يكثر الحديث في اليومين الأخيرين عن تصعيد محتمل في أوكرانيا، خاصة أن القوات الأوكرانية تدفع قواتها لاستعادة السيطرة على خيرسون، وهي واحدة من المدن الكبرى التي خضعت للسيطرة الروسية، وبحسب الإعلام الغربي خسارتها تعني أن موسكو على أبواب خسارة الحرب، وبالتالي ستضطر إلى التصعيد الذي يتجنبه بوتين منذ البداية، حتى لا يجعل الناتو يدخل الحرب.
مؤشرات التصعيد
مجموعة من التصريحات كانت لافتة أوردت مفردة التصعيد، في تصريح لديفيد باتريوس رئيس الاستخبارات الأمريكية السابق قبل يومين في 22 من شهر أكتوبر / تشرين الثاني الجاري، يرى باتريوس أن الولايات المتحدة قد تتدخل مباشرة في الصراع الدائر بين موسكو وكييف حتى لو لم يكن هناك تهديد لأي من الدول الأعضاء في الناتو. ويلمح باتريوس إلى أنه لا شيء يمكن لروسيا أن تفعله لتغيير الوضع في الخطوط الأمامية، وهو أمر غير مؤاتٍ لموسكو، وبالتالي ستتخذ بعض الإجراءات في أوكرانيا يؤكد أنها ستكون “مروعة للغاية”، بحيث تؤدي إلى تدخّل من الولايات المتحدة، ولكن التدخل الأمريكي سيكون “كقوة متعددة الجنسيات بقيادة الولايات المتحدة وليس كقوة تابعة لحلف الناتو.
وفي نفس اليوم، أفادت شبكة CBS نيوز أن وحدة النخبة ألأمريكية 101 جاهزة للقتال في أوكرانيا إذا تصاعد الصراع.
إلى ذلك، وفي مكالمة هاتفية مع وزير الدفاع الفرنسي سيباستيان ليكورنو، أبلغ وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو في الثالث والعشرين من الشهر الجاري أن الوضع في أوكرانيا يتجه نحو مزيد من التصعيد غير المنضبط وأن موسكو لديها مخاوف من أنّ أوكرانيا قد تستخدم “قنبلة قذرة” في الصراع.
أهمية سدّ خيرسون
خيرسون ذات أهمية استراتيجية لروسيا لعدة أسباب، أهمها أنها وسيلة عبور لنهر دينبر الذي مقاطعة روسية فيدرالية مفصولة بالنهر، وسيطرة الأوكران على النهر تعني فقد إمدادات المياه والدعم اللوجيستي لجزيرة القرم، كما أنه يُفقد الروس للحصار المائي الذي يطبقه على مدينة بيكولايف، كما أن السيطرة على خيرسون، يفقد موسكو خطوط ميليتابول جنوب خيرسون، أي العبور من شرق النهر إلى غربه.
وفي ملامح التصعيد التي تحدّث عنها باتريوس، يحتاج الأوكران إلى سدّ خيرسون كمعبر ويحتاجونه أيضًا لتوليد الطاقة، والأهم يحتاجونه للتحكم المائي في شبه جزيرة القرم. يزعم الجيش الأوكراني أن موسكو ستنسف هذا السد بالإضافة إلى السدود الأخرى في حال وصلت القوات الأوكرانية إليه، وافترضت مسبقًا أنه سيتم ضربه، ووضعته ضمن أعمال الإغاثة التي ستحتاجها لإعادة الإعمار ضمن القرض الذي تتوقع أن تحصل عليه من الاتحاد الأوروبي لإعادة الإعمار بقيمة 9.5 مليار يورو. هذا بالإضافة إلى ما ينتج عن تدمير هذا السدّ من زيادة الهجرة إلى الغرب الذي يئنّ من أزمات الطاقة والتضخم.
أزمة بايدن
بايدن اليوم على أبواب التجديد النصفي للكونغرس، تقول استطلاعات الرأي أن الجمهوريين هم الرابحون، ومن المعلوم أن الجمهوريين لو ربحوا سيقلصون الدعم عن أوكرانيا، وبالتالي سيمهّد ذلك لبوتين أن يقوم بتسوية وإنهاء الصراع، فيتفرغوا عندئذٍ للصين. وهذا ما يراه بايدن بأنه استراتيجية بوتين باستغلال التهدئة قدر المستطاع، للوصول إلى اتفاق سلام وبالتالي إنهاء الحرب منتصرًا.
