الواقع أن أزمة نقص الدولار تلقي بظلالها على الحكومة المصرية بعد عام كامل على الحرب الأوكرانية والانتهاء من إجراءات الوباء، وبعد حوالي 10 سنوات من استلام عبد الفتاح السيسي للحكم. العملة المصرية تنهار تباعًا أمام الدولار والحكومة بدأت بإجراءات رفع الدعم عن المواد الغذائية التي تستورد بالدولار ورفع الدعم عن البنزين. ارتفع أمس سعر البنزين للمرة السابعة بنسبة 10% أمام الهبوط الجديد للجنيه المصري، في عملية تبدو أنها تدريجية لرفع الدعم بالكامل. يبدو هذا السيناريو شبيهًا بالسيناريو اللبناني لولا أن دول الخليج قررت أن تكفل مصر لدى صندوق النقد الدولي للحصول على الدولارات الناقصة. كان لافتًا الدعم الخليجي لمصر من السعودية والإمارات تحديدًا. إلا أن شيئًا ما حصل، وتراجعت دول الخليج عن مساعداتها المشروطة.
أسباب الانهيار الاقتصادي في مصر
أسباب مشتركة حول المشاكل الاقتصادية التي يعاني منها العالم اليوم بفعل الحرب الأوكرانية، حيث أدى الارتفاع الحاد في أسعار القمح والبترول والواردات الأساسية الأخرى وتعطيل خطوط الإمداد. إلى ذلك، أثرت الأزمة الأكرانية على مصر بشكل خاص من باب السياحة، حيث كانت مصر تعتمد على السياح الروس والأوكرانيين لدخول الدولار إلى خزينة الدولة. وهكذا لم يتبقّ لدى مصر سوى قناة السويس إلا أنها غير قادرة على تغطية النقص إلا بشكل جزئي.
سيطرة المؤسسة العسكرية على الاقتصاد الوطني
واحدة من شروط صندوق النقد الدولي هو خصخصة أصول الدولة، وتحديدًا تلك التي يملكها الجيش. يتم تبرير سيطرة الجيش على ثلث الاقتصاد المصري بأن السيسي لدى استلامه السلطة عام 2014، لم يكن القطاع الخاص جاهزًا لرفع اقتصاد البلد، فتولت مؤسسات الجيش هذه المهمة، وبدأت بالتغلغل بعمق في الاقتصاد المصري. ولأول مرة، قد يصبح من الممكن الانفتاح على الاستثمار والمنافسة في القطاعات التي ظلت لعقود تحت سيطرة المؤسسة العسكرية. وإلى جانب الدخل من الخصخصة، يمكن أن يساعد ذلك أيضا في تصحيح العوائق الهيكلية التي أثقلت كاهل النمو في مصر لفترة طويلة. واقترح صندوق النقد الدولي وضع معيار للاستثمار الخاص تضعه هذه التدابير في السنوات الثلاث قيد المراجعة.
الدول الخليجية تضمن مصر لدى صندوق النقد
كانت مصر قد لجأت إلى صندوق النقد الدولي ثلاث مرات للحصول على خطط إنقاذ في السنوات الست الأخيرة قبل الجولة الأخيرة، التي انتهت بحصول مصر على 3 مليارات دولار من صندوق النقد الدولي. شرط آخر من شروط تقديم القرض هو ضمان الاستثمارات الخارجية التي يمكنها إدخال الدولار. بعث الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الشهر الماضي برسالة إلى حلفائه الخليجيين. “النقطة الأكثر أهمية هنا هي الدعم من إخواننا”، قال في القمة العالمية للحكومات في دبي، حيث كان ضيف الشرف. وكان يشير إلى عشرات المليارات من الدولارات من عمليات الإنقاذ التي تلقتها بلاده من ممالك الخليج الغنية على مدى العقد الماضي.
تعهدت الدول الخليجية بذلك التي يمكنها أن تحصل الآن على المزيد من الاستثمارات للاستحواذ على أصول كبيرة في الشركات المصرية الكبرى. في العام الماضي، ساعدت استثمارات دول الخليج في تخفيف بعض المخاوف التمويلية المباشرة التي واجهتها مصر، في المقابل يتوسع مجال النفوذ لهذه الدول في المنطقة.
