يرفض علي أحمد سعيد الملقب بأدونيس (1930م) النمط التقليدي من النقد، وهذا ما دفعه إلى إعادة قراءة مراحل تطور الشعر العربي، قراءة جديدة على ضوء المعطيات النقدية الحديثة، وذلك من خلال
ثلاث مستويات، وهي: مستوى الرؤيا، ومستوى بنية التعبير، ومستوى اللغة الشعرية بشكل شمولي، وليس بفكرة من أفكار يجتزئها من نتاج الشعراء، لذلك يقوم مفهوم الشعرية عند أدونيس على مجموعة من المفاهيم التي تحدد ملامح شعريته، وهي انفتاح النص، والغموض، والدهشة، والاختلاف، والرؤيا، والحركة، والزمن الشعري، وغيرها من المفاهيم الأخرى
إنها مفاهيم تتأطر تحت مفهومين مركزيين، الثابت والمتحول، أو الأصل والحداثة، والأول يرتبط بالنظام المعرفي الإسلامي في شموليته، وباعتبار الدين مقياسا لكل شيء، فالقرآن والسنة والإجماع، معيار لفهم الشعر الجاهلي، الأصل الثاني، وبهذا يكون الأصل الأول، الوحي، غير خاضع للزمن والحركة والتاريخ، حيث نجد “أساس الإشكال المعرفي العربي أن الاتجاه الذي قال بالثابت النصي على مستوى الديني، قاس الأدب والشعر على الدين” .
إن الشعر لاحق بالنسبة للأصل، لذلك لا يكون شعرا حسنا إلا إذا وافق المعيار، أي الشعر الجاهلي في بعض جوانبه، والالتزام بالمضمون الأخلاقي الديني، وبهذا أصبح ما يوافق من الشعر الأسس الدينية جيدا، وما يخالفه رديئا، وتحولت المعرفة الدينية إلى معيارية عامة، ومن ثم كان حديث أدونيس عن الثابث الأصل، وبهذا المعنى، أصبح النص الديني معيار كل شيء ومقياسا له، بحيث إن كل من خالفه أو سيخالفه من الشعراء يعد من مفسدي المعاني، لذلك أنكر علماء اللغة والنقاد الاجتهادات التي جاء بها أبو تمام وأبو نواس والنفري، ولنا في الموازنة التي أقامها الآمدي بين البحتري وأبي تمام خير دليل على ذلك، بل يذهب أدونيس إلى أن هذا المعيار الذي يشكل الأصل، هو الذي جعل أم جندب في الرواية المشهورة عن الأصمعي تحكم لعلقمة الفحل عوض زوجها امرئ القيس
يرفض أدونيس هذا الثابت أو السلطة التي تدعي أنها تملك الحق والحقيقة، وأنها مكتملة وتامة في ذاتها ولذاتها، إنه نفس التيار التقليدي الذي “رفض التجديد، فالنص كامل أبدا-جديد أبدا. فلا تقليد ولا تجديد بل سطوع مستمر للنص في كامل حضوره وبهائه” ، ويقصد النص الديني، ولذلك يعتقد أن التاريخ العربي هو تاريخ النظام والسلطة التي اكتسبت كمالها من الوحي، وهي نفسها التي تمثل الثقافة والفنون، أي الأصل الثابت الذي يجب أن لا يتجاوزه أحد.
والأصل لا يتعلق بالسبق الزمي، فالشعر الجاهلي مثلا، يقاس على معيار الثقافة الجديدة، أي الثقافة الإسلامية، لأن “الوحي من حيث إنه تأسيس وبدء مطلقان، يتجاوز الأزمنة: الماضي والحاضر والمستقبل، فهو الماضي من حيث إنه الأول، وهو الحاضر من حيث إنه مستمر، وهو المستقبل من حيث إنه الأخير المطلق” وبهذا يكون المعيار هو الأصل الذي يشير إلى الكمال، ويتجاوز، في الوقت نفسه، الواقع إلى ما وراء الطبيعة
ويعتقد أدونيس أن الدين جعل العرب لا يعيشون حياتهم كما يشتهونها، بل يعيشون من أجل الآخرة، ولذلك غابت الذاتية، وغاب معها تحديد وعي الإنسان العربي للحياة والكون والعالم، لأنه “حين يؤكد النقد التقليدي الشعري على عدم الخروج عن العادة، فإنه يؤكد على نفي ذات الشاعر، أي نفي باطن الإنسان توكيدا للظاهر السائد” ، لقد أصبحت العادة المتوارثة عن الأصل معيارا يحتذى به، وكلما ابتعدنا زمنيا عن الأصل زادت قيمته، وظن الإنسان العربي أنه يعيش في زمن اللاأصل.
