استكملت روسيا مناوراتها البحرية الأخيرة، درع المحيط 2023، في مياه بحر البلطيق، بمشاركة نحو 30 سفينة حربية وأسطول دعم عماده 20 قطعة و 6،000 عنصر. وأعلنت وزارة الدفاع الروسية أن من بين مهام المناورة “تحريك قوات إلى منطقة البلطيق”، وضمناً إلى جيب كالينينغراد، ما سجّل ارتفاعاً في منسوب التوتر لدى قادة حلف “الناتو” والقلق أيضاً، خصوصاً بعد إقراره عضوية كل من فنلندا والسويد المتشاطئتين عليه، واعتباره المناورات تحدياً لسيطرته نظراً لاعتباره المنطقة “بحيرة للناتو”.
تفاقمت الأوضاع مجدداً عقب اتهام بولندا لجارتها بيلاروسيا بانتهاك طائراتها المروحية أجواءها، والتي لم تسجّل أجهزة راداراتها للأجسام الطائرة استشعارها بالسرعة المطلوبة. كما أرسلت بولندا “تحذيراً” لمجموعة “فاغنر”، المرابطة في أراضي جارتها، من السعي لاختراق حدودها متنكّرين “بزيّ مهاجرين مدنيين أو هيئة حرس حدود بيلاروسيين”، بحسب تصريح رئيس وزراء بولندا ماتيوز موراويكي، 28 تموز/يوليو 2023.
في واشنطن، نفى المتحدث باسم مجلس الأمن القومي جون كيربي عِلم واشنطن بأي تهديد يشكله وجود قوات “فاغنر” في بيلاروسيا على بولندا أو أعضاء آخرين في حلف “الناتو”، مستطرداً أن الإدارة الأميركية “تراقب الوضع من كثب”، بالتزامن مع بدء بولندا نشر أكثر من 1000 جندي بالقرب من الحدود المشتركة مع بيلاروسيا. (وكالة “رويترز”، 1 آب/أغسطس 2023).
أنظار طرفي الصراع، روسيا وحلف الناتو، مشدودة نحو ممر “سوفالكي” الاستراتيجي، الفاصل بين دول البلطيق وأوروبا، والذي تم انتزاعه من ألمانيا بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى ومنح الحلفاء جزءاً منه إلى بولندا، ولا يزال مصدر توتر العلاقات البلدين إلى الآن.
ويشكّل الممر مصدر قلق إضافياً لأطراف الحرب الدائرة في أوكرانيا، إذ ستعزل السيطرة عليه دول البلطيق الثلاث، بولندا وليتوانيا وبيلاروسيا، عن بقية دول الناتو. كما يفصل الممر بيلاروسيا عن مقر اسطول بحر البلطيق الروسي في كالينينغراد. أما السيطرة عليه فتمنح القوات الروسية وحليفتها البيلاروسية ميزة استهداف وعرقلة أي امدادات عسكرية تتحرك براً من بولندا إلى ليتوانيا.
سعت بولندا لاستغلال مكانتها الفريدة لدى حلف الناتو بمطالبته إنشاء قاعدة عسكرية قوامها فرقة مدرّعة، وأرجأ الحلف قراراً بهذا الشأن لخشيته من تمدد رقعة انتشاره وصعوبة الدفاع عنها لاحقاً، واستعاض عنها بإجراء مناورات عسكرية متتالية بالقرب من الممر.
لدى حلف “الناتو” وجود عسكري دائم في محيط الممر الاستراتيجي، يضم: لواء الذئب المدرّع الميكانيكي، والفوج 185 من سلاح المشاة الأميركي، يعاونهم نحو 400 عنصر من سلاح الفرسان الملكي البريطاني. وفي المحيط القريب، يرابط نحو 40،000 عسكري تابع لقيادة حلف “الناتو” بالإضافة إلى عدد من الوحدات العسكرية البولندية التابعة لقيادة الحلف. كما “وعد” رئيس الحلف يانس ستولتنبيرغ بتعزيز القوات العسكرية بنحو 300 ألف عنصر كجزء من “قوات رد الحلف” على المخاطر.
