في المجلد الأول من كتابه رأس المال، كتب كارل ماركس:”التداول يتعرّق المال من كل مسام/ Circulation sweats money from every pore “. واليوم، فإن التجارة العالمية، مثلها مثل الدبلوماسية العالمية، أو كتفًا بكتف، تتعرّقان الأسلحة عند كلّ فرصة. لقد أصبح الإرهاب على حد تعبير المؤرخ الحربي والمنظر العسكري كلاوزفيتز، “اقتصادًا بوسائل أخرى”، قال ذلك قبل أن يتوفى في العام1831. وعليه لا تعتبر قضية التسليح الأمريكي لداعش أو بدفع منها، ومن ثمّ محاربتها، تكتيكًا جديدًا، بل سوق جديد على هامش المكاسب السياسية. وهو نفسه ما فعله الفرنسيون في إفريقيا في السنوات التسعة التي أعلنوا فيها الحرب على إرهاب ما يسمونه “الجهاديون” في دول غرب إفريقيا.
اللافت أن الإرهاب في هذه الدول ازدادت هجماته خمسة أضعاف بعدما أعلنت فرنسا بمساعدة من الولايات المتحدة حربهم على الإرهاب. يفخر الجيش الفرنسي بالإعلان عن “انتصارات” في منطقة الساحل تحت اسم “عملية برخان”، مثل تدمير مستودعات الذخائر أو السيارات أو المعسكرات أو، “تحييد” neutralization الجهاديين كما يعبّر خطاب أخبار الجيش الفرنسي ويتبناه بعض الأفارقة، ويقصدون بها “القتل”.
ولكن في البيانات الرسمية معظم ضحايا عملية برخان مجهولون، ولا نعرف عنهم شيئًا سوى أنهم قتلوا في تبادل لإطلاق النار أو غارة جوية، في مكان غالبًا ما يتمّ تحديده بشكل غامض، دون الكشف عن السبب الحقيقي لوفاتهم أو ما حدث لجثتهم. ولم يتم إثبات إدانتهم الفعلية أبدًا – ولا يتم التشكيك فيها من قبل وسائل الإعلام التي تنقل البيانات الصحفية الرسمية، أكثر من عضويتهم فيما يسمى بجماعة إرهابية مسلحة.
في الإعلام الغربي والمراجع الغربية، ستجد اعترافات بأن مقاربة فرنسا لمكافحة الإرهاب في منطقة الساحل أدت إلى تفاقم الأزمة الأمنية في المنطقة، دون إشارة واضحة إلى المقاربة الفعلية، بل حصرها بعدم كفاية الدعم اللوجستي، وعدم سماح الولايات المتحدة لمجلس الأمن بالتدخل. وبذلك يقع اللوم على سياسة التقليل من قدرة المجتمع الدولي على مكافحة التطرف في غرب إفريقيا، وتقليص البنتاغون إمكانية وصول القوات الأمريكية التي تقاتل هناك، تقليصها إلى رحلات الإجلاء الطبي فقط. وبالطبع، سيتّهمون مقاربات روسيا والصين للأمن الإقليمي التي أدت أيضًا إلى تفاقم هذه المشكلة.
لكن هل هذه هي الحقيقة؟
كان واضحًا بالنسبة للانقلابيين الذين أطاحوا بالحكومات الموالية لفرنسا في كل من مالي وبوركينا فاسو والنيجر، كان واضحًا لهم بأنّ الحرب ضدّ الجماعات الجهادية والجريمة المنظمة هو عملية “تداولية” (بالمعنى الذي أورده ماركس) بالنسبة للكر والفر وعدم الانتهاء من المعركة بين فرنسا والجهاديين. يقول نشطاء ومحللون في النيجر إن السكان لا يفهمون لماذا تستمرّ الهجمات الإرهابية بالنظر إلى الوسائل الكبيرة المتاحة للقوات الفرنسية. وشكك آخرون في دوافع فرنسا التي لها تاريخ طويل من التدخل العسكري والناعم في إفريقيا بعد الاستعمار، إذ سعت هذه التدخلات فقط إلى حماية المصالح الفرنسية، ودعم وتمكين الموالين لهم ومعاقبة واستبعاد بل تصفية المخالفين من النخب والرؤساء والقادة.
