سبق وأن أعلن سفير المهمات الخاصة بالخارجية الروسية بختيار حكيموف، في العام الماضي، بأن “منظمة شنغهاي للتعاون، لا تعتبر نفسهاً نقيضاً لتحالف AUKUS الأمني بين أستراليا وبريطانيا والولايات المتحدة”.
كما نوّه حكيموف، والذي يشغل كذلك منصب المبعوث الخاص للرئيس الروسي لشؤون منظمة شنغهاي للتعاون أنّ “منظمة شنغهاي للتعاون لا تعتبر نفسها بمثابة منظمة تحالفية، وهي لا تضع أمام نفسها مهمة إنشاء هيئات فوق وطنية للتكامل الاقتصادي”، موضحاً أنّ “هذه المنظمة عبارة عن بنية متعددة التخصصات، وهي منظمة تهدف إلى تعزيز الثقة المتبادلة، وتطوير التعاون وضمان الأمن في المنطقة الأوراسية”.
وأكد حينها حكيموف بالقول: “لا نخطط كذلك لوضع منظمة شنغهاي للتعاون، كنقيض لأية منظمات أخرى”.
وجاء هذا الإعلان رداً على الهواجس الأميركية حينها من هذه المنظمة وكذلك التساؤلات حول أهدافها عقب إنشاء تحالف آكوس واتفاق الغواصات النووية.
وبالتالي يبدو أن منظمة شنغهاي للتعاون، لا تشبه غيرها من المنظمات التي ترافقت نشأتها مع الحقبة القديمة وكذلك القوى السائدة في تلك الحقبة ونقصد هنا حقبة الثنائية القطبية، والحرب الباردة، ومن ثمّ القطب الواحد.
وإذا ما أردنا توصيفها فإننا سنجد أنفسنا أمام كيان إقتصادي غير متبلور سياسياً، رغم أنّ الإقتصاد هو الوجه الآخر للسياسة وفي توجهات الدول الخارجية غير أنّ سياسة هذا الكيان لم تتبلور بعد بين أعضائه، خاصة وأنّ هناك صراع دائر حالياً على طول الحدود بأكملها ما بين دولتين ليسا فقط من أعضاء هذا الكيان وإنما من مؤسسيه أيضاً ونقصد هنا طاجيكستان وقرغيزستان، وبالرغم من ذلك شارك رئيسا الدولتين في قمة سمرقند، ما يعني أنّ هذا الكيان لا يفرض أي التزامات على أعضائه، في حين يسمح لهم بالحصول على القليل، دون بذل الكثير من الجهد، على أقل تقدير.
وهنا السؤال الذي يبرز مدى فعالية هذه المنظمة وإن كان لوجودها من داعٍ وفق ما ذكرناه أعلاه فإنّ وجود منظمة شنغهاي للتعاون بالصيغة التي هي عليها الآن والمختلفة عن المنظمات الأخرى فهي ليست دفاعية كالناتو، وليست تجارية كمنظمة التجارة العالمية وليست اقتصادية كمنظمة الاتحاد الأوروبي، بل هي في صيغتها الحالية منظمة للتعاون سواء أكان هذا التعاون سياسي أو إقتصادي أو تنموي وهو الهدف الأسمى لإنشائها في رؤية تنموية شاملة للدول المنطوية تحت لوائها، وهنا يجدر بنا التنويه والإقرار بأنّ هذه الصيغة هي الصيغة الوحيدة والمطلوبة في الحقبة الجديدة التي سترافق النظام العالمي الجديد والذي سبق وأن ذكرنا في مقالات عدّة بأن ما يمر من أحداث في المجتمع الدولي في مرحلة تسمى بالفوضى العالمية إنما هي بالمختصر مراحل طبيعية لإعادة الإصطفافات الدولية وتشكيل التحالفات الجديدة للإنتقال نحو النظام الجديد الذي باتت ملامحه واضحة معنون بالتعددية القطبية ليبدو أنّ منظمة شنغهاي للتعاون منظمة فريدة من نوعها كمنظمة دولية لا يوجد لها مثيل بالفعل فحسب، بل هي أيضاً مطلوبة للضرورات التي كانت سبب نشأتها، ولديها آفاق كبيرة للتطور.
وضرورة وجود هذه المنظمة جاء من “انحطاط” مجمل المؤسسات الدولية سواء أكانت هيئة الأمم المتحدة، أو منظمة حظر الأسلحة الكيميائية، والوكالة الدولية للطاقة الذرية، وحتى في اللجنة الأولمبية الدولية، واحرافها عن مسارها التي نشأت لأجله المعنون بـ”إحلال السلم والأمن الدوليين”، حيث باتت تلك المؤسسات التي كانت نشأتها نتيجة الحقبة السابقة التي ذكرناها أعلاه، باتت جميعها صوتاً أميركياً فقط حيث تسيطر الولايات المتحدة على تلك المؤسسات.
