إنّ صيف بوتين لم يكن ساخناً فقط في أوكرانيا بل له ارتداداته على ارتفاع معدل التحركات الأفريقية من الممارسات الاستعمارية الغربية، لتبرز القمة الروسية الإفريقية على الساحة العالمية، في وقت تواجه فيه إفريقيا صعوبات اقتصادية بالغة، بسبب تداعيات تلك الممارسات الغربية، فوجدت في روسيا المنقذ من تلك الممارسات خاصة وأنّ روسيا لا تتعامل مع دول المجتمع الدولي كـ”العبد والسيّد” إنما كشريك وهو ما يروق للدول التي تسعى إلى نيل سيادتها وانتزاعها من سطوة الغرب خاصة وأنه في التاريخ والسياسة لم تقتصر الصداقة بين الأمم على أسس عاطفية فحسب، بل شملت الأسس الجيوسياسية والأيديولوجية وكذلك الاقتصادية.
واستناداً إلى تعطش الدول إلى التنمية والنهوض باقتصادها وضيقها ذرعاً من سرقة الدول الغربية لمواردها فوجدت في الصين وروسيا ضالتها وباتت “الدومينو شرقية” معكوسة من الغرب باتجاه الشرق.. وما يقوم به بوتين وفق sowt بتحويل التهديد إلى فرصة والضعف إلى قوة وفق استراتيجية مرنة تقوم على تحويل الأفخاخ الغربية إلى مزايا جيوسياسية روسية والاستثمار بالأخطاء الغربية القائمة على (رابح – خاسر) ليرسخ مفهومه وفق معادلة (رابح – رابح) فتحت الباب على مصرعيه أمام الرئيس الروسي للدخول إلى القارة الأفريقية ومعاقبة “الغرب” على تجاهلهم وازدرائهم لروسيا لتفرض روسيا شروطها وفق نظريتها الجيوبولتيكية “التشاركية” بعيداً عن ترسانة النظريات الغربية “الفردية”..
إنّ هذه الأسس التي ترسم معالم الصداقة والمشاركة والتكامل بين الأمم واضحة المعالم تبدأ بضرورة بناء عالم متعدد الأقطاب، فعصر الهيمنة الغربية والأحادية القطبية نحو الأفول أمام ظهور أقطاب جديدة مستقلة وذات سيادة، وأثبتت روسيا والصين وجودهما بالكامل فعلياً ضمن هذه الأقطاب لتنضم الهند ودول العالم الإسلامي وأميركا اللاتينية إلى نادي الأغلبية العالمية، في مساعيها الحثيثة لتصبح أقطاب مستقلة عن الهيمنة الغربية والتبعية يجمعهم عاملين مشتركين هما (الرفض للأحادية وتأييد التعددية).
وبما أنّ الرؤية الاستراتيجية الروسية اليوم تقوم على المنفعة المتبادلة، والمعادلة الربحية (رابح – رابح) الأمر الذي يرفع من مكانة روسيا بشكل طبيعي، لكونها عبر استراتيجيتها المتوازنة تسعى إلى بناء علاقة متوازنة مع جميع دول العالم.
ولا بد من أن تحجز أفريقيا مكانتها في عالم متعدد الأقطاب وتلتحق في رُكب الأقطاب المستقلة، وتنفض عنها “غّبار” التبعية، خاصة أنّ أفريقيا قارة ضخمة تمتلك ثروات لا تحصى سواء أكانت بشرية أو طبيعية أو ثقافية أو اقتصادية أي أنها تملك القدرات التي تؤهلها بأن تصبح قطباً مستقلاً، لذا فإن مهمة إفريقيا هي أن تصبح قطباً كاملاً مؤهلاً للمرحلة العالمية الجديدة والاستفادة من التحولات الجيوسياسية العالمية، وهنا يبرز الدور الروسي الذي يتصدّر عملية هذا التحوّل ورسم معالم التعددية القطبية، بتقديم المساعدة بكل الطرق الممكنة وهو ما كان مضمون القمة الروسية – الأفريقية في سان بطرسبرغ.