وعندما أصبح الشعر على هذه الشاكلة، يروم إلى تهذيب سلوك الإنسان، ويسعى إلى سموه، أصبح ممارسة دينية، ليس له معنى إلا من حيث إنه “كلام حسن أو سيء: الحسن يأمر وينهى وفقا لما يأمر به الدين وينهي عنه، والسيء ما كان بخلاف ذلك” ومرد ذلك إلى الاعتقاد السائد بأن الدين يتضمن وجه الجمال الكامل، الذي لا يجب للأديب أن يتجاوزه، فهو جمال مطلق، جمال إلهي، وهذا سبب جعل أدونيس يوحد بين علم الجمال وعلم الأخلاق عند العرب.
وبعيدا عن الثابت على مستوى السياسة والفكر، ترتبط الشعرية العربية عند أدونيس بالشعر، أو بطريقة نظمه وأسباب اكتماله، وذلك بعد سنه لمجموعة من المفاهيم الإجرائية التي مكنته من مساءلة النص الشعري، ومن أبرز هذه المفاهيم نجد مفهومي الرؤيا والجمالية، وهما مرادفان للحداثة الشعرية في كتاباته، التي تتبعها في الموروث الشعري العربي منذ نشأة الشعر الجاهلي الذي أبرز فيه مدى تواسج الشعر مع الصوت الذي يمنحه رونقا وجمالا خاصا به، فيدعي أنها كانت شعرية شفوية، تقوم أساسا على التعبير الصوتي، لأن الشفوية تستدعي “السماع، فالصوت يستدعي الأذن، أولا، ولهذا كان للشفوية فن خاص في القول الشعري، لا يقوم في المعبَّر عنه، بل في طريقة التعبير” . إن الشعرية الشفوية الجاهلية، بهذا المعنى، تقوم على التعبير وطريقة الإلقاء، وهو ما يتعارض مع المعايير التي حددها النقاد القدماء في التمييز بين جيد الشعر ورديئه، فشعرية الشعر الشفوي الجاهلي، لا ترتبط بالمضمون أو الشكل الشعري فقط، بل بكيفية إلقائه وإيصاله للمتلقي أيضا.
لقد حاول أدونيس، وهو يتتبع مراحل الشعر العربي، أن يرصد العلاقة بين الشعر والإلقاء في الحياة الجاهلية، فكانت الشعرية العربية في هذه الفترة مرتبطة بالإلقاء والصوت والرنين والسماع، وهي خصائص عدها أساس المفاضلة بين الشعراء، كل هذا في سياق حديثه عن البداية الأولى للشعر ولنشوء القصيدة، فقد بدأ سجعا ثم رجزا ثم قصيدا ليتناول بالتفصيل كل مرحلة على حدة شارحا أهميتها ودورها في بناء صرح الشعري العربي، الذي شكل فيما بعد الأصل الثابت.
وستتغير مبادئ الشعرية الشفوية مع الخليل بن أحمد الفراهيدي الذي يعد “أول من نظر للشفوية الشعرية الجاهلية، في أهم خصائصها- عنيت الوزن والقافية…” فقامت شعرية جديدة تنبني على التقعيد للوزن والإيقاع، وهو سبب من أسباب تقييد الشعر، وانكفائه على نفسه بسبب القيود الشكلية حسب أدونيس.
ومافتئ أن اتسعت الرقعة الجغرافية للدولة العربية نتيجة الفتوحات الإسلامية، فاحتكت مجموعة من الأجناس البشرية فيما بينها، تأثيرا وتأثرا، انعكست على الشعرية العربية القديمة، لذلك ستظهر مجموعة من الكتابات التي حاولت الانتصار للأدب العربي القديم، وهو ما يجعل من الشعر الجاهلي أنموذجا يحتذى به، فكانت الشعرية الشفوية الجاهلية، كما يرى أدونيس، النموذج الراقي للشعر عند النقاد القدماء، لذلك اعتبر المدرسة النقدية القديمة القائمة على أصول الدين وعلوم اللغة عائقا في تحقيق الحداثة الشعرية، ويقصد بذلك مسايرة النقد للتطورات التي طرأت على القصيدة.
