كتب د. بسام أبو عبدالله – قد يستغرب الكثيرون هذا العنوان، وقد يرى آخرون أن فيه مبالغة فيما يخص التعريب في مواجهة التتريك، لا بل إن البعض قد يرى أن اللاجئين السوريين داخل تركيا معادون لبلدهم، وهربوا من اضطهاد النظام كما يروج «الإخونجية»، وبعض المعتوهين داخل نظام أردوغان، وآخرهم أحد مستشاري أردوغان وهو أيهان أوغان الذي كتب تغريدة في 22 تموز الماضي رأى فيها أن حكومة بلاده لها رأي أكبر في مستقبل سورية، حسب تعبيره ضيق الأفق والمريض، إذ أكد أوغان أن أنقرة ستنشئ خطاً أمنياً جديداً فيما يسمى المناطق الآمنة من حلب إلى الموصل، إذا تمّ تجاهل ما سماه المخاوف الأمنية لتركيا، واستمرت الأعمال الاستفزازية لـ«قسد»!
الآن دعونا من تصريحات أردوغان وأمثاله من ضيقي الأفق، أو عنتريات وبندريات بعض المسؤولين الأتراك وفقاً لتعبير الرئيس بشار الأسد، أو أردوغان الذي أراد أن يصلي في الجامع الأموي.
هنا سأتحدث عن ديناميات غير مرئية يتجاهلها مستشارو أردوغان، أو يدفنون رأسهم في الرمال كالنعامة، ولا يتجرؤون في الحديث عنها، ومنها: من قال لكم إن السوريين في تركيا هم ورقة تستخدمونها متى تشاؤون وتتحدثون باسمهم، وتقررون عنهم، وتعتبرونهم معادين لبلدهم، وشعبهم، وإنهم أصبحوا أتراكاً، ومن أنصار حزب العدالة والتنمية، والحقيقة أن هناك تضليلاً كبيراً في هذا الأمر، وسأحاول أن أكشف في هذا المقال بعض الحقائق التي قمت بتدقيقها من خلال مصادر بحثية تركية، وغيرها من المصادر الأخرى، وهذه الحقائق لابد من ذكرها ليعرف الرأي العام السوري، والعربي بعضها:
1- لم يتوقع السوريون أو المسؤولون الأتراك أن الحرب على سورية سوف تطول، وأن أعداد السوريين الذين سيأتون إلى تركيا ستصل إلى أربعة ملايين شخص، وحسب بيان وزارة الداخلية التركية وصل عدد السوريين الذين يحملون بطاقة «حماية مؤقتة» إلى 3.691.133 ملايين أي 4.36 بالمئة من إجمالي التعداد السكاني البالغ 82.003.882 مليون نسمة، خاصة أن الرواية أو السيناريو الذي كان موضوعاً هو أن الدولة السورية ستسقط خلال أشهر قليلة، وستتحول هذه الكتلة البشرية السورية إلى ورقة رابحة بيد الحكومة التركية منطلقين من الشعار المنافق الذي أطلقه «الإخونجية» في بداية الحرب أي «المهاجرين والأنصار» لدغدغة مشاعر السوريين، ودفع الأتراك للقبول بإخوانهم السوريين الفارين من «اضطهاد النظام وسطوته»!
2- يتذكر الجميع أن بناء المخيمات للسوريين بدأ على الحدود السورية التركية على «النقطة صفر» قبل أن تنطلق رصاصات الإرهاب والإرهابيين، وكان التفكير آنذاك أن المخيمات ستحقق هدفين:
الأول: هو استجرار العواطف والتجارة بآلام الناس، لجلب الموازنات والأموال باسمهم، والثاني: تحويل المخيمات إلى غطاء لإخفاء الإرهابيين، وتحركهم على الحدود بين البلدين، وما حصل لاحقاً أن فتح الحدود السورية التركية لكل السوريين أدى إلى انتقال أعداد هائلة لأسباب مختلفة، وهذه الأعداد الكبيرة لم يكن بالإمكان تنظيمها، وضبطها، فتحول أكثر من 98.3 بالمئة من السوريين للعيش في المدن التركية المختلفة، ونتيجة طول مدة الحرب التي لم يتوقعها كثير من المسؤولين ليس في تركيا وإنما في العالم، إذ وضع الجميع سيناريو واحد وهو سقوط الدولة السورية، ولم يتوقعوا في أحسن السيناريوهات تمكن الشعب السوري وجيشه وقيادته من الصمود الأسطوري الأمر الذي حوّل الأوراق التي كانوا يراهنون عليها ومنها ورقة اللاجئين إلى كرة نار يتقاذفونها لتحرقهم بلداً إثر الآخر.