والقارة الأفريقية غنية جداً بالموارد الطبيعية وهو ما تحتاجه روسيا بشكل كبير، بالمقابل روسيا قادرة على تقديم الكثير من الخدمات والتكنولوجيا، في مجالات النفط والغاز وسكك الحديد والتنقيب عن المعادن والثروات الباطنية، بالتالي يصب هذا التعاون في بناء العلاقات الاقتصادية والثقافية والتكنولوجية بين الطرفين، لذا نلمس إقبال أفريقي على روسيا، باعتباره ترجمة للعلاقات التاريخية التي كانت تربط الاتحاد السوفياتي بأفريقيا، وعودة لتجدد العلاقات التقليدية..
وهنا تبرز أهمية “الوحدة الأفريقية” كشرط لابد من تحقيقه حتى يكون للقطب الأفريقي وجود كقطب مستقل ويجد لنفسه مكاناً في العالم الجديد، إذ لا تمتلك أي دولة إفريقية المقياس الذي يؤهلها بأن تصبح هذا القطب بمفردها، وهذا يتطلب إعادة تنشيط مشروع “عموم إفريقيا” في مرحلة جديدة، وتأكيد “الاعتماد الجماعي على الذات”، فشعوب ودول أفريقيا لن تتمكن من الحصول على السيادة والاستقلال التامين إلا من خلال توحيد طاقاتها وتكثيف جهودها المشتركة نحو هذا الهدف ووضعه في خانة أولوياتها، وهنا لا بد من الاستفادة من الصداقة الروسية والاستراتيجية الروسية خاصة وأنّ روسيا شرعت هي نفسها في طريق “التكامل الأوراسي”، وهي مستعدة لتقديم المساعدة قدر الإمكان نحو “التكامل الأفريقي”.
ولا شك أنّ شرط تحقيق التكامل الأفريقي والوحدة الأفريقية لن يكون قابل للتحقق إن لم يتم إنهاء الاستعمار العميق للوعي الأفريقي بشكل كلّي خاصة وأنّ الدول الأفريقية بعد أن نالت استقلالها لم تتخلَ عن العديد من سمات تلك الحقبة “السوداء” وما تمثله من قهر وعبودية والتي تتضح جليّاً مع استمرار الاعتماد الثقافي والتكنولوجي والجيوسياسي واللغوي للدول الأفريقية على الغرب.
وبالتالي يتوجب النهوض بالوعي الأفريقي للبدء بمرحلة جديدة يكون فيها شريكاً وليس “تابعاً” أو “عبداً”، ويعود نحو قيمه التقليدية وثقافات وعادات شعوبه الأصلية وينفض عنه غبار العادات والثقافات الغربية التي جلبت الأمراض لمجتمعه خاصة تلك التي تطال الأسرة والفرد، وبالنظر إلى روسيا التي انفصلت بشدة عن “الحضارة” الغربية المشوّهة وتبحث بنشاط عن شعاراتها الروسية الخاصة النابعة من بيئتها وخصوصة مجتمعها فإنه يمكن الاستفادة من توافق المصالح والأولويات الروسية مع المصالح والأولويات الأفريقية وهذه المضامين كانت واضحة من خلال تطوير العلاقات الروسية – الأفريقية واتخاذها منحى تصاعدي في أوج المساعي الأفريقية للتحرر من “السياسات” الاستعمارية التي تخضع لها بشكل مباشر بعد أن احتفظ المستعمرون الغربيون أثناء انسحابهم رسمياً بإرث من فلسفتهم السياسية التي شلت مسار التنمية السياسية الحرة في البلدان الأفريقية.
لا ننسى أنّ هذا الإرث الفلسفي السياسي الغربي “بقايا الاستعمار” المتجذر في العقلية الأفريقية هو من دفعها نحو سلوك طريق الغرب واختيار أيديولوجياتهم التي تسببت في توقف الأنظمة السياسية في إفريقيا وخلق الأزمات والكوارث، ويبدو أن نهج الاستقلالية قد بدأ الآن مع تهديدات قادة بوركينا فاسو ومالي بأن أي تدخل عسكري في النيجر سيعتبر إعلان حرب عليها..
وبالتالي اتضح جلياً عقم تلك الأيديولوجيات السياسية الغربية في البيئة السياسية الأفريقية الجديدة ويتوجب التغلب على هذا العقم عبر اللجوء إلى نظرية سياسية أو إنتاج إيديولوجية سياسية أفريقية مغايرة لليبرالية وربما تكون في النظرية السياسية الرابعة التي وضعها الفيلسوف الروسي ألكسندر دوغين أنموذجاً لصياغة نظرية سياسية أفريقية لا يمكن أن تتتجاهل الشراكة الاقتصادية والتعاون في شتى المجالات كقطب مستقل مع شركائها في العالم الجديد وصياغة استراتيجية مشتركة في مجال الموارد الطبيعية كأحد البنود الهامة لبناء تكامل وتشارك بين الاستراتيجيتين.