وبالرغم من أن النقد القديم، المبني على قواعد اللغة العربية والبلاغة القديمة، أعاق تطور الشعرية العربية، إلا أن القرآن أسهم – في نظر أدونيس – في تحديد هذه الشعرية وتطويرها، وليس العكس كما يعتقد البعض، إضافة إلى بعض الكتب التي أثرت في مسار الأدب العربي، والشعر منه خاصة، مثل “مشكل القرآن لابن قتيبة (توفي سنة 276ه) و”النكت في إعجاز القرآن” للرماني (توفي سنة 374ه)، و”بيان إعجاز القرآن” للخطابي (توفي سنة 388ه).
لقد كانت لهذه الكتب آثار بالغة في تحديد الشعرية العربية “ومعنى ذلك أن النص القرآني كان في هاتين القراءتين، وفي جميع الحالات، أساس الحركة الثقافية الإبداعية، في المجتمع العربي، الإسلامي، وينبوعها ومدارها غير أن القراءة الثانية هي التي مهدت، كما أرى للنقلة من الشفوية الشعرية الجاهلية إلى شعرية الكتابة” ؛ ويقصد تأثير القرآن في الكتابات الشعرية لأنه اتخذ أنموذجا للكتابة الأدبية.
ويضيف أدونيس في قراءته للشعرية العربية فكرة مغايرة لما كان سائدا في علاقة القرآن بتأسيس الشعرية العربية القديمة، وهي الفكرة التي تقول إن القرآن حد من تطوير الأدب وازدهاره، حيث يمكن القول “إن النص القرآني الذي نُظر إليه بصفته نفيا للشعر، بشكل أو بآخر، هو الذي أدى على نحو غير مباشر، إلى فتح آفاق للشعر، غير معروفة ولا حد لها، وإلى تأسيس النقد الشعري، بمعناه الحق”
ويرى أدونيس أن النقد في معظمه اتخذ الشعر الجاهلي أنموذجا يحتذى به، ومن خلاله تم تقويم الشعر اللاحق (شعر صدر الإسلام، والعصر الأموي، والعصر العباسي…)، بالإضافة إلى دور القرآن وبعض الكتب التي تحدثنا عنها سابقا في تحديد معالم الشعرية العربية القديمة، وقد قدم ثلاثة نماذج لدراسة علاقة الشعرية بالفكر، التي ستحدث تطورا كبيرا في النص الشعري، وستؤدي إلى حداثة شعرية، وهي النص النواسي والنفري والمعري، حيث يقول “أصف النص الشعري عند أبي نواس والنفري والمعري بأنه نص فكري- تخيلي: فكري لأنه يخترق حقول المعرفة في عصورهم، وينتج القلق المعرفي إزاء الدين والقيم والأخلاق، إزاء الله والغير، الحياة والموت وإزاء مختلف المشكلات الأخرى التي يواجهها الإنسان.. وتخيلي لا بمعنى أنه يصدر عن الخيال الحسي- النفسي، بل بالمعنى الصوفي كما يتجلى، خصوصا في النص النفري” ، وقد أبرز العلاقة السائدة في هذه الفترة المتمركزة على النظام المعرفي المتمثل في اللغة العربية والعلوم الشرعية، نحوا وبلاغة، وفقها وكلاما، هذا الاتجاه الذي رفض تساوق الشعر والفكر، واعتبره أدونيس من بين الأسباب التي أفسدت الحداثة الشعرية القديمة.
لقد ظهرت الذاتية عند الشعراء الذين ذكرناهم سابقا، وهي ذاتية تعكس رؤيا من العالم، ذاتية مستفزة للنظام المعرفي القديم، وهو ما يقصده أدونيس بالتحول أو الحداثة، فمن سيماتها أنها تقوم على تجاوز الأصل، فهي تمثل الصراع بين النظام القائم على السلفية والجديد المحدث المخالف له، والذي يجسد الرغبة في تغييره وتجاوزه، والحداثة بهذا المعنى “قول ما لم يعرفه موروثنا، أو هي قول المجهول من جهة، وقبول بلا نهائية المعرفة من جهة ثانية” لذلك كانت الحداثة تنبني على ثلاثة مبادئ:
– مبدأ الحرية الإبداعية دون أي قيد.