أشار تقرير حديث لصندوق النقد الدولي إلى أن دول الخليج كان لها نصيب الأسد من عمليات الاستحواذ في السوق المصرية خلال العام الماضي في وقت كانت هناك خطة حكومية “لبيع الأصول المملوكة للدولة” لسد فجوة تمويلية بقيمة 17 مليار دولار على مدى السنوات الأربع المقبلة. في تقرير نشر في ديسمبر، قالت مجلة أخبار الأعمال المصرية إنتربرايز إنه في عام 2022، تم الانتهاء من 66 عملية اندماج واستحواذ في مصر، أي أكثر من ضعف المعاملات في عام 2021. وكان على رأس المستحوذين صندوق أبو ظبي للثروة السيادية (ADQ Holding Company) وصندوق الاستثمارات العامة السعودي، اللذان أبرما 40 صفقة، وضخا نحو 3.1 مليار دولار “للاستحواذ على حصص أقلية كبيرة في بعض أقوى الشركات المدرجة في البورصة المصرية من الحكومة”، وفقا لتقرير إنتربرايز.
الدول الخليجية تضع أيضًا شروطًا للاستثمار
لكن الدائنين الخليجيين يغيرون الطريقة التي يقدمون بها الدعم المالي لحليفهم في شمال أفريقيا، هذه المرة، يريد حلفاء الخليج، وخاصة المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، رؤية الإصلاحات. وقد عبر عن التحول الواضح في السياسة بوضوح محمد الجدعان، وزير المالية السعودي، في المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس بسويسرا في يناير / كانون الثاني الماضي. وقال إنهم اعتادوا تقديم منح وودائع مباشرة “دون قيود”، دون تحديد المستفيدين، وأضاف “نحن نغير ذلك لأننا نعمل مع المؤسسات متعددة الأطراف لنقول بالفعل إننا نريد أن نرى إصلاحات”.
كشفت بلومبرج أن السعودية وقطر وبقية الحلفاء الخليجيين خصصوا أكثر من 10 مليارات دولار لمصر، التي كانت في حاجة ماسة إلى النقد الأجنبي، مما دفعها إلى بيع أسهم في مجموعة من الشركات المملوكة للدولة. ومع ذلك، لم يصل سوى جزء صغير من هذا التمويل، في حين قالت مصادر مطلعة إن هذا يرجع إلى أن المسؤولين الخليجيين يراقبون ما ستصل إليه قيمة العملة المحلية بعد ثلاث تخفيضات في قيمة العملة خلال العام الماضي. وأضافت أن دول الخليج تريد التحقق من جدية مصر في تنفيذ الإصلاحات التي وعدت بها صندوق النقد الدولي بالحصول على قرض بقيمة 3 مليارات دولار. وترى الوكالة أن دول الخليج لا تقدم هذه الاستثمارات كصدقة لمصر ولكنها تستثمر لأنها لطالما اعتبرت مصر أحد المحاور الرئيسية في النظام الإقليمي ومركزا حيويا لطرق الطاقة والتجارة.
وفي العام الماضي، اشترى صندوق الاستثمارات العامة السعودي حصصا مملوكة للدولة في أربع شركات مصرية مدرجة في البورصة مقابل 1.3 مليار دولار.
وافق جهاز أبو ظبي للاستثمار على صفقة بقيمة ملياري دولار تضمنت شراء حصة تبلغ حوالي 2 في المائة من أسهم البنك التجاري الدولي، أكبر بنك مدرج في البورصة. واختتمت بلومبرج تقريرها بالقول: “القوى الخليجية، التي قدمت الودائع النقدية والنفط خلال الأزمات السابقة، تبدو الآن مصممة على رؤية عوائد ملموسة على الاستثمار في البلاد. وقد يعمق ذلك مشاركتها في القطاع الخاص المصري الذي يشكو منذ فترة طويلة من أنه يواجه منافسة غير عادلة من الشركات الحكومية خاصة تلك التابعة للجيش مما يردع الاستثمار الأجنبي على نطاق واسع.