وإذا ما أردنا إصلاحها أو البحث في إصلاح تلك المؤسسات فإنه وعبر التجارب التاريخية فإن نشأة عصبة الأمم جاء نتيجة الحرب الباردة وفشل أداء تلك العصبة تسبب بالحرب العالمية الثانية وبعيد إنتهاء الحرب العالمية الثانية اجتمعت الدول لإيجاد منظمة أكثر مصداقية وصرامة في الحفاظ على الأمن والسلم الدوليين وكانت هيئة الأمم المتحدة وذراعها التنفيذي في مجلس الأمن والذي اختصرت عضويته الدائمة على الدول المنتصرة مع تمتعهم بحق النقض وهو ما أدى إلى ضعف أداء تلك المنظمة وإزدواجية المعايير المستخدمة من قبل الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين في تطبيق القانون الدولي ليبدو وفق التجارب التاريخية أنّ الإصلاح كان نتيجة حرب واسعة ومع تغيير أدوات الحرب وتطور أجيالها حتى باتت في الجيل السادس منها مع دخول عامل العولمة فإنّ ما تشهده المنطقة والعالم هو حرب عالمية ثالثة مترامية البؤر المشتعلة إنما ووفق التجارب التاريخية فإنّ الجغرافية الأوروبية كانت دائماً هي اللحظة الحاسمة في الحرب وفي تأطير التحالفات.
وما تشهده أوكرانيا اليوم ربما سينتقل نحو دول أوروبا الشرقية بحرب واسعة النطاق خاصة إذا ما فُتحت “شهية” بولندا والمجر وبولونيا لاسترجاع أراضيها التاريخية من الجغرافية الحالية لأوكرانيا بعد أن تستعيد روسيا أراضيها التاريخية من تلك الجغرافية وهنا نكون أمام حرب روسية – أوروبية لأنه في حال كان هذا السيناريو فربما لن تقبل روسيا بأقل من استعادة كل أوكرانيا لاتحادها وهي التي كانت جزء لا يتجزأ من أراضيها كما أن ما لم تقبله سابقاً بتهديد أمن حدودها لن تقبله اليوم وهي في مواجهة فُرضت عليها ولن تتراجع في خطواتها حتى تحقيق أهدافها.
في العودة إلى إدراة الرئيس السابق دونالد ترامب الذي عنونت مرحلته بـ”أميركا أولاً” فإننا نلاحظ أنها كانت أيضاً مرحلة الإنسحابات وقد دأبت الإدارة الأميركية على تفكيك جميع المعاهدات الأمنية المقيدة مع روسيا، وكذلك المقيدة لإرادة الإدارة الأميركية كما أنها تبذل جهدها اليوم لإزالة حق النقض من روسيا وكذلك إعطاء حق النقض الذي تتمتع به الصين إلى تايوان، إنما هو إجراء غير قابل للتنفيذ إلا في حال واحدة ظهور منظمة جديدة تضع بنود عملها القوى الجديدة، ولظهور هذه المنظمة كما أسلفنا أعلاه فهناك حرب واسعة النطاق والمنتصر يضع شروطه حينها.
وفي العودة إلى التطورات التي رافقت العملية العسكرية الروسية الخاصة في دونباس وما قامت به الولايات المتحدة وحلفائها من فرض للعقوبات على روسيا والشركات الروسية والتي أنتجت أزمة طاقة عالمية ترافقت مع أزمة غذاء وإرتفاع العجز في اقتصادات تلك الدول التي تدور في الفلك الأميركي بعد أن أمركة سياساتها دون النظر إلى مصالحها ومصالح شعوبها، وتوجّه بعض الدول إلى تغيير تلك السياسات الأميركية والإلتفات لمصالحها بعيداً عن المصلحة الأميركية فبات واضحاً إنقسام العالم ما بين الشرق والغرب، وما بين روسيا والصين من جهة والولايات المتحدة وبريطانيا من جهة أخرى وانعكس هذا الإنقسام على النظام الحالي للمؤسسات الدولية التي باتت أقسام فرعية للجهاز الإداري للولايات المتحدة الأمريكية، الأمر الذي أدى إلى زيادة الطلب لإنشاء نظام جديد من المنظمات الدولية وباتت الحاجة ملحّة لإنشاء منظمات يكون فيها لجميع المشاركين الحق في التصويت مغايرة للحالية التي تعمل وفق الإملاءات الأميركية.