– مبدأ لا نهائية المعرفة، ولا نهائية الكشف.
– مبدأ التغاير والاختلاف والتعدد.
وأول تيارات الحداثة في العالم العربي، تيار سياسي فكري يمثله الخوارج وثورة الزنج والقرامطة، وانتشار الاعتزال والعقلانية، وقد اتخذت أبعادا مختلفة في الفن حيث لم يعد الشعر والأدب يقاس على الدين. وهكذا بدأت الحداثة في المجتمع العربي “كموقف يتمثل الماضي ويفسره بمقتضى الحاضر، ويعني ذلك أن الحداثة بدأت سياسيا، بتأسيس الدولة الأموية، وبدأت فكريا بحركة التأويل” .
لقد اتخذت الحداثة عند أدونيس بعدا ثوريا على الماضي، المشكل للأصل الثابت الذي يقاس عليه كل شيء، ومن أول الشعراء الذين خالفوا الأصل نجد بشار بن برد “على صعيد الكتابة الشعرية الوجه الأول، الأكثر بروزا لهذه الحداثة، فهو يعتبر أول المحدثين بالمعنى العام، ممن خرجوا على ما سمي “عمود الشعر العربي”” وتمثل هذا الخروج في كون اللغة الشعرية عنده أصبحت ذات أبعاد مجازية، وأصبح الشعر مع هذا التجديد، يتجاوز وظيفته التقليدية، فلم يعد يصدر عن قريحة وقادة، وإنما هو فن، وأضحى المضمون متجاوزا مقابل العناية بكيفية قول الشعر.
إنها بوادر حداثة تشكلت معالمها من خرق المألوف، والنظم على غير مثال سابق، وقد كان هذا سببا جعل النقاد يبعدون هؤلاء المحدثين من خانة الشعراء، ومن هؤلاء الشعراء أبا تمام الذي انتشل الشعر من الطبع إلى الصنعة “إنه يخلق في اللغة حيوية مستقلة، وشعره يحرك بدء من ذاته، من اكتفائه بذاته، ولا يحرك بموضوعه أو بأي عنصر خارجي، إن فعل شعره يتوالد من طاقته اللغوية الخاصة، إن شعره فعال بذاته” .
كما يرى أدونيس، أن العرب قد حاولوا طمس هذه الحداثة العربية، التي بدأت في مرحلة متقدمة من تاريخ الأدب العربي، لكن سرعان ما استلهموها من خلال تفاعلهم مع الغرب، و”في هذا نلتمس بعض الأسباب التي جعلت المفكرين العرب “الحديثين” يتكيفون بصدمة الغرب الحداثوية، وينظرون إلى الحداثة، بوصفها منجزا تقنيا في الدرجة الأولى- ومن هنا كانت الحداثة في المجتمع العربي ولا تزال شيئا مجلوبا من الخارج، إنها حداثة تتبنى الشيء المحدث، ولا تتبنى العقل أو المنهج الذي أحدثه. فالحداثة موقف ونظرة قبل أن تكون نتاجا” ، هكذا ينتقد أدونيس مدعي الحداثة من العرب.
وترتبط الحداثة الشعرية التي يؤرخ لها أدونيس بالعصر العباسي من خلال النماذج السابقة التي قام بدراستها، ويرجع أسباب نشأتها إلى مجموعة من العوامل، حيث “نشأت الحداثة العربية في حركة بثلاثة أبعاد: البعد المديني- الحضري بقيمه ورموزه، مقابل الصحراء أو البادية، وهذا ما أفصح عنه وأرساه، على نحو فريد شعر أبي نواس، والبعد اللغوي-المجازي، أو البلاغة والمجاز، مقابل ما يمكن تسميته بـ”بلاغة الحقيقة” كما تتجلى في الشعر الجاهلي. وأفصح عن هذا البعد وأرساه، على نحو فريد أيضا، شعر أبي تمام والكتابة الصوفية، وأخيرا بعد التفاعل مع ثقافات الآخر غير العربي، والتشبع بها إحاطة وتمثيلا” .
لقد كانت الحداثة عند أدونيس رؤية جديدة للحياة والكون، وطرقا جديدة في التعبير، إنها نفي للأصل من حيث هو معيار لكل شيء، فهو يشير، مثلا، إلى أننا “حين ندرس شعر أبي نواس يبدو أنه يكشف، بشكل عام، عن قضايا أربع متلازمة ومترابطة: عن محسوس جديد، أي نمط معين من الأشياء، وعن حدث جديد، أي نمط من الوقائع، وعن تجربة جديدة، أي نمط معين من الحياة، وعن لغة شعرية جديدة، أي نمط معين من التعبير” .