ماذا تريد الدول الخليجية من السيسي
أعلن رئيس الوزراء مصطفى مدبولي في 9 يناير/ كانون الأول 2023، أنه حتى نهاية السنة المالية المصرية في يونيو / حزيران، ستكون هناك قيود صارمة على جميع النفقات الحكومية بالعملة الأجنبية، بما في ذلك السفر إلى الخارج، وعلى عمليات الاستحواذ من قبل معظم الوزارات الحكومية، باستثناء وزارات الدفاع. ستحتاج الاستثناءات إلى إذن على أعلى مستوى. يرى مراقبون أنّ هذا لن يؤدي إلى إخراج مصر من صعوباتها، لكن كان المقصود منها أن تكون رسالة، ودليل على اعتراف النظام بخطورة مأزقه، موجهة إلى كل من صندوق النقد الدول، والدول الخليجية. إلا أن ما تريده الدول الخليجية هو أن تخرج المؤسسة العسكرية من السوق. في الحرب الإعلامية الأخيرة التي حصلت بين مصر والسعودية، والتي دخل فيها الإعلاميون من المستويات الأقرب إلى الرؤساء، صوّب الإعلام السعودي كثيرًا على مؤسسة الجيش، بادر الًصحفي السعودي المشهور تركي الحمد، وهو شخص مقرّب من ولي العهد السعودي، إلى نشر تغريدة يقول فيها: “هيمنة الجيش المتصاعدة على الدولة وخاصة الاقتصاد بحيث لا يمر شيء في الدولة المصرية إلا عن طريق الجيش، وبإشراف الجيش، ومن خلال مؤسسات خاضعة للجيش، ولصالح متنفذين في الجيش، كما يرى بعض المراقبين مكامن الأزمة وجذورها، وكل ذلك على حساب مؤسسات المجتمع”.
وبعدها غرّد خالد الدخيل، وهو صحافي سعودي معروف أيضًا: “ما يحصل لمصر في السنوات الأخيرة يعود في جذره الأول إلى أنها لم تغادر عباءة العسكر منذ 1952. انكسرت في يونيو 67، وتبخر وهج 23 يوليو كما عرفه المصريون والعرب. لكن سيطرة الجيش على السلطة وعلى اقتصاد مصر لم يسمح ببديل سياسي اقتصادي مختلف”.
الكيان المؤقت يشجّع دول الخليج لمنع انهيار النظام المصري
الواقع أن التوغل العميق للمؤسسة العسكرية في الاقتصاد المصري، يجعل من الصعب الخروج منه بالسرعة المبتغاة. ليس من السهل عمليًا أن تخرج هذه المؤسسات من المنافسة بسرعة بدون أن يحصل صدمة للاقتصاد المصري، وسيكون لذلك تأثيرات اجتماعية حادة واقتصادية متعددة. إنها تحتاج إلى وقت، وليس معلومًا بعد الوقت الذي تحتاجه. وإلى ذلك الحين، سيبقى الوضع معلّقًا إذا استمرت الدول الخليجية بجعل الأمور أكثر صعوبة لإنقاذ الدولة المصرية من الانهيار. عيران ليرمان وهو عقيد متقاعد ونائب مدير مجلس الأمن القومي السابق في الكيان المؤقت، نشر مقالًا حذّر فيه من انهيار النظام المصري الحالي، وما له من تداعيات على الأمن القومي الإسرائيلي. وفي إحدى السياسات المقترحة، أوصى بتشجيع دول الخليج، على تحقيق إمكانات الاستثمار التي حددها صندوق النقد الدولي، وأوصى الحكومة الإسرائيلية باستخدام مجموعة من السبل الدبلوماسية المتاحة، بما في ذلك منتدى غاز شرق المتوسط ومنتدى النقب، فضلا عن المشاورات الاستراتيجية الثنائية مع الولايات المتحدة والقوى الأوروبية، لدعم السياسات التي يمكن أن تساعد مصر على تخليص نفسها من مأزقها الحالي.
المصدر الخنادق
Discussion about this post