وفي العودة إلى موضوع “منظمة شنغهاي للتعاون” فإنه لا يمكن تسميتها بالكتلة، حيث أنها تضم دول متنافسة مع بعضها البعض كما ذكرنا سابقاً، وما يمكن أن نطلقه عليها بأنها منظمة شبيهة بـ”الأمم المتحدة” إنما في “أوراسيا”، يعني ربما نسميها “أمم أوراسية متحدة” فهي كما منظمة الأمم المتحدة منبراً للحوار بين دول ذات سيادة، ويمكن من خلال الحوار فيها تطوير حلول وسطية.
كما أنّ وجود أطراف متصارعة وهي في الوقت نفسه متعاونة، وهو أمر ذو أهمية باعتبار أنه يمثل ضمانة لغياب احتكار الرأي في اتخاذ القرارات ومن هذه الدول (الهند والصين، وروسيا وتركيا، قرغيزستان وطاجيكستان)، وربما لن تقتصر هذه المنظمة على أوراسيا بل ستضم مستقبلاً دول أفريقية إنما من المستبعد أن تضم الولايات المتحدة وحلفاءها الرئيسيين، العيدين كل البعد عن مفهوم “التعاون” وسيطرة مفهوم “الهيمنة” على سياساتهم المصلحية.
وبالتالي ووفق ما فندناه فإن “منظمة شنغهاي للتعاون” ستصبح الأمم المتحدة المستقبلية، أو منظمة عالمية توحد غالبية البشرية، مع وظائف الأمم المتحدة الحالية. وهنا نستطيع أن نقول بأنّ توسعها هو أمر حتمي، وستكون سورية وباقي الدول العربية هي الدول المرشحة للمشاركة في الموجة المقبلة من التوسع. حيث أنّ انضمام جمهورية إيران الإسلامية إلى المنظمة يعتبر مؤشّراً لتغيير في ميزان القوى العالمي، فمن المعروف أنّ السعي إلى صداقة من يمتلك القوة ويكتسبها، سواء كانت القوة مالية أو اقتصادية أو عسكرية أو سياسية أو ثقافية. فإنّ هذا المسعى يكون انطلاقاً من مبدأ يقول بأنّ من يمتلك القوة يمكن أن يساعد في إدارة الأزمات الحالية والمستقبلية.
وقد أكدت قمة سمرقند هذا المبدأ العام، حيث شدد الحاضرون بأنهم لا يخشون التهديدات والعقوبات الأميركية – الغربية، وأكدوا أنهم لا يربطون مصالحهم الحالية والطويلة الأجل بالولايات المتحدة وحلفائها، ناهيك عن أنّهم لم يدعموا مواجهة الصين وروسيا.
بالإضافة إلى ذلك، في قمة منظمة شنغهاي للتعاون، لم يكتف زعيما روسيا والصين بتسمية العلاقات الروسية الصينية الحالية تحالف استراتيجي، ولطالما كان هذا التحالف بمثابة كابوسا مؤرقاً “لقيادة العولمة” الأميركية، إنما أعلن الرئيس الصيني عن الاستعداد لشغل هذا الموقع. وهذا يعني تشكيل كتلة دول بقيادة الصين وروسيا، تكتسب مزيداً من السمات الواضحة، ضدّ السياسات الأميركية والغربية المصلحية.
وكنا قد ذكرنا في مقال سابق عن جيوبولتيك الصراع على الطاقة واعتبار القوة الروسية – الصينية قوة مشتركة بشقيها البري والبحري مشكلة الجزء الطبيعي من أوراسيا واعتبار أنّ هذه الطبيعة المزدوجة للقوة الروسية – الصينية المستمدة من جغرافية كلا البلدين هي التي مكنتهما من تحدي الولايات المتحدة والغرب سواء في البر أو البحر مع تركيز استراتيجية منظمة شنغهاي للتعاون على تمكين توسعها في آسيا الوسطى (قلب العالم) وصولاً إلى الخليج والمتوسط (قلب العالم الجديد)وشرق أوروبا وهذا ما دفع الصين لإحياء طريق الحرير التاريخي عبر مشروع “الحزام والطريق” ولم يكن التقارب الروسي – الصيني حصيلة ليلة وضحاها بل إنهما عملتا معاً بشكل مكثّف طيلة العقدين الماضيين لبناء نفوذ قوي في أفريقيا وليس فقط في الشرق الأوسط.
سماهر عبدو الخطيب – كاتبة صحافية وباحثة في العلاقات الدولية والدبلوماسية
Discussion about this post