إنه تجاوز للنمط التقليدي للحياة العربية، مثل الوقوف على الأطلال ووصف النوق والصحراء، بل سخر أبو نواس من حياة البداوة، وبذلك أصبح يدعو إلى نمط آخر من الحياة، وهو نمط البلد أو المدينة، وهو ما يقتضي نمطا جديدا من التعبير، وهي حداثة مرتبطة بالمكان، أي البعد الحضري المديني، كل هذا جعل أبا نواس يُقدم على قطيعة مع الماضي، وهذا يعني أنه “لا يرث، بل يؤسس، ولا يكمل، بل يبدأ. إنه لا يعود إلى الأصل، وإنما يجد هذا الأصل في حياته ذاتها وبدء من تجربته” .
الواقع هو أصل التحول الذي شهدته هذه التجربة الشعرية، الواقع الذي يهيمن فيه المجون والخمر، وبهذا تكون الخمرة هي بؤرة التحولات، وبها ترتبط جميع الأشياء “إنها مفتاح يصلنا بالأبواب كلها. إنها صيغة لوجود كل شيء، واسم تصدر عنه تسمية كل شيء، وهي، إذن، النقطة التي تتلاقى فيها الذات والطبيعة، والتي تكشف عن أن النفاذ إلى أعماق الذات إنما هو، في الوقت نفسه، نفاذ إلى أعماق الطبيعة” .
وبهذا تكون حداثة أدونيس أقرب إلى ثورة على الأخلاق التي أقرها الأصل، فكان المجون سلاحه لرفض تقييد حرية الإنسان، ومنه رفض التقليد الشعري التقليدي، ورفض كذلك التقليد الديني، ليعوض نقصا شاملا أو ما كان يعتقد أنه كمال. وبالتالي يكون الفرق بين أبي نواس والشاعر التقليدي “هو أن هذا الأخير يصدر عن التأمل الذهني، فيلاحظ ويصف، بينما يرفض أبو نواس كل معرفة لا تكون معاناة ذاتية وغبطة وشعورا بالتآلف مع الكون” ، وهكذا أخرج أبو نواس الشعر من إطار ديني، يعكس أسسه وتوجهاته إلى إطار العلاقة بالواقع والذات.
ورغم أن شعرية أدونيس ترتبط بالشعر، أكثر من ارتباطها بجانب آخر، فإنها تنهل من الخصائص السوسيوثقافية للمجتمع العربي القديم والحديث، من خلال علاقتها بالشفوية والقرآن والفكر والحداثة، لذلك، الشعرية الحداثية هي نتاج هذا التفاعل بين العناصر التي تشكل مقومات الشعر العربي، ورؤية الإنسان للوجود، ومنه، فإن شعريته تركز على عناصر نصية وخارج-نصية.
إن ما قدمه أدونيس في كتاباته، يبين انتقاده للحركة النقدية القديمة، ولاختيارات النقاد أيضا، إذ “إن واقع الشعرية العربية القديمة لم يرض بال أدونيس، ويتضح ذلك في تعليق أدونيس عن الخطاب النقدي القديم فهو خطاب حصر القول الشعري في قواعد نظمية معينة بدلا من أن يظل حرا” .
نخلص إلى أن دراسة أدونيس للشعرية العربية، جعله يقرأ الإرث الأدبي العربي بأدوات حديثة أملاها التغير وتطور المناهج النقدية، فــ”القراءة التي ينادي بها أدونيس هي قراءة التعدد لإثبات قراءة تقرأ الماضي في ضوء الحاضر وبآليات جديدة، هذا النوع من القراءة فرضته الطبيعة الجديدة للنص الشعري في قيامه على خصائص كثيرة تعرف بها شعرية النص ومن هذه الخصائص، الغموض والفجائية والإختلاف والرؤيا والزمن في انبجاسه وتفجره من الداخل” . لقد ارتبطت الشعرية عند أدونيس بالعناصر السابقة، وهي التي تحدد جوهر الشعرية العربية، فهي ليست مجرد قواعد الإيقاع والنظم، وإنما تتجاوزها إلى السليقة والفكر والحداثة.
Discussion about this post