بدايةٌ أقلّ ما يقال عنها “كارثية” للجمهوريين في مجلس النواب الأميركي، بعد “مخاضٍ عسير” لاختيار رئيس للمجلس، رغم أغلبية المقاعد التي حصدوها في الانتخابات الأخيرة. كشفت الحادثة التي لم تحصل منذ قرن، شدّة الخلافات بين الأحزاب التقليدية في الولايات المتحدة، والتي لم تعد تقتصر على التراشق السياسي بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي، بل امتدت لتشمل تيارات الحزب الواحد بين جمهوري-جمهوري، وديمقراطي–ديمقراطي، مع بروز تيارات مختلفة بمصالح متضاربة تتوزع على مجموعات ضغط.
نجح الجمهوريون أخيراً في الجلسة رقم 15، بانتخاب كيفن مكارثي رئيساً لمجلس النواب بعد عمليةٌ استمرت على مدار 4 أيام، وشهدت مماطلات، واتّهامات وشتائم بين الجمهوريين أنفسهم. فبدلاً من الدخول في مواجهة مع “البيت الأبيض”، بدأت تيارات الحزب “تأكل بعضها البعض”، وفق ما تصف صحيفة ” لوتان” الفرنسية.
“مخاض عسير” قبل الفوز
“لا تحوّلوا انتصاراً عظيماً إلى هزيمةٍ كبيرة ومحرجة”، رسالةٌ بعثها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب قبل أيام، لحثّ أعضاء حزبه على الوقوف خلف مكارثي، في محاولةٍ منه لتوحيد صفوف الحزب، لكنّ الاستماع إلى رسالته لم يكن بالسهولة التي توقّعها الأخير.
218 صوتاً من أصل 223 للجمهوريين في المجلس، كان يريدهم مكارثي للفوز برئاسة النواب من الجلسة الأولى، إلا أن الخلافات حالت دون ذلك. وفي الجولة الـ15، تمكّن مكارثي من أخذ مطرقة نانسي بيلوسي، بعد حصوله على 216 صوتاً أهلّته للفوز. صوّت لصالحه بعض معارضيه من كتلة الحرية في الحزب الجمهوري، بينما أبطل آخرون أصواتهم لتنخفض عتبة الفوز إلى 216 بدلاً من 218.
وفي مقارنةٍ سريعة للأصوات التي حصل عليها خلال الجلسات السابقة، هناك 21 جمهورياً صوتوا ضدّه، علماً أنّ اعتراض 5 نواب فقط من حزبه كان يكفي لمنع انتخابه، وهو ما يكشف حجم الخلاف العاصف بالحزب الجمهوري.
وبالعودة إلى أسباب الخلاف بين الجمهوريين حيال مكارثي، لا بد من الرجوع إلى ما بعد الهجوم على مبنى الكابيتول في السادس من يناير/كانون الثاني 2021. موقف الأخير الداعي إلى استقالة ترامب، كان “القشّة التي قصمت ظهر الحزب”، رغم تبدّل موقف الأخير، ودعمه لترامب في العديد من الملفات لاحقاً.
يأخذ هذا الفريق على مكارثي أنّه لا يؤمن بشيء وليست لديه أيديولوجيا. نائب فلوريدا مات غايتس انتقده بكونه محسوباً على شركات التكنولوجيا، ولا يريد أي تشريع يحدّ من سلطاتها. وأشار غايتس إلى أنّ مكارثي، أحد كبار الجمهوريين، يصدّق مزاعم التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية التي فاز بها ترامب، كما صوّت بشكلٍ أعمى لحزم المساعدات العسكرية الموجهة لأوكرانيا.
“إغراءات للفوز”
يعلم الجمهوريون جيداً، أنّ المماطلة في انتخاب رئيس للمجلس، ستكون لها انعكاسات خطيرة على البلاد التي تعاني من مشاكل سياسية واقتصادية واجتماعية. ومن دون انتخاب للرئيس، لا يمكن للنواب أن يؤدّوا اليمين، وبالتالي لن يقرّوا أيّ مشروع قانون في البلاد. وبرغم ذلك، حاول فريقٌ من المعارضيين في الكتلة المحافظة بالحزب – بعد خيبة الأمل التي أصيب بها الحزب في الانتخابات النصفية بحدوث “موجة حمراء” يسيطر بها على مجلسي الكونغرس- اغتنام الفرصة لتحقيق مكاسب لطالما سعوا إليها منذ أشهر.
إغراءات سياسية عديدة قدّمها مكارثي مقابل حصد الدعم. ومن ضمن ذلك، وعدٌ بعدم دعم المرشحين من الصناديق المالية التابعة له، في الانتخابات التمهيدية الجمهورية ذات المقاعد المفتوحة في بعض المناطق، وفق ما كشفت وسائل إعلام أميركية.
وعرض مكارثي أيضاً تغييرات على قواعد مجلس النواب، من شأنها أن تسمح لعضو واحد بفرض التصويت على عزل رئيس مجلس النواب، إضافةً إلى موافقته على وضع أعضاء من كتلة الحرية في اللجان الرئيسية، بما في ذلك لجنة القواعد.