3- إن التمركز الأساسي للسوريين حدث في المحافظات الحدودية منذ البداية أي في لواء اسكندرون، غازي عنتاب، كلس، أورفة، ماردين، سيرت، أضنة، حيث تشير التقديرات إلى وجود أكثر من مليون وأربعمئة ألف سوري في هذه المدن الحدودية، ويعود السبب في ذلك لوجود أربعة ملايين عربي فيها ممن يحملون الجنسية التركية، ولقرب هذه المناطق من سورية، والتي هي أساساً أراض سورية ضمت لتركيا بموجب اتفاق لوزان 1923، وبالتالي فإن هناك عاملين تحركا هنا: العامل الثقافي: اللغة العربية، والعامل الجغرافي: القرب من سورية، أي الهوية والانتماء، إضافة إلى الجغرافيا.
4- تشير دراسة أجراها البروفسور التركي مرات أردوغان تحت عنوان «مؤشر الضغط للسوريين: إطار العيش المشترك والانسجام مع السوريين»، وأجريت عام 2019 إلى حقائق مهمة للغاية تكشف الواقع الحقيقي، وكذب تصريحات بعض المسؤولين الأتراك، ومنها:
– أن التقارب الاجتماعي في بداية الحرب، واستخدام الشعارات الرنانة حدث نتيجة اعتقاد الأتراك أن تدفق السوريين هو حالة مؤقتة، لكن مع مرور الوقت وتحول الأمر إلى الديمومة والاستقرار يلاحظ أن علامات التقارب الاجتماعي تضعف، وتتحول إلى نوع من التمييز والاضطهاد، لينتقل الأمر على مراحل من: الاحتواء والترحيب، إلى الانزعاج الداخلي أو اللفظي، إلى التحريض السياسي، إلى التمييز والنبذ، وصولاً إلى الاستهداف المباشر.
– بدأ المجتمع التركي يضع مسافة اجتماعية بعيدة بينه وبين السوريين، واتسعت هذه المسافة كثيراً مع مرور السنوات بما فيها قضية «عدم التشابه الثقافي» إذ أظهرت دراسة عام 2014 أن نسبة 70.6 بالمئة من الأتراك يرون أن لا تشابه ثقافياً بينهم وبين السوريين، وهذه النسبة زادت إلى 80.2 بالمئة عام 2017، وإلى 81.9 بالمئة عام 2019، وقد تكون وصلت إلى 90 بالمئة عام 2021-2022، وهذا يعني أن قضية الهوية واللغة ستتحرك بالطبع لدى السوريين ضمن إطار رفض الأتراك لهم، حيث تشير آراء ودراسات إلى أن الكثير من السوريين لم يتعلموا اللغة التركية، وكثيراً منهم خلقوا شبكات خاصة بهم، وهوية سورية وعربية، ولذلك يقول البروفسور مرات أردوغان في دراسته البحثية إن هذا خلق لدى السوريين بيئة ثقة خاصة بهم، ومجتمعهم الخاص، نتيجة الأعداد الكبيرة وشبكات علاقاتهم بين بعضهم، ما أثار مخاوف المجتمعات المحلية التركية.
تظهر الدراسة التركية أن 76.5 بالمئة من الأتراك اعترضوا على منح أي سوري الجنسية التركية، والذين بلغ عددهم حوالي 130 ألفاً، والبعض يتحدث عن 200 ألف مجنس، وبالمناسبة فإن الحكومة التركية حينما تمنح الجنسية تعطي الشخص المجنس اسماً تركياً، وتحتفظ في سجلاتها باسمه الأصلي، ومن اللافت أيضاً أن عدم رغبة السوريين بالعودة لا ترتبط بأسباب سياسية، أو ما يروج له منافقو ومرتزقة المعارضة، بل أشارت الدراسة إلى أن 76 بالمئة تحدثوا عن الأمن والأمان، وعودة الاستقرار لسورية، على حين أن نسبة من تحدثوا عن تغيير النظام لم يتجاوز 7. 5 بالمئة وفقاً لمعطيات 2019 وقد تكون هذه النسبة قد تدنت أكثر الآن بعد سنتين من إجراء الدراسة، أي إن ما يروج من حديث سياسي، وادعاءات إعلامية لا علاقة لها بالواقع أبداً.
يخلص الباحث التركي في دراسته للقول إن القبول الاجتماعي للسوريين يميل للهشاشة والنفاذ، وإن الحديث عن التقارب الثقافي والعاطفي غير كاف في ظل الأعداد الكبيرة للسوريين دون تطوير سياسات انسجام يمكن تطبيقها، ذلك أن عملية الانسجام عملية معقدة وعاطفية ومكلفة للغاية، كما أن الإشكالية ليست لدى السوريين الذين يمتلكون قابلية للانفتاح، لكن الإشكالية لدى الأتراك الذين يرون الآن بنسبة عالية أن السوريين تسببوا بمشاكل أمنية، ورفعوا التكاليف، وأجار العقارات، واحتلوا وظائف الأتراك، إضافة لمسألة صراع الهوية واللغة والثقافة، وعدم القدرة على السيطرة على الأعداد الكبيرة منهم، ما يخلق ديناميات غير مرئية تؤدي لنتائج ليست بالحسبان أبداً.