وأشد ما يخشاه صنّاع القرار في واشنطن مطالبة روسيا بممرّ مباشر من بيلاروسيا إلى كالينينغراد، الأمر الذي “قد يفك ارتباط دول البلطيق بحلف شمال الأطلسي” (مقالة بقلم أحد أعمدة المحافظين الجدد روبرت كايغان في “واشنطن بوست”، 21 شباط/فبراير 2022).
تتضاعف أهمية ممر سوفالكي الضيق، وطوله 60 ميلاً، بوجود “المنتجعات الصحية والبحيرات الساحرة والتاريخ العنيف”، وفيه قضى الزعيم النازي هتلر معظم سنوات الحرب العالمية الثانية متحصناً في أحد مخابئه. وتزخر الأدبيات الأميركية بشكل خاص بالإشارة إلى “وجود نحو 30 ألف جندي روسي في بيلاروسيا”، مزودين بأسلحة هجومية وبطاريات صواريخ أس-400، للدلالة على “إحدى أبرز أوراق الضغط التي يملكها الرئيس الروسي” ضد الغرب بشكل عام في حال اندلاع مواجهة مع حلف “الناتو.”
تحضيراً للمعركة المقبلة بشأن ممر سوفالكي، نظرياً على الأقل، تكشف الدوائر العسكرية الأميركية نيّاتها بتعالٍ وعنجهية مطالبة الإدارة بـ “ضمان الوجود الدائم للدروع والطيران القتالي والحرب الإلكترونية والطائرات المسيّرة والمهندسين ووحدات الدفاع الجوي. كما يجب على إيطاليا وإسبانيا وفرنسا – نظرا لحجمها العسكري وأهميتها في التحالف – الالتزام بتركيز وحدات قابلة للتشغيل المتبادل بحجم كتيبة قوامها 800 جندي في قواعد دائمة في بولندا أو ليتوانيا أيضًا” (دراسة صادرة عن “كلية الحرب التابعة لسلاح الجيش الأميركي”، 19 تموز/يوليو 2020).
كما تعوّل أيضاً على “استمرار وحدة حلف الناتو” في مواجهة روسيا، على الرغم من التصدع داخل دول الحلف بدرجات متفاوتة، وبروز تحديات أكثر جرأة للنفوذ الأميركي والغربي بشكل عام، خصوصاً في إفريقيا.
يوضح الخبير في الشؤون الروسية ومدير برنامج “أوراسيا” في معهد “كوينسي”، أناتول ليفين، عوامل أربعة لاستمرار “وحدة” الناتو: حالة الاقتصاد الأوروبي؛ مخاطر التصعيد إلى حرب نووية؛ تراجع الثقة بانتصار أوكرانيا؛ إقدام روسيا على وقف إطلاق النار (وكالة “دوتشي فيلي” الألمانية، 25 شباط/فبراير 2023).
بيد أن التحركات الأخيرة لروسيا باتجاه تعزيز مواقعها في كالينينغراد ومواردها العسكرية أيضاً ستعرقل قدرة حلف الناتو على فتح جبهة استنزاف جديدة طويلة الأمد، على غرار أوكرانيا، وذلك بالرغم من الدعوات الرغائبية في واشنطن تحديداً لـ ” التحسين السريع للبنية التحتية ذات الصلة عسكريًا في منطقة سوفالكي، وتعزيز صفوف قوات الحلفاء بشكل كبير ودائم في شمال شرق أوروبا، كما يجب على التحالف أن يأخذ في الاعتبار مستويات القوة الروسية والقدرات العسكرية المزعزعة للاستقرار الموجودة في كالينينغراد وبيلاروسيا، وأن يقترب من مطابقتها على الأقل من الناحية النوعية من أجل ردع موسكو” (نشرة “فورين بوليسي”، 3 آذار/مارس 2022).
Discussion about this post