الديمقراطيون “يشمتون”
في مقابل التراشق الكلامي بين أعضاء الحزب الواحد، ووصف نائب فلوريدا مات غايتس لمكارثي ” بالتمساح”، وجد الحزب الديمقراطي في الخلاف الجمهوري مساحةً للسخرية. هذه الانقسامات وصفها العضو الديمقراطي حكيم جيفريز ساخراً “بالنميمة وطعنات في الظهر”، داعياً الجمهوريين “إلى التوقف عن ذلك، لكي يتمكن حزبه من العمل في خدمة الشعب”. من جهته، رأى زعيم الغالبية في مجلس الشيوخ تشاك شومر، أنّ “الهرج والمرج الذي تسبب به النواب الجمهوريون هذا الأسبوع، ليس سوى مثال آخر على دفع الجناح المتطرف لحزبهم بقيادة الرافضين لنتائج الانتخابات، نحو مزيدٍ من الفوضى”.
شراسة المعركة الانتخابية الرئاسية المقبلة
تُبرز الانقسامات الواضحة داخل الأحزاب التقليدية وفيما بينها، حجم الشراسة التي ستشهدها معركة الانتخابات الرئاسة المقبلة، وخاصة بين أعضاء الحزب الواحد. “فالفشل المتكرر والمهين في انتخاب مكارثي”، يمثل وفق صحيفة “الفايننشال تايمز” “خطراً وجودياً” على الحزب الجمهوري، واصفةً ما يجري “بالانحدار الوظيفي للجمهوريين”.
وبالعودة إلى الخلف قليلاً، يلحظ جيداً كيف أخفق الجمهوريون في السيطرة على الكونغرس في الانتخابات النصفية، نتيجة الخلافات القائمة فيما بينهم. ووفقاً لعدد من المسؤولين السابقين في البيت الأبيض، فإنّ أهم أسباب الفشل “تعود إلى سوء التقدير الاستراتيجي وسوء قراءة لاستطلاعات الرأي والاقتتال الداخلي والمناورات من وراء الكواليس”. وهو ما يعني أن هناك احتمالاً لتكرار السيناريو في الانتخابات الرئاسية المقبلة 2024.
وفي هذا السياق، يقول موقع أكسيوس” الأميركي نقلاً عن عددٍ من المشرعين الأميركيين: “الجميع يريد أن يكون القائد”، عازياً ما يشهده الحزب من إخفاقات متكررة إلى “تعقيدات المحافظين المعاصرين، وتضاؤل القوة القيادية للجمهوريين”.
أرقام استطلاعات الرأي، والتي أظهرت خلافاً بين الجمهوريين على من سيتزعم الحزب في المرحلة المقبلة، ترجّح فرضية أن تشهد المعركة الرئاسية المقبلة المزيد من الخلافات. ووفقاً لاستطلاع أجرته شركة “yougov”، هناك 42 % من الجمهوريين، والمستقلين ذوي الميول الجمهورية، الذين يفضّلون على ترامب، رون دي سانتيس، وهو حاكم ولاية فلوريدا”. وهو الأمر الذي يدركه ترامب، ما استدعاه إلى تحذير دي سانتيس من خوض الانتخابات، قائلاً: “سيؤذي نفسه بشدة”.
هذه نبذةٌ عن الخلافات بين الجمهوريين، ولكنّها بطبيعة الحال لا تقلّ أهمّية عن تلك التي تعصف بالديمقراطيين أيضاً. الأخير يشهد صراعات وانقسامات كان أحدثها خلافٌ بشأن قدرة بايدن على الترشح مرّة ثانية. وبحسب الاستطلاع الذي أجرته شبكة CNN قبل أشهر، فإنّ 75% من الديمقراطيين ضدّ ترشحه مجدداً للرئاسة.
وفي تقرير يكشف الخلاف القائم، يورد موقع “THE HILL” الأميركي أنّ “الحزب الديمقراطي يتعرّض لأزمة توجهات في السياسات الداخلية، وذلك عقب بروز خلافات بين تيار تقدمي جديد، والتيار البراغماتي القديم، الأمر الّذي ينذر بانشقاق داخل صفوفه”.
وبالتوازي مع الانقسامات الحادة التي تشهدها الأحزاب التقليدية، توضح المؤشرات تبدّلاً في المزاج الشعبي العام، من مدافع شرس عنها إلى رافض لسياساتها على الصعيد الداخلي والخارجي. وأظهر استطلاع رأي أجرته جامعة “سوفولك” و”USA Today”، ونشرته صحيفة “نيويورك بوست”، أنّ غالبية الأميركيين يريدون رئيساً عمره أقل من 65 عاماً، ويرفضون ترشح ترامب وبايدن مجدداً، ما يكشف حجم المأزق الذي تتعرض له هذه الأحزاب، والذي يهدد وجودها.
وهو ما يعيد إلى الواجهة التنبؤات العشرة التي أطلقها ديمتري ميدفيديف نائب الرئيس الروسي وتوقع حدوثها في العام الميلادي الجديد، وأبرزها تفكك الولايات المتحدة، وتفاقم أزماتها الداخلية، ومدى احتمالية تحققها؟
Discussion about this post