تشير آخر المعطيات بالنسبة لعمل السوريين أن هناك 50.2 بالمئة من السوريين يعملون برواتب شهرية، بوظائف دائمة أو عادية، و33.6 بالمئة يعملون بأجر يومي، وأما الأعمال الحرة فتصل نسبتهم إلى 13.7 بالمئة، ويبلغ عدد الشركات السورية الخاصة في تركيا وفقاً لآخر إحصاء حصلنا عليها حوالي 3700 شركة مسجلة، وإذا أضفنا لكل ذلك أن ما لا يقل عن 535 ألف طفل سوري ولدوا في تركيا، وأن هناك 650 ألف طفل سوري في المدارس الحكومية، وأكثر من 33 ألف طالب جامعي، نصل إلى مؤشرات تبرز لنا لماذا يشعر الأتراك بقلق حقيقي فعلاً!
إذ إنه على الرغم من هذه المؤشرات فإن كثيراً من الطلاب السوريين في الجامعات والمدارس يتعرضون لتعليقات، وإزعاجات من الأساتذة، أو الموظفين في الجامعات الذين يتهمونهم بالحصول على المقاعد الجامعية من دون امتحانات قبول، ويصفونهم بالجبناء الذين تخلوا عن واجب الدفاع عن بلادهم، وأشار البعض منهم إلى أنهم كثيراً ما يحاولون إخفاء أنهم سوريون، ويقولون إنهم من «عرب أورفة»، وذلك تجنباً لحالات التمييز ضدهم، واشتكى آخرون أن الجنسيات العربية الأخرى لا تتعرض للتمييز كما يتعرض السوريون.
الخلاصات التي أريد الإشارة إليها في هذه المقالة:
– لقد حفرت حكومة أردوغان حفرة واسعة، ووقعت فيها، وكان تصورها ساذجاً، بأن المقدمات ستؤدي إلى النتائج التي تريدها، ليتحول الأمر إلى ديناميات تجري على الأرض خارج السيطرة، ومنها موضوع الهوية، فاللغة العربية ازداد تعلمها في المناطق الحدودية لأسباب شرحتها سابقاً، وموجة التعريب تتم في هذه المناطق من دون تخطيط من أحد لأن السوريين وجدوا أنفسهم في بيئتهم العربية السورية أصلاً، كما أن العامل المذهبي الطائفي الذي روّج له حزب أردوغان وأتباعه ممن يسمون معارضة سورية، سقط من خلال التفاعل الاجتماعي والاختلاط بين السوريين وإخوتهم الذين اقتطعت جغرافيتهم بقرار استعماري عام 1923 حينما أنشئت الجمهورية التركية.
– إن حالات التمييز والعنصرية التي يواجهها السوريون ستخلق لديهم بالطبع تمسكاً بالهوية واللغة والثقافة، وليس العكس، وهذه الدينامية لا تراها حكومة أردوغان أو تراها، ولا تريد الإفصاح عنها.
– إن عمليات التتريك التي تقوم بها حكومة أردوغان قد يكون لها تأثير نسبي كي نكون موضوعيين، لكن بالمقابل يجب ألا تخيفنا، لأن هناك حركة تعريب تتم بسرعة كبيرة، وقد نبه القوميون الأتراك مؤخراً حكومتهم في دراسة سرية أجراها رئيس بلدية لواء اسكندرون لطفي سواش المنتمي لحزب الشعب الجمهوري، قال فيها باختصار: إن نسبة العرب في لواء اسكندرون هي 65 بالمئة، وبعد قدوم اللاجئين السوريين وصلت إلى 70 بالمئة، وهو ما يعني حسب دراسته أنه بعد عقد من الزمن فإن رئيس بلدية لواء اسكندرون سيكون عربياً سورياً بحكم العامل الديمغرافي، وما لم توجد حلول سريعة فإن الخطر قادم وكبير.
من حقنا أن نقلق من مخططات أردوغان، وحزبه والإخوان، ولكنني أستطيع القول باطمئنان إن السحر انقلب على الساحر، وإن ورقة اللاجئين السوريين تحولت إلى كارثة حقيقية على أردوغان وتركيا، وإلى ورقة سياسية بينه وبين المعارضة التركية، فالأتراك يرونها ثالث أكبر مشكلة بالنسبة لهم.
كذبة المهاجرين والأنصار سقطت، والسوريون الآن تحولوا لخطر داهم على مستقبل تركيا ثقافياً وديمغرافياً، وستجبرهم على الجلوس حول الطاولة مع دمشق شاؤوا أم أبوا، هذا إذ لم نضف للملف عوامل أخرى تحدثنا عنها في مقالات سابقة.
المصدر – الوطن السورية
Discussion about this post