بالإضافة إلى أنّ الأوضاع في كثير من المناطق الأفريقية لا تزال غير مستقرة، مع استمرار حدة الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية.. فباتت تلك المناطق مسرحاً وبيئة حاضنة تشهد نشاطاً مكثفاً لتنظيمات إرهابية متعددة، مثل “داعش والقاعدة وبوكو حرام والشباب وغيرها”.. ولأن روسيا باتت واثقة من قدرتها على مكافحة الإرهاب عقب تجربتها في سورية التي كانت بمثابة بوابة الصعود الروسي إلى العالم، فأصبحت صورة روسيا مشرقة بعد مساعدتها لسورية في مكافحة الإرهاب، وأظهرتها كدولة مسؤولة لا تستغلّ الصراعات من أجل مصالحها الشخصية، فباتت عنواناً في اتباع هذا النهج وبات التعاون معها في مجال مكافحة الإرهاب والتصدّي للتهديدات الأمنية الأخرى من أولويات الدول المهدّدة بتلك الجماعات الإرهابية وتأتي الدول الأفريقية على رأس قائمة تلك الدول.
في المحصلة، ومع بدء هذه القمة الروسية الأفريقية اليوم يبدأ معها الحلف الروسي الأفريقي، حيث تستعيد روسيا العلاقات مع تلك البلدان التي تنظر إليها اليوم على أنها وريثة الاتحاد السوفياتي الذي بفضله تشكل العديد من الدول الأفريقية. بالتالي نتائج هذه القمة ستعيد روسيا إلى واجهة المشهد الأفريقي من جديد، وذلك يصبّ في مصلحة التنمية داخل القارة الأفريقية، حيث حققت روسيا وبوتيرة سريعة حضوراً ضخماً في الكثير من دول القارة الـ54 دولة، وبات تأثيرها حاضراً بقوة محرزةً تقدماً مهماً في القارة الإفريقية، فعمل بوتين على غرس “الأشجار” في “الحفر” التي حفرها له “شركائه” الغربيون وها هي روسيا تحصد إنجازات سريعة بثمن قليل أو رأسمال سياسي، فمنذ أيام هاجم المتظاهرون السفارة الفرنسية وانتزعوا لافتتها ووضعوا مكانها علمي روسيا والنيجر مع الهتاف باسم بوتين هذه المشهدية حدثت مسبقاً في 2020 عندما أطاح الجنرالات بالحكومة المدنية في مالي، ظهر المحتجون وهم يلوحون بالعلم الروسي وصور بوتين وتم توقيع اتفاقية مع فاغنر لحماية النظام العسكري والحفاظ على الأمن.
كما أنّ هذه الصورة تكررت في ليبيا والسودان، وفي أوغندا أيضاً حيث قال رئيسها يوري موسفيني، والذي يحكم البلاد منذ 36 عاماً، أثناء زيارة قام بها وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف،إن “روسيا كانت معنا طوال المئة عام الماضية”..
تدرك روسيا ان تعزيز وجودها في القارة الافريقية، فيه تحدٍ يضعها في حالة تماس مباشرة مع الناتو، في الساحل الشرقي للمحيط الأطلسي، وهو ما تعتبره الولايات المتحدة ومن خلفها الحلف، بأنه مساس بالأمن القومي لكليهما، وهذا تحديداً ما قام به الحلف (المساس بالأمن القومي الروسي) عبر نشر قواعده في الفضاء الجغرافي الروسي ومحاولة حصار وعزل روسيا لكنه اليوم يتجرع من الكأس ذاته.. ولا أحد يريد حدوث مواجهة بين روسيا وحلف “الناتو” ولكن إذا أراد أحد فنحن مستعدون وفق قول بوتين ما يعني انتقال من الدفاع نحو الردع ليبدأ فصل جديد من استراتيجية الردع الروسية وقول الفصل الروسي..
*سماهر عبدو الخطيب- كاتبة صحافية وباحثة في العلاقات الدولية والدبلوماسية
Discussion about this post