كم من روحٍ أُزهقت على أعواد المشانق، وكم من نفسٍ سُحقت في غياهب السجون والمحاكم الصورية باسم الخيانة والعمالة، اللتين تعلوان وتنخفضان حسب حاجات ما يجري بالخفاء، وحسب مصلحة الأرجل التي تلعب تحت الطاولة، وكذلك تبييض وتطهير أيادٍ تلوثت بمصافحة العدو والتعاون معه، بعد عقود من تاريخهم الأسود يلعبون بذاكرة الشعوب، مستغلين ازدياد معدلات التخلف الثقافي والفكري والقراءة، يؤلفون تاريخاً جديداً، بما تقتضيه منافعهم ومكاسبهم فيصبحون خائنين.
المضحك في الأمر أن بعضهم قد بحث عن العمالة، فلم يجد لها سبيلاً، ولانحراف أخلاقهم وسلوكهم ورغبتهم في الالتصاق بجهة تتبناهم، أخذوا يصولون ويجولون بين الملفات والأوراق المغبرة العفنة، وينسخون ويلصقون ويشرّقون ويغرّبون، ليجدوا ضالتهم في مزابل التاريخ، يُدخلونه لحماماتهم ومراحضيهم، ويأتون بكلس القبور العفنة يلمعون به ذاك الذي أكله الدود، ليبيعوا سيرته الناصعة بعد الكثير من عمليات التجميل، وهذا ما يحصل عبر التاريخ الحديث والغابر مع شخصيات كثيرة، طوى الزمن عليها مدة ليأتي آتٍ ويفلتر الصورة ويقبض الثمن، وإن كان صوت الباطل بالآلاف، إلّا أن للناس ذاكرة، والوثائق والمستندات محفوظة، ولن ينسى لبنان من قام بأول عملية تزوير للانتخابات، وكل الشواهد تضعه في خانة العمالة والخيانة والتعاون مع العدو الاسرائيلي، وحتى بعد كتاب باتريك سيل (رياض الصلح والنضال من أجل الاستقلال العربي)، ذاك الكتاب الذي كُتب بطلب وتمويل من ورثة الصلح، الذي أورد حوادث مشوهة ومبسترة رغم استخدامه العديد من الوثائق الموجودة في ملف الخارجية الاسرائيلية رقم 70/3771، وإخفائه عمداً تلك الاتصالات بين الصلح والصهاينة، وما قام به الصلح في باريس في تشرين الاول 1948، والاجتماع الذي ضمه مع يولندا هامر المسؤولة في المخابرات الاسرائيلية، التي كانت على علاقة وطيدة مع تقي الدين الصلح، ابن عم رياض الصلح ومساعد الأمين العام لجامعة الدول العربية، والتي بتقريرها المرفوع للحكومة الاسرائيلية تصرح بأنها نجحت مع رياض في البحث في تفاصيل عملية سلام بين العرب و”إسرائيل”، وسلمته رسالة من إلياهو ساسون، بالإضافة لاستقبال الصلح اللطيف لطوبيا أرازي، وعملية جس النبض والعمل مع الصلح من أجل سلام بين “إسرائيل” والمعسكر العربي بتاريخ11/11/1948 ملف رقم 70/3771.
والعديد من الشواهد أوردها بدر الحاج، ونستذكر تورط الصلح في عملية اغتيال الزعيم أنطون سعاده، اتهموه بما هم غارقون فيه، كما جاء في تقرير البعثة البريطانية 22حزيران 1949، “يبدو أن اتهامات الخيانة والتعامل مع “إسرائيل” هي أفضل أسلوب يعتمده الساسة في الشرق الاوسط لمحاربة أخصامهم “.
ويؤكد الأمير عادل أرسلان في مذكراته “أن الجاسوس كامل اليوسف كان من أصدقاء رياض الصلح، وحين كان الجاسوس يبيع أرض فلسطين لليهود، كان رياض الصلح قد حماه بأن أعطاه الجنسية اللبنانية وأعفاه من الأحكام الصادرة ضده وأغدق عليه”، وأكدت كرستين شولتزه ارتباطه الوثيق مع اليهود بحديثها عن لقاء الصلح وايزمان، الذي رتبه صديقا الصلح، حاييم مارغوليس وإيتامار بن أفي، الذي استكمل في 1921 بمنزل اللورد روتشيلد وكانت النقطة الأهم في هذا الاجتماع لرياض الصلح، إقامة علاقة بين الدولة اليهودية في فلسطين والاتحاد العربي المستقل الذي يشمل البلدان المجاورة .
إن هذا كله غيض من فيض، ومع أن الواقع الحالي يُنسي الإنسان اسمه، إلا أن تاريخ رياض الصلح ليس ببعيد لننسى ونسهى عنه، فهل هذه الشخصية تستحق التكريم من منابع العلم واستنهاض الاجيال، حتى وإن كانت المغريات كبيرة، هذه الشخصية التي لاقت حتفها على يد من جبلت نفوسهم بالعز والكرامة والوطنية، فنفذوا حكم الشعب بكل جسارة وإباء، إن أمتنا لن تخلو أرحامها من الشرفاء الذين سيسطرون التاريخ بوقفات العز .
Discussion about this post