تقول أمينة نياندو وهي رئيسة رابطة محترفي الاتصالات الأفارقة بأن النيجيريين قد لاحظوا ما يحدث في مالي وبوركينا فاسو، وهم يعتقدون بأن الهجمات الإرهابية ترعاها القوات الفرنسية. إلى ذلك، كانت مالي قد اتهمت فرنسا رسميًا بتسليح المقاتلين الإسلاميين وتنفيذ أعمال تجسس، في رسالة موجهة إلى مجلس الأمن الدولي، تحدثت فيه عن 50 انتهاك جوي خلال فترة 6 أشهر التالية لانسحاب القوات الفرنسية من مالي، وذلك لجمع معلومات لصالح الجماعات الإرهابية في منطقة الساحل وإسقاط الأسلحة والذخائر جوًا.
أما عن الصراع في مالي، ففي الفترة بين 2012-2013 ساهمت المغامرات العسكرية لفرنسا والولايات المتحدة في ليبيا بعد الإطاحة بالرئيس الليبي معمّر القذافي، وبمساعدة إيطاليا، ساهمت في كارثة مالي التي تدخلت فيها فرنسا عسكريًا في عام 2013. فبعد إيطاليا، كانت فرنسا ثاني أكبر مورد للأسلحة إلى ليبيا من 2005 إلى 2009. ثم نشر الفرنسيون جنودهم في مالي تحت حجة سدّ التسريب للأسلحة الفرنسية من ليبيا إلى أيدي المتمردين الماليين، مما يهدد الهيمنة الاستعمارية الفرنسية الجديدة في غرب إفريقيا. كما وجدت الأسلحة المسربة طريقها إلى بوكو حرام في نيجيريا.
ولكن ماذا عن هؤلاء “الجهاديين”؟
بحسب تقارير الـ UNDP فإن “الرجال والنساء في صفوف الجماعات الجهادية المسلحة في منطقة الساحل، لا يتناسبون جميعًا مع الصورة الكاريكاتورية الإعلامية للمتعصبين الدينيين، الذين هم على استعداد للموت في تفجيرات انتحارية من أجل فرض الشريعة على إخوانهم المسلمين ويرون أنفسهم جزءا من “جهاد عالمي” غير محتمل. وبنفس الطريقة، فإن بعض هذه الجماعات أشبه بالتمردات المحلية، التي تغذيها القضايا الاجتماعية والاجتماعية والاقتصادية بدلا من نتاج حرب دينية عالمية”.
وفي عام 2016، أجرى معهد الدراسات الأمنية مقابلات في مالي مع 63 مقاتلًا سابقًا تتراوح أعمارهم بين 17 و75 عامًا، تم تجنيد 19 منهم في السجون. وأظهرت هذه المقابلات أن “عوامل غير اقتصادية أو دينية أو أيديولوجية تفسّر وجود الشباب في صفوف الجماعات الجهادية المسلحة في مالي”. وهكذا، فإن “الحاجة إلى حماية الذات وأفراد الأسرة، أو المجتمع، أو النشاط المدرّ للدخل، تبدو عاملًا مهمًا في معظم الحالات التي وثّقتها هذه الدراسة، ولم تتوقف مشاركة الشباب على العوامل الدينية ولم تكن نتيجة للتلقين الديني”.
وتوصلت دراسة أخرى أجرتها منظمة ميرسي كورب غير الحكومية، بشأن 47 عضوا سابقًا في بوكو حرام، إلى أنّ معظم الشبان أجبروا على الانضمام إلى الجماعة أو الإعدام، أو رؤية عائلاتهم تقتل. “اجتاحت بوكو حرام قريتنا وأخبرت جميع الشباب أن عليهم المجيء معهم أو القتل. حاولنا المقاومة، ولكن عندما قتلوا أول من رفض، ذهبنا جميعًا معهم»، أوضح رجل للمحاورين من المنظمة.
لكن ماذا تقول الحكومة الفرنسية لمواطنيها؟
“قيل لنا إن فرنسا في حالة حرب مع نفس الجهاديين الذين هاجموا شارلي إبدو أو لو باتاكلان، أو أولئك الذين انضموا إلى داعش في الشرق الأوسط”. يقول أحد الصحفيين الفرنسيين. أما نحن كصحفيين من الدول المتهمة باستغفال الشعوب وتكميم الأفواه، لا ندري لماذا ليس معلومًا لهذه الشعوب التي يفترض أنها تعيش في جو من الانفتاح على المعلومات وحرية الصحافة والإعلام، أنه ليس واضحًا لديها لحدّ الآن أنّ داعش من صنيعة الولايات المتحدة، وبأن الجهاديين في إفريقيا هم نفسهم ولكن بالنسخة الفرنسية.
المصدر: الخنادق
Discussion about this post