتجددة وقبل أسابيع قليلة، أعلنت عن وصولها إلى أعلى معدل إنتاج منذ العام 2003، حوالى 24 ألف ميغاوط، في وقتٍ يحتاج العراق إلى إنتاج 34 ألف ميغاواط تقريباً، ليؤمن كل احتياجاته من التيار الكهربائي.
وإذ وضعت الحكومة، أكثر من خيار وسلكت أكثر من مسارٍ في هذا الصدد، إلى جانب بناء المعامل وتأهيل خطوط توزيع التيار الكهربائي، والاستثمار بالطاقة المتجددة (وتحديداً الشمسية)، ومنها العمل على ربط المنظومة الكهربائية العراقية بدول الجوار (الجمهورية الإسلامية في إيران وتركيا ودول الخليج ومصر من خلال الأردن). هذه الخطوة -أي الربط الكهربائي- وفق مصادر في وزارة الكهرباء والطاقة المتجددة العراقية، تكرّس العراق -مستقبلاً- خطّاً لتصدير التيّار الكهربائي وحلقة ربط بين دول الجوار. تضيف المصادر، أن الرؤية قائمة على تحويل “العراق إلى ميدان ترانزيت إقليمي، في أكثر من مجال، ومن ضمنها الكهرباء”.
استكمالاً لذلك، وضعت الحكومة التي يرأسها مصطفى الكاظمي، ونظيره الأردني بشر الخصاونة، قبل أيام، الحجر الأساس لمشروع “خط الربط الكهربائي العراقي-الأردني”، والذي سيؤمن حوالى 1000 ميغاواط في مراحله النهائية. هذا الخط القادم من مصر، أُنجز منه -حتى اللحظة- 28% (شراء وتجهيز اللوجستيات)، ومن المتوقع أن يدخل الخدمة أوائل حزيران/ يونيو المقبل. هذا الخط، من شأنه إحياء المحافظات الغربية، وإعادة الروح إلى المنطقة الحدودية العراقية- الأردنية- السورية، ما يوفّر البيئة الآمنة والظروف الملائمة لعودة النازحين إلى مناطقهم وبيوتهم. عودة هذه الحواضن، في ظروف مناسبة، ستشكّل بيئة رادعة حتى لا يعود الإرهاب إلى تلك المنطقة، أو يستغل مناخات الفقر والبطالة لإعادة بناء نفسه. كل ذلك، في طبيعة الحال، مرهون بتحييد المصالح والحسابات السياسية، من قِبل الساسة والمسؤولين.
الربط الكهربائي: فكرة متى تبلورت؟
طُرحت فكرة هذا المشروع، مع بدء التحرّكات الثلاثية بين العراق والأردن ومصر، أواخر حكومة الرئيس حيدر العبادي. أما في حكومة الرئيس عادل عبدالمهدي، فقد طُرحت أيضاً، ولكن بحماسة أقرب للبرودة، فيما عادت اليوم، لتسلك مساراً جديداً يستند إلى فكرة تنويع مصادر الإنتاج، ومنها الربط، وأن تكون من مختلف دول الجوار، في المراحل الأولى، على أن تتطوّر لاحقاً، فتصبح جزءاً من شبكات تصدير التيّار الكهربائي في المنطقة، خلال الأعوام المقبلة، مع تطوير وتأهيل شبكة التوزيع الخاصة به.
على صعيد خطّ العراق- الأردن- مصر، فإن المشروع يرتبط بمحطتين؛ الأولى في منطقة رويشد الأردنية، والثانية في منطقة القائم العراقية، إضافةً إلى 14 محطة فرعية. يبلغ طول الخط 346 كلم، 16 كلم منها داخل الأراضي الأردنية. يبدأ الخط من الحدود العراقية-الأردنية بالقرب من منفذ طريبيل، مروراً بمنطقة الرطبة في محاذاة الطريق الدولي، بتكلفةٍ تقدّر بـ 2.2 مليار دولار، ويُقسّم إلى 3 مراحل: الأولى يؤمن العراق خلالها 150 ميغاواط، وفي الثانية 500 ميغاواط، ويحصل في نهاية المرحلة الثالثة على 1000 ميغاواط. كذلك، يدور الحديث عن توجه لإنشاء مدينة تبادل تجاري بالقرب من الحدود العراقية-الأردنية.
وعلى صعيد خط العراق- الخليج، فإن الاتفاقيّات وقّعت بين الطرفين، في مؤتمر جدة للأمن والتنمية صيف العام 2022، على أن يبدأ العمل به أواخر العام الجاري. أما خط العراق– تركيا (من شأنه أن يؤمّن 400 ميغاواط)، فقد بدأ الجانب العراق من الاستفادة منه جزئياً، إذا يؤمن بعضاً من احتياجات المحافظات الشمالية، في وقتٍ يستمر خط العراق-إيران بالعمل، منذ سنوات، ويعمل على تأمين احتياجات المحافظات الجنوبية، وتحديداً في فصل الصيف.