استراتيجية الجمهوريين هذه مخالفة تمامًا عن مدرسة بايدن بفتح جبهتين اثنتين، في الأولى يحارب فيها الأوروبيون بالنيابة، وتضعف الكتلة الأوروبية ويستفيد الأميركي من الضعف الاقتصادي لها، والثانية هي الجبهة مع الصين، إذ لا يصحّ أن يتم ترك جبهة تقوي الأخرى، خاصة أن الصين قد تجد الصراع في أوكرانيا فرصة تاريخية للاستيلاء على تايوان خاصة في ظل ضعف الديبلوماسية الأمريكية أمام الصين، والأهم بعدما ربح الرئيس الصيني تشي جين الولاية الثالثة في سابقة تاريخية، وشكل المكتب السياسي للحزب الشيوعي من أشخاص موالين له بشدة، وكلهم صقور حرب وعينهم على تايوان.
إلى ذلك، فإن الواقع أن بايدن يحتاج إلى إنجاز قبل انتهاء ولايته، ويقع في نفس السيناريو الذي حصل لدى انتهاء عهد ترامب في عام 2020، حيث كان متشبثًا بالسلطة وأراد أن يتخذ إجراءً يقلب الطاولة عالميًا من خلال شن ضربات أو إعلان حرب على إيران في الوقت الضائع. إلا أن الاستخبارات ووزارة الدفاع اتخذت قرارًا بعدم تمكينه خاصة بعدما أكدت استطلاعات الرأي بأنه خاسر. وبالتالي لم يُسمَح له بإدخال البلاد في حالة حرب واستخدام الشعبوية لجعل الناس يلتفون حوله من جديد.
هذا الأمر يتكرر اليوم مع بايدن ولكن في بحبوحة من الوقت، فبايدن، صحيح أنه سيخسر الكونغرس، إلا أنه ما زال يملك سنتين من الوقت قد يتمكن فيها من إدخال الولايات المتحدة الحرب، وعندها سيضطر الجمهوريون مرغمين لدعم بلادهم، خاصة أن ثمة سردية شعبوية جارية أنّ الجمهوريين خونة لأنهم غالبًا يدعمون الروس.
لكن كيف سيتمكن بايدن من دفع بوتين للتصعيد وبالتالي تبرير دخول الحرب؟
العلم الزائف نجم التصعيد
العلم الزائف هو مصطلح عسكري سياسي يُقصد به عملية سرية تقوم بها جيوس أو أنظمة، ثم تتهم بها دولة أخرى، ما يبرر لها شنّ الحروب واحتلال الدول، تمامًا كما فعلت الولايات المتحدة في حربها على العراق عندما ادعت وجود أسلحة دمار شامل، وفي سوريا عندما ادعت وجود أسلحة كيماوية، وتصريحات شويغو الاستباقية حول القنبلة القذرة يمكن أن تأتي في هذا السياق.
وكعادتها في اختلاق الحروب، يمكن للولايات المتحدة أن تقوم بضرب سدّ خيرسون في عملية استخبارية ويتم اتهام روسيا، خاصة بعدما بدأ الجيش الأوكراني بالترويج إلى أن روسيا ستعمد إلى تدمير السد في حال خسرت المنطقة، ومع كل ما يمكن أن ينتج عن ذلك من كوارث إنسانية وعسكرية، سيتمكن بايدن من الحصول على تصعيد وبالتالي دخول الأمريكان الحرب لمساندة القوات الأوكرانية تمامًا كما أشار باتريوس.
وأخيرًا
في ظل الواقع الأوروبي المأزوم، حيث تواجه الدول الأوروبية اضطرابات سياسية مع تصاعد الاحتجاجات ضد التضخم، وقد توقفت ألمانيا عن التسلح بسبب عدم قدرتها على التمويل خاصة أنه حتى أسعار الأسلحة ارتفعت عالميًا مثلها مثل باقي السلع، بالإضافة إلى تجمعات المتظاهرين بعشرات الآلاف في كافة المدن الألمانية للمطالبة بتوزيع أكثر عدلًا للأموال الحكومية للتعامل مع ارتفاع أسعار الطاقة وتكاليف المعيشة، من المتوقع أن يعلن شولتز الحياد ليأمن الجانب الروسي في حال التصعيد في الحرب. كما أن فرنسا تعج اليوم بالمظاهرات المستمرة منذ حوالي الشهر، وقد نجحت الولايات المتحدة في جعل بريطانيا دولة هزيلة لا يتوقّع أن تقوم لها حكومة في الفترة المقبلة، كما أنه ثمة رأي عام واستطلاعات في كافة دول الاتحاد الأوروبي تحشد لوقف إمداد الحرب في أوكرانيا وسط التضخم وأزمة الطاقة المهولة، كل ذلك جعل ورقة استخدام أوروبا في الحرب تسقط من يده بعدما فرغ من استنزافها، فهل يلجأ بايدن إلى العلم الزائف لمنع بوتين من تحقيق الانتصار؟
Discussion about this post