الحديث عن الربط الكهربائي، يفرض سؤالاً عن المعامل المنتجة للتيّار الكهربائي وشبكات التوزيع. “هناك أزمة كبرى… تعود لعدة عوامل مجتمعة”، بتعبير مصادر مطلعة في الوزارة. فالبُنى التحتيّة التي خلّفها النظام السابق برئاسة صدام حسين، مصممة على تأمين احتياجات البلاد من التيّار، غير أن الاحتلال الأميركي، مطلع العام 2003، عمل على تدمير المنظومة كاملة، من المعامل إلى شبكات التوزيع وخطوطها. أما فترة احتلال تنظيم “داعش” الارهابي الوهابي، لمساحات شاسعة من البلاد، فقد زادت من حدّة الأزمة، التي يزيد من استفحالها الفساد والصفقات المشبوهة والسرقات الفاضحة. كذلك، فإن البعض، عمد كما “داعش”، إلى تفجير أبراج التوزيع طمعاً بـ”التعويضات المالية” أو خلق أزمةٍ ما، أما الإرهابيون فعملياتهم كانت تخريبية يُراد منها إثبات الوجود، والضغط على الحكومة الاتحادية والحكومات المحليّة.
أما معامل الانتاج، فإن التصاميم الخاصّة بالمعامل تكشف عن “ضياعٍ” في الرؤية وصياغة الحل. إذ صُمّمت هذه المعامل على إنتاج التيّار عن طريق الغاز، علماً أن العراق ليس من الدول المنتجة للغاز، وعليه الاستيراد لأجل ذلك. مع العلم، أنّه، سنويّاً، يحرق ما قيمته 7.5 مليار دولار من الغاز المصاحب أثناء عمليات استخراج النفط، وهو بحاجة إلى ما قيمته فقط 5 مليار دولار. وعليه، فإن هناك هدراً سنويّاً قيمته 7.5 مليار دولار، علماً أن شراء المعدات اللازمة لاستثمار هذا الغاز لا تُكلّف أكثر من 5 مليارات دولار، عدا عن أنها تساهم في تأمين آلاف فرص العمل للشباب العاطل عن العمل، في المناطق الجنوبية على وجه الخصوص.
وعلى خطٍ مواز، فإن التعاون العراقي-الإيراني في مجال الطاقة الكهربائية، يتعدى هذا الأمر. وهنا، تجدر الإشارة، إلى أن الحكومة الحالية، استطاعت أن تسدّد الديون العراقية المستحقة من إيران، في مجالي الكهرباء والغاز، بشكلٍ كامل، واستطاعت أيضاً، أن تساهم في رفد السوق الإيرانية من الحاجيات الأساسية المستوردة، عن طريق اعتماد مبدأ “شراء البضائع”، بقيمة بلغت أكثر من 1.3 مليار دولار.
بين بيروت وبغداد
أثبتت التجربة، طوال الأعوام الماضية، أن تأثيرات هذا الملف في البلدين عميقة جداً على مشهديهما، وتدفع إلى خيارات لا تكون في الحسبان، حفاظاً على مصالح الشعب، وهذا يمكن أن نلتمسه في مواقف الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله. كذلك، فإنها تشكّل وقوداً لاحتجاجاتٍ شعبية تشكل مساحة خصبة للاستثمار السياسي، في بيروت وبغداد على حدٍّ سواء، عدا عن استثمار الجشعين من أصحاب المولدات هنا أو هناك، وابتزازهم للشعب والحكومة دون أن يرف لهم جفن أو يكون لهم رادع.
بغداد اليوم، تشهد مرحلة هي الأكثر حساسية وتعقيداً منذ سقوط النظام السابق عام 2003، نظراً للكباش السياسي الحاد الذي انعكس تحريضاً في الشارع، وهذا ما يستفيد منه الكاظمي، في تمرير أو إطلاق بعض المشاريع في “الوقت الضائع”. لكن هذا الظرف، والذي أصبح سمة المشهد العراقي لا يخلق بيئة للاستثمار في هذا المجال، وهذا ما يعقّد عمليات البناء والتطوير والتأهيل. أما في لبنان، فالحجة واضحة لدى كل من يتولّى هذه الوزارة، بالقول إن “الظروف أكبر”. القاسم المشترك، بين البلدين، أن التغذية الكهربائة المؤمنة بشكلٍ كامل، قد تكون حلماً، بقدر ما هي حقٌ مشروع مكتسب، على أن تبقى الوزارتين خزينة مثقوبة تملئ جيوب الفاسدين.
